60- لا تُصرف الزكاة المفروضة إلا للذين لا يجدون ما يكفيهم ، والمرضى الذين لا يستطيعون كسباً ولا مال لهم ، والذين يجمعونها ويعملون فيها ، والذين تؤلف قلوبهم ، لأنهم يرجى منهم الإسلام والانتفاع بهم في خدمته ونصرته ، والذين يدعون إلى الإسلام ويبشرون به ، وفي عتق رقاب الأرقاء والأسرى من ربقة العبودية وذل الأسر ، وفي قضاء الديون عن المدينين العاجزين عن الأداء ، إذا لم تكن ناشئة عن إثم أو ظلم أو سفه ، وفي إمداد الغزاة بما يعينهم على الجهاد في سبيل الله ، وما يتصل بذلك من طريق الخير ووجوه البر ، وفي عون المسافرين إذا انقطعت أسباب اتصالهم بأموالهم وأهليهم . شرع الله ذلك فريضة منه لمصلحة عباده ، والله سبحانه عليم بمصالح خلقه ، حكيم فيما يشرع{[84]} .
قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } الآية ، بين الله تعال في هذه الآية أهل سهمان الصدقات وجعلها لثمانية أصناف . وروي عن زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتاه رجل وقال : أعطني من الصدقة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزاها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك " . قوله تعالى { للفقراء والمساكين } . فأخذ أصناف الصدقة : الفقراء ، والثاني : المساكين . واختلف العلماء في صفة الفقير والمسكين ، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة والزهري : الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين : الذي يسأل . وقال ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ، ولكن من أنقى نفسه وثيابه لا يقدر على شيء ، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف . وقال قتادة ، الفقير : المحتاج الزمن ، والمسكين : الصحيح المحتاج . وروي عن عكرمة أنه قال : الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الكتاب . وقال الشافعي : الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا ، زمنا كان أو غير زمن ، والمسكين من كان له مال أو حرفة ولا يغنيه ، سائلا أو غير سائل . فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير لأن الله تعالى قال : { أما السفينة فكانت لمساكين } [ الكهف79 ] أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة . وعند أصحاب الرأي : الفقير أحسن حالا من المسكين . وقال القتيبي : الفقير : الذي له البلغة من العيش ، والمسكين : الذي لا شيء له . وقيل : الفقير من له المسكن والخادم ، والمسكين من لا ملك له . وقالوا : كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره ، قال الله تعالى : { أنتم الفقراء إلى الله } [ غافر-15 ] ، والمسكين المحتاج إلى كل شيء ألا ترى كيف حض على إطعامه ، وجعل طعام الكفارة له ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة . وقال إبراهيم النخعي : الفقراء هم المهاجرون ، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين . وفى الجملة : الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال ، فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره ، والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا سفيان بن عيينة عن هشام ، يعنى : ابن عروة ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار : أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله فسألاه عن الصدقة فصعد فيهما وصوب ، فقال : " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب " . واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة : فقال الأكثرون : حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة ، وهو قول مالك والشافعي . وقال أصحاب الرأي : حده أن يملك مائتي درهم . وقال قوم : من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة ، لما روينا عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح ، قيل : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب " ، وهو قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق . وقالوا لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما . وقيل : أربعون درهما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا " . قوله تعالى : { والعاملين عليها } . وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها ، فيعطون من مال الصدقة ، فقراء كانوا أم أغنياء ، فيعطون أجر مثل عملهم . وقال الضحاك و مجاهد : لهم الثمن من الصدقة . { والمؤلفة قلوبهم } ، فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم : المؤلفة قلوبهم ، وهم قسمان : قسم مسلمون ، وقسم كفار . فأما المسلمون : فقسمان ، قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه تألفا كما أعطى عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس ، والعباس بن مرداس أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام ، وهم شرفاء في قومهم مثل : عدي بن حاتم ، والزبرقان بن بدر ، فكان يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم في الإسلام ، فهؤلاء يجوز للإمام أن يعطيهم من خمس خمس الغنيمة ، والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الصدقات . والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين : أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع متناء ، لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة كثيرة وهم لا يجاهدون ، إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم ، فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة . وقيل : من سهم المؤلفة . ومنهم قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى الإمام ، فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات . وقيل : من سهم سبيل الله . روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر الصديق بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا . وأما الكفار من المؤلفة : فهم من يخشى شره منهم ، أو يرجى إسلامه ، فيريد الإمام أن يعطي هذا حذرا من شره ، أو يعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس ، كما أعطى صفوان بن أمية لما يرى من ميله إلى الإسلام ، أما اليوم فقد أعز الله الإسلام فله الحمد ، وأغناه أن يتألف عليه رجال ، فلا يعطى مشرك تألفا بحال ، وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط . روي ذلك عن عكرمة ، وهو قول الشعبي ، وبه قال مالك و الثوري ، وأصحاب الرأي ، و إسحاق بن راهوية . وقال قوم : سهمهم ثابت ، يروى ذلك عن الحسن ، وهو قول الزهري ، و أبي جعفر محمد بن علي ، و أبي ثور ، وقال أحمد : يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك . قوله تعالى : { وفي الرقاب } ، والصنف الخامس : وهم الرقاب ، وهم المكاتبون ، لهم سهم من الصدقة ، هذا قول أكثر الفقهاء ، وبه قال سعيد بن جبير ، و النخعي ، و الزهري ، و الليث بن سعد ، و الشافعي . وقال جماعة : يشترى بسهم الرقاب عبيد فيعتقون . وهذا قول الحسن ، وبه قال مالك و أحمد و إسحاق . قوله تعالى : { والغارمين } ، الصنف السادس هم : الغارمون ، وهم قسمان : قسم دانوا لأنفسهم في غير معصيته ، فإنهم يعطون من الصدقة إذا لم لكن لهم من المال ما يفي بديونهم ، فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون ، وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فإنهم يعطون من مال الصدقة ما يقضون به ديونهم ، وإن كانوا أغنياء .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك بن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المساكين فأهدى المسكين للغني ، أو لعامل عليها " . ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بمعناه . أما من كان دينه في معصية فلا يدفع إليه . وقوله تعالى : { وفي سبيل الله } ، أراد بها : الغزاة ، فلهم سهم من الصدقة ، يعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ، وما يستعينون به على أمر الغزو من : النفقة ، والكسوة ، والسلاح ، والحمولة ، وإن كانوا أغنياء ، ولا يعطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم . وقال قوم : يجوز أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج . ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وأحمد ، وإسحاق . قوله تعالى : { وابن السبيل } ، الصنف الثامن : هم أبناء السبيل ، فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يعطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة ، سواء كان له في البلد المتنقل إليه مال أو لم يكن . وقال قتادة : ابن السبيل هو الضيف . وقال فقهاء العراف : ابن السبيل الحاج المنقطع . قوله تعالى : { فريضة } أي : واجبة { من الله } ، وهو نصب على القطع ، وقيل : على المصدر ، أي : فرض الله هذه الأشياء فريضة . { والله عليم حكيم } . اختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات ، وفي جواز صرفها إلى بعض الأصناف : فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف ، وهو قول عكرمة ، وبه قال الشافعي ، قال : يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف الستة ، الذين سهمانهم ثابتة قسمة على السواء ، لأن سهم المؤلفة ساقط ، وسهم العامل إذا قسم بنفسه ، ثم حصة كل صنف منهم لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منهم ثلاثة أو أكثر ، فلو فاوت بين أولئك الثلاث ، يجوز ، فإن لم يوجد من بعض الأصناف إلا واحدا صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن حد الاستحقاق ، فإن انتهت حاجته وفضل شيء رده إلى الباقين . وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف ، أو إلى شخص واحد منهم يجوز ، وإنما سمى الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف ، لا إيجابا لقسمها بينهم جميعا . وهو قول عمر ، وابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء ، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي ، وبه قال أحمد ، قال : يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى . وقال إبراهيم : إن كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف ، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد . وقال مالك : يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة ، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم ، وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم . وكل من دفع إليه شيء من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق ، فلا يزيد الفقير على قدر غناه ، فإذا حصل أدنى اسم الغنى لا يعطى بعده ، فإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته : يعطى قدر ما يحصل به آلة حرفته ، ولا يزاد العامل على أجر علمه ، والمكاتب على قدر ما يعتق به . وللغريم على قدر دينه ، وللغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسلاح ، ولابن السبيل على قدر إتيانه مقصده أو ماله . واختلفوا في نقل الصدقة عن بلد المال إلى موضع آخر ، مع وجود المستحقين فيه : فكرهه أكثر أهل العلم ، لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، ثنا أبو عيسى الترمذي ، ثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، ثنا زكريا بن إسحاق المكي ، ثنا يحيى بن عبد الله بن الصيفي عن أبي معبد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال : " إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " . فهذا يدل على أنه صدقة أغنياء كل قوم ترد على فقراء ذلك القوم . واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر أدي مع الكراهة ، وسقط الفرض عن ذمته ، إلا ما حكى عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان .
قال الإِمام ابن كثير . لما ذكر الله - تعالى - اعتراض المنافقين الجهلة على النبى - صلى الله عليه وسلم - ولمزهم إياه في قسم الصدقات . بين - سبحانه - أنه هو الذي قسمها ، وبين حكمها ، وتولى أمرها بنفسه ، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين ، كما رواه أبو داود في سنته عن زيادة بن الحارث الصدائى قال . أتين النبى - صلى الله عليه وسلم - فبايعته .
فأتى رجل فقال . أعطنى من الصدقة فقال له . " إن الله لم يرض بحكم نبى ولا غيره . في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أصناف ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك .
والمراد بالصدقات هنا - عند كثير من العلماء - الزكاة المفروضة .
ولفظ الصدقات . مبتدأ . والخبر محذوف ، والتقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء والمساكين . . إلخ .
والفقراء . جمع فقير ، وهو من له أدنى شئ من المال . أو هو من لا يملك المال الذي يقوم بحاجاته الضرورية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن .
يقال فقر الرجل - من باب تعب - إذا قل ماله .
قالوا : وأصل الفقير في اللغة : الشخص الذي كسر فقار ظهره ، ثم استعمل فيمن قل ماله لانكساره بسبب احتياجه إلى غيره .
أو هو من الفقرة بمعنى الحفرة ، ثم استعمل فيما ذكر لكونه أدنى حالا من اكثر الناس ، كما أن الحفرة أدنى من مستوى سطح الأرض المستوية .
والمساكين : جمع مسكين ، وهو من لا شئ له ، فيحتاج إلى سؤال الناس لسد حاجاته ومطالب حياته .
وهو مأخوذ من السكون الذي هو ضد الحركة ، لأن احتياجه إلى غيره أسكنه وأذله .
وقيل : المسكين هو الذي مال أو كسب ولكنه لا يكفيه ، وعلى هذا يكون قريب الشبه بالفقير .
وقوله : { والعاملين عَلَيْهَا } بيان للصنف الثالث من الأصناف الذين تجب لهم الزكاة .
والمارد بهم . من كلفهم الإِمام بجمع الزكاة وتحصيلها ممن يملكون نصابها .
ويدخل فيهم العريف ، والحاسب ، والكاتب ، وحافظ المال ، وكل من كلفه الإِمام أو نائبه بعمل يتعلق بجمع الزكاة او حفظها ، أو توزيعها .
وقوله . { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } بيان للصنف الرابع .
والمراد بهم الأشخاص الذين يرى الإِمام دفع شئ من الزكاة إليهم تأليفاً لقلوبهم ، واستمالة لنفوسهم نحو الإِسلام ، لكف شرهم ، أو لرجاء نفعهم ، وهم أنواع :
منهم قوم من الكفار ، كصفوان بن أمية ، فقد أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين ، وكان صفوان يومئذ كافراً ، ثم أسلم وقال : والله لقد أعطانى النبى - صلى الله عليه وسلم - وكان أبغض الناس إلى ، فما زال يعطينى . حتى أسلمت وإنه لأحب الناس إلى .
ومنهم قوم كانوا حديثى عهد بالإِسلام وكانوا من ذوى الشرف في أقوامهم فكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعطيهم ، ليثبت إيمانهم ، وليدخل معهم في الإِسلام أتباعهم .
ومن أمثلة ذلك ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، والزبرقان بن بدر ، فقد أعطاهم - صلى الله عليه وسلم - لمكانتهم في عشيرتهم ، ولشرفهم في أقوامهم . وليدخل معهم في الإِسلام غيرهم .
ومن أمثلة هذا الصنف العباس من مرداس السملى ، فقد أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - تأليفاً لقلبه ، وتثبيتاً لإِيمانه .
والخلاصة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يتألف قلوب بعض الناس بالعطاء ، دفعاً لشرهم ، أو أملا في نفعهم ، أو رجاء هدايتهم .
وقوله : { وَفِي الرقاب } بيان لنوع خامس من مصارف الزكاة . وفى الكلام مجاز بالحذف ، والتقدير : وتصرف الصدقات أيضا في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشئ منها علىأداء بدل الكتابة ؛ لكن يصروا أحراً . أو بأن يشترى بجز منها عدداً من العبيد لكى يعتقوا من الرق .
وذلك لأن الإِسلام يجب أتباعه في عتق الرقاب ، وفى مساعدة الأرقاء على أن يصيروا أحراراً .
وقوله : { والغارمين } من الغرم بمعنى الملازمة للشئ ومنه قوله . تعالى : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أى : عذاب جهنم كان ملازماً لأهلها من الكافرين .
والمراد بالغارمين : من لزمتهم الديون في غير مصعية لله ، ولا يجدون المال الذي يدفعونه لدائنيهم ، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على سداد ديونهم .
وقوله : { وَفِي سَبِيلِ الله } بيان لنوع سابع من مصارف الزكاة .
والسبيل : الطريق الذي فيه سهولة ، وجمعه سبل . وأضيف إلى الله تعالى للإِشارة إلى أنه هو السبيل الحق الذي لا يحرم حوله باطل ، وهو الذي يوصل السائر فيه إلى مرضاة الله ومثوبته .
أى : وتصرف الصدقات في سبيل الله ، يدفع جزء منها لمساعدة المجاهدين والغزاة والفقراء الذين خرجوا لإِعلاء كلمة الله .
قال بعض العلماء ما ملخصه : قال أبو حنيفة ومالك والشافعى . يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة . . لأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله هو الغزو ، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم كذلك .
وقال الإِمام أحمد : يجوز صرف سبيل الله إلى مريد الحج .
وقال بعضهم : يجوز صرف سبيل الله إلى طلبة العلم .
وفسره بعضهم بجميع القربات . فيخل فيه جميع الخير ، مثل تكفين الموتى ، وبناء القناطر ، والحصون ، وعمارة المساجد { وَفِي سَبِيلِ الله } عام في الكل . .
وقوله : { وابن السبيل } بيان للصنف الثامن والأخير من الأصناف الذين هم مصارف الزكاة .
والمراد بابن السبيل : المسافر المنقطع عن ماله في سفره . ولو كان غنياً في بلده ، فيعطى من الزكاة ما يساعده على بلوغ موطنه .
وقد اشترط العلماء لابن السبيل الذي يعطى من الصدقة ، أن يكون سفره في غير معصية الله . فإن كان في معصية لم يعط : لأن إعطاءه يعتبر إعانة له على المصعية ، وهذا لا يجوز .
وقد ألحقوا بابن السبيلن كل من غاب من ماله ، ولو كان في بلده .
وقوله . فريضة من الله ، منصوب بفعل مقر أى : فرض الله لهم هذه الصدقات فريضة ، فلا يصح لكم أن تبخلوا بها عنهم ، أو تتكاسلوا في إعطائها لمستحقيها .
فالجملة الكريمة زجر للمخاطبين عن مخالفة أحكامه . سبحانه .
وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } تذييل قصد به بيان الحكمة من فرضية الزكاة .
اى : والله - تعالى - عليم بأحوال عباده ، ولا تخفى عليه خافية من تصرفاتهم ، حكيم في كل أوامره ونواهيه ، فعليكم . أيها المؤمنون أن تأتمروا بأوامره ، وأن تنتهوا عن نواهيه لتنالوا رضاه .
هذا ، من الأحكام والآداب التي أخذها العماء من هذه الآية ما يأتى :
1- أن المراد بالصدقات هنا ما يتناول الزكاة المفروضة وغيرها من الصدقات المندوبة ، وذلك لأن اللفظ عام فيشمل كل صدقة سواء أكانت واجبة أم مندوبة ، ولأن لفظ الصدقة في عرف الشرع وفى صدر الإِسلام ، كان يشمل الزكاة المفروضة ، والصدقة المندوبة ، ويؤيده قوله - تعالى - : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ومن العلماء من يرى أن المراد بالصدقات في الآية : الزكاة المفروضة ، لأن ( أل ) في الصدقات للعهد الذكرى والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار إليها القرآن . بقوله قبيل هذه الآية . { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } ولأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية كبناء المساجد والمدارس .
ويبدو لنا أن لفظ الصدقات في الآية عام بحيث يتناول كل صدقة ، إلا أن الزكاة المفروضة تدخل فيه دخولا أوليا .
2- قال بعض العلماء : ظاهر الآية يقضى بالقسمة بين الثمانية الأصناف ، ويؤيد هذا وجهان .
الأول . ما يقتضيه اللفظ اللغوى ، إن قلنا . الواو للجمع والتشريك .
والثانى : ما رواه أبو داود في سنته من قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لم يرض بحكم نبى ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأ ثمانية أجزاء " .
وقد ذهب إلى هذا الشافعى وعكرمة والزهرى ، إلا إن استغنى أحدهما فتدفع إلى الآخرين بلا خلاف .
وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد . منهم عمر وابن عباس وعطاء وابن جبير ومالك وأبو حنيفة .
قال في التهذيب : وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر بوجوه :
الأول : أن الله - تعالى - قال في سورة البقرة : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها .
الثانى : الخبر ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : " أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم " .
الثالث : حديث سلمة بن صخر . فإنه - صلى الله عليه وسلم - جعل له صدقة بنى زريق .
الرابع : أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه .
3- يرى جمهور العلماء أن الفقراء والمساكين صنفان من مصارف الزكاة لأن الله . - تعالى - قد ذكر كل صنف منهما على حدة ، إلا أنهم اختلفوا في أيهما أسوأ حالا من الآخر . فالشافعية يرون أن الفقير أسوأ حلالا من المسكين .
ومن أدلتهم على ذلك ، أن الله . تعالى . بدأت في الآية بالفقراء ، وهذا البدء ، يشير إلى أنهم أشد حاجة من غيرهم ، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم .
ولأن لفظ الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره : فلا يستطيع التكسب ، ومعلوم أنه لا حال في الاقلال والبؤس آكد من هذه الحال .
ولأن الله . تعالى . وصف بالمسكنة من كانت له سفينة من سفن البحر فقال : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر } أما الأحناف والمالكية فيرون أن المسكين أسوأ حالا من الفقير .
ومن أدلتهم على ذلك : أن علماء اللغة عرفوا المسكين بأنه أسوأ حالا من الفقير ، وإلى هذا ذهب يعقوب بن السكيت ، والقتبى ، ويونس بن حيبيب .
ولأن الله - تعالى - وصف المسكين وصفا يدل على البؤس وصفاً يدل على البؤس والفاقة فقال : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } أى : مسكيناً ذا حاجة شديدة ، حتى لكأنه قد لصق بالتارب من شدة الفاقة ، ولم يصف الفقير بذلك . .
قال بعض العلماء : وأنت إذا تأملت أدلة الطرفين وجدت أنها متعارضة ومحل نظر ، وأياما كان فقد اتفق الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان .
وروى عن ابى يوسف ومحمد أنهما صنف واحد واختاره الجبائى ، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم . وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ؛ فمن قال إنهما صنف واحد جعل لفلان نصف الموصى به ، ومن قال إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك .
4- ظاهر الآية يدل على أن الزكاة يتجوز دفعها لكل من يشكله اسم الفقير والمسكين ، إلا أن هذا الظاهر غير مراد ؛ لأن الأحاديث الصحيحة قد قيدت هذا الإِطلاق .
قال القرطبى : اعلم أن قوله - تعالى - : { لِلْفُقَرَآءِ } مطلق ليس فيه شرط وتقييد ، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء ، سواء أكانوا من بنى هاشم أو من غيرهم ، إلاأن السنة وردت باعتبار شروط ، منها : ألا يكونوا من بنى هاشم ، وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق نفقته ، وهذا لا خلاف فيه .
وشرط ثالث ألا يكن قوياً على الاكتساب ؛ لأنه - سبحانه - قال : " لا تحل الصدقة لغنى ، ولا لذى مرة سوى " .
ولا خلاف بين علماء المسلمين في أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولا لنبى هاشم ولا لمواليهم . .
وكذلك لا يصح أن تعطى لغير المسلمين ، ففى الصحيحين عن ابن عباس - رضى الله عنهما -
" أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال معاذ حين بعثه إلى ايمن : " أعلمهم أنعليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " فاقتضى ذلك أن الصدقة مقصورة على فقراء المسلمين .
إلا أنه نقل عن أبى حنيفة جواز دفع صدقة الفطر إلى الذمى .
5- أخذ بعض العلماء من قوله - تعالى { والعاملين عَلَيْهَا } أنه يجب على الإِمام أن يرسل من يراه أهلا لجمع الزكاة ممن تجب عليهم .
وقد تأكد هذا الوجوب بفعل النبى - صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في أحاديث متعددة أنه أرسل بعض الصحابة لجمع الزكاة .
روى البخارى عن أبى حميد الساعدى قال : استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللتبية ، فلما جاء حاسبه .
6- أخذ بعض العلماء - أيضاً - من قوله - تعالى - { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } أن حكمهم باق ، لأنهم قد ذكروا من بين مصارف الزكاة ، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاهم ، فيعطون عند الحاجة .
قال الإِمام القرطبى ما ملخصه : واختلف العلماء في بقاء المؤلفة قلوبهم .
فقال عمر والحسن والشعبى وغيرهم : انقطع هذا الصنف بعز الإِسلام وظهوره .
وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأى .
قال بعض علماء الحنفية . لما أعز الإِسلام وأهله ، أجمع الصحابة في خلافة أبى بكر على سقوط سهمهم .
وقال جماعة من العلماء : هم باقون لأن الإِمام ربما احتاج أن يستألف على الإِسلام وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين .
وقال ابن العربى . الذي عندى أنه إن قوى الإِسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيهم ، فإن في الصحيح " بدأ الإِسلام غريباً وسيعود كما بدأ " .
والذى يبدو لنا أن ما قاله ابن العربى أقرب الأقوال إلى الصواب لأن مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم تختلف باختلاف الأحوال ؛ فإن كان الإِمام يرى أن من مصلحة الإِسلام إعطاءهم ، وإن كانت المصحلة في غير ذلك لم يعطهم .
7- دلت الآية الكريمة على أن الزكاة ركن من أركان الاسلام ، لقوله تعالى { فَرِيضَةً مِّنَ الله } .
قال بعض العلماء ما ملخصه ، تلك هي فريضة الزكاة . ليست أمر الرسول وإنما هي أمر الله وفريضته وقسمته وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين . وهذه الزكاة تؤخذ من الأغنياء على أنها فريضة من الله ، وترد على الفقراء على أنها فريضة من الله ، وهى محصورة في طوائف من الناس عينهم القرآن وليست متروكة لاختيار أحد حتى ولا اختيار الرسول نفسه .
وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة ، ومكانها في النظام الإِسلامي ، لا تطوعاً ولا تفضلا ممن فرضت عليهم ، فهى فريضة محتمة ، ولا منحة ولا جزافا من القاسم الموزع فهى فريضة معلومة .
إنها إحدى فرائض الإِسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدى بها خدمة اجتماعية محددة . وهى . ليست إحساناً من المعطى ، وليست شحاذرة من الآخذ ، كلا فما قام النظام الاجتماعى في الإِسلام على التسول ولن يقوم .
إن قوم الحياة في النظام الإِسلامى هو العمل - بلك صنوفه وألوانه - على الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه .
والزكاة ضريبة تكافل اجتماعى بين القادرين والعاجزين ، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع ، متى قام المجمع على أساس الإِسلام الصحيح ، منفذاً شريعة الله لا يبتغى له شرعاً ولا منهجاً سواه .
إن فريضة الزكاة تؤدى في صورة عبادة إسلامية ، ليطهر الله بها القلوب من الشح ، وليجعلها شرعة تراحم وتضمن بين أفراد الأمة المسلمة .
إنها فريضة من الله ، الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، ويدير أمرها بالحكمة { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
لما ذكر [ الله ]{[13560]} تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قَسْم الصدقات ، بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها ، وتولى أمرها بنفسه ، ولم يَكلْ قَسْمها إلى أحد غيره ، فجزّأها لهؤلاء المذكورين ، كما رواه الإمام أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم - وفيه ضعف - عن زياد بن نعيم ، عن زياد بن الحارث الصُدَائي ، رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أصناف ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك " {[13561]} وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية : هل يجب استيعاب الدفع إليها أو إلى ما أمكن منها ؟ على قولين :
أحدهما : أنه يجب ذلك ، وهو قول الشافعي وجماعة .
والثاني : أنه لا يجب استيعابها ، بل يجوز الدفع إلى واحد منها ، ويعطى جميعَ الصدقة مع وجود الباقين . وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف ، منهم : عمر ، وحذيفة ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وسعيد بن جُبَير ، وميمون بن مِهْران .
قال ابن جرير : وهو قول عامة أهل العلم ، وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف هاهنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء .
ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا ، والله أعلم .
وإنما قدم الفقراء هاهنا لأنهم أحوج من البقية على المشهور ، لشدة فاقتهم وحاجتهم ، وعند أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، وهو كما قال ، قال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أنبأنا ابن عَوْن ، عن محمد قال : قال عمر ، رضي الله عنه : الفقير ليس بالذي لا مال له ، ولكن الفقير الأخلق الكسب . قال ابن علية : الأخلق : المحارَفُ عندنا{[13562]} والجمهور على خلافه . ورُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وابن زيد . واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير : هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ، والمسكين : هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس .
وقال قتادة : الفقير : من به زمانة ، والمسكين : الصحيح الجسم .
وقال الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم : هم فقراء المهاجرين . قال سفيان الثوري : يعني : ولا يُعْطَى الأعرابُ منها شيئا .
وكذا روي عن سعيد بن جُبَير ، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى .
وقال عِكْرِمة : لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وإنما المساكين مساكين أهل الكتاب .
ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية .
فأما " الفقراء " ، فعن ابن عمرو{[13563]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغَنِيٍّ ولا لذي مِرَّة سَويّ " . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي{[13564]} ولأحمد أيضا ، والنسائي ، وابن ماجه عن أبي هريرة ، مثله{[13565]} وعن عبيد الله بن عَدِيِّ بن الخيار : أن رجلين أخبراه : أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة ، فقلب إليهما البصر ، فرآهما جَلْدين ، فقال : " إن شئتما أعطيتكما ، ولا حَظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " .
رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي{[13566]} بإسناد جيد قوي .
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح [ والتعديل : أبو بكر العبسي قال : قرأ عمر ، رضي الله عنه : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } قال : هم أهل الكتاب ]{[13567]} روى عنه عمر بن نافع ، سمعت أبي يقول ذلك{[13568]} قلت : وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الإسناد ، فإن أبا بكر هذا ، وإن لم ينص أبو حاتم على جهالته ، لكنه في حكم المجهول .
وأما المساكين : فعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ، فتردُّه اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان " . قالوا : فما المسكين{[13569]} يا رسول الله ؟ قال : " الذي لا يجدُ غنًى يغنيه ، ولا يُفْطَن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا " .
رواه الشيخان : البخاري ومسلم{[13570]}
وأما العاملون عليها : فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطا على ذلك ، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة ، لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث : أنه انطلق هو والفضل بن عباس يسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة ، فقال : " إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس " {[13571]}وأما المؤلفة قلوبهم : فأقسام : منهم من يعطى ليُسلم ، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين ، وقد كان شهدها مشركا . قال : فلم يزل يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ بعد أن كان أبغض الناس إلي ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا زكريا بن عدي ، أنا{[13572]} ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي .
ورواه مسلم والترمذي ، من حديث يونس ، عن الزهري ، به{[13573]} ومنهم من يُعْطَى ليحسُن إسلامه ، ويثبت قلبه ، كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من
صناديد الطلقاء وأشرافهم : مائة من الإبل ، مائة من الإبل وقال : " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يَكُبَّه الله على وجهه في نار جهنم " {[13574]} وفي الصحيحين عن أبي سعيد : أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذُهَيبة في تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس ، وعُيَينة بن بدر ، وعلقمة بن عُلاثة ، وزيد الخير ، وقال : " أتألفهم " {[13575]} ومنهم من يُعطَى لما يرجى من إسلام نظرائه . ومنهم من يُعطَى ليجبي الصدقات ممن يليه ، أو ليدفع عن حَوزة المسلمين الضرر من{[13576]} أطراف البلاد . ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله أعلم .
وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيه خلاف ، فرُوي عن عمر ، وعامر الشعبي وجماعة : أنهم لا يُعطَون بعده ؛ لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ، ومَكَّن لهم في البلاد ، وأذل لهم رقاب العباد .
وقال آخرون : بل يُعطَون ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام{[13577]} قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هَوازن ، وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم .
وأما الرقاب : فرُوي عن الحسن البصري ، ومقاتل بن حيان ، وعمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن جُبَير ، والنَّخعي ، والزهري ، وابن زيد : أنهم المكاتَبون ، وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه ، وهو قول الشافعي والليث .
وقال ابن عباس ، والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، ومالك ، وإسحاق ، أي : إن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب ، أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا . وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة ، وأن الله يعتق بكل عضو منها عضوا من مُعتقها حتى الفَرْج بالفرج ، وما ذاك إلا لأن{[13578]} الجزاء من جنس العمل ، { وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 39 ]
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حق على الله عونُهم : الغازي في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف " .
رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود{[13579]} وفي المسند عن البراء بن عازب قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، دُلَّني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار . فقال : " أعتق النسَمة وفك الرقبة " . فقال : يا رسول الله ، أو ليسا واحدا ؟ قال : " لا عتق النسمة أن تُفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها " {[13580]} وأما الغارمون : فهم أقسام : فمنهم من تحمّل حمالة أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله ، أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب ، فهؤلاء يدفع إليهم . والأصل في هذا الباب حديث قَبِيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة فأتيت رسول الله{[13581]} صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ، فقال : " أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها " . قال : ثم قال : " يا قَبِيصة ، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمَّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك . ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش : أو قال : سدادًا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، فيقولون : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة ، حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة سحت ، يأكلها صاحبها سحتا " . رواه مسلم{[13582]}
وعن أبي سعيد قال : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم{[13583]} تصدقوا عليه " . فتصدق الناس{[13584]} فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه : " خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك " . رواه مسلم{[13585]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، أنبأنا صدقة بن موسى ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن قيس بن زيد عن قاضي المصرين{[13586]} عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه ، فيقول : يا بن آدم ، فيم أخذت هذا الدين ؟ وفيم ضيعت حقوق الناس ؟ فيقول : يا رب ، إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ، ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة . فيقول الله : صدق عبدي ، أنا أحق من قضى عنك اليوم . فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه ، فترجح حسناته على سيئاته ، فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته " {[13587]} وأما في سبيل الله : فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وعند الإمام أحمد ، والحسن ، وإسحاق : والحج من سبيل الله ، للحديث .
وكذلك ابن السبيل : وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره ، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال . وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء ، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه . والدليل على ذلك الآية ، وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجه من حديث مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغنيّ إلا لخمسة : العامل عليها ، أو رجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني " {[13588]} وقد رواه السفيانان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء مرسلا . ولأبي داود عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله ، وابن السبيل ، أو جار فقير فيُهدي لك أو يدعوك " {[13589]} وقوله : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } أي حكما مقدرا بتقدير الله وفَرْضِه وقَسْمه{[13590]} { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده ، { حَكِيمٌ } فيما يفعله ويقوله ويشرعه ويحكم به ،
ثم بين مصارف الصدقات تصويبا وتحقيقا لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم ، وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم . والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره . والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه ، ويدل عليه قوله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين } وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر . وقيل بالعكس لقوله تعالى : { ومسكينا ذا متربة } . { والعاملين عليها } الساعين في تحصيلها وجمعها . { والمُؤلّفة قلوبهم } قوم اسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم ، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك . وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قبله بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة . وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط . { وفي الرقاب } وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم . وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي الأسارى . والعدول عن اللام إلى { في } للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب . وقيل للإيذان بأنهم أحق بها . { والغارمين } والمديونين لأنفسهم غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء ، أو لإصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغازٍ في سبيل الله أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها " . { وفي سبيل الله } وللصرف في الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح . وقيل وفي بناء القناطر والمصانع . { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله . { فريضة من الله } مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات فريضة ، أو حال من الضمير المستكن في { للفقراء } . وقرئ بالرفع على تلك { فريضة } . { والله عليم حكيم } يضع الأشياء في مواضعها ، وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا ، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما الله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب قسمها عليهم .
{ إنما } في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف { الصدقات } على الثمانية الأصناف ، وإنما اختلف في صورة القسمة فقال مالك وغيره : ذلك على قدر اجتهاد الإمام وبحسب أهل الحاجة ، وقال الشافعي : هي ثمانية أقسام على ثمانية أصناف لا يخل بواحد منها إلا أن { المؤلفة } انقطعوا .
قال القاضي أبو محمد : ويقول صاحب هذا القول : إنه لا يجزيء المتصدق والقاسم من كل صنف أقل من ثلاثة ، وأما الفقير والمسكين فقال الأصمعي وغيره : الفقير أبلغ فاقة ، وقال غيرهم : المسكين أبلغ فاقة .
قال القاضي أبو محمد : ولا طريق إلى هذا الاختلاف ولا إلى الترجيح إلا النظر النظر في شواهد القرآن والنظر في كلام العرب وأشعارها ، فمن حجة الأولين قول الله عز وجل { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر }{[5724]} واعترض هذا الشاهد بوجوه منها ، أن يكون سماهم «مساكين » بالإضافة إلى الغاصب وإن كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين لا حيلة لهم وربما كانوا مياسير ومنها : أنه قرىء «لمسّاكين » بشد السين بمعنى : دباغين يعملون المسوك{[5725]} قاله النقاش وغيره ومنها : أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين بها فهي كما تقول : سرج الفرس ، ومن حجة الآخرين قول الراعي : [ البسيط ]
أما الفقير الذي كانت حلوبته*** وفق العيال فلم يترك له سبد{[5726]}
وقد اعترض هذا الشاهد بأنه إنما سماه فقيراً بعد أن صار لا حلوبة له ، وإنما ذكر الحلوبة بأنها كانت ، وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على مال الحي بأجمعه ، فقال : أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال ، وذهب من يقول : إن المسكين أبلغ فاقه إلى أنه مشتق من السكون ، وأن الفقير مشتق من فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه لا محالة حركة ، وذهب من يقول إن الفقير أبلغ فاقه : إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها ، وأن المسكين من السكن .
قال القاضي أبو محمد : ومع هذا الاختلاف فإنهما صنفان يعمهما الإقلال والفاقة ، فينبغي أن يبحث على الوجه الذي من أجله جعلهما الله اثنين ، والمعنى فيهما واحد ، وقد اضطرب الناس في هذا ، فقال الضحاك بن مزاحم : { الفقراء } هم من المهاجرين { والمساكين } من لم يهاجر ، وقال النخعي نحوه ، قال سفيان : يعني لا يعطى فقراء الأعراب منها شيئاً .
قال القاضي أبو محمد : «والمسكين السائل » يعطى في المدينة وغيرها ، وهذا القول هو حكاية الحال وقت نزول الآية ، وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس ، وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر ، وقال عكرمة : { الفقراء } من المسلمين ، { والمساكين } من أهل الذمة ، ولا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر «الفقير » من لا مال له ولا حرفة سائلاُ كان أو متعففاً «والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غير سائل ، وقال قتادة بن دعامة : الفقير الزمن{[5727]} المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج ، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد ومحمد بن مسلمة : » المساكين «الذين يسعون ويسألون ، و » الفقراء «هم الذين يتصاونون ، وهذا القول الأخير إذا لخص وحرر أحسن ما يقال في هذا ، وتحريره : أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل ولا بذل وجهه ، وذلك إما لتعفف مفرط وإما لُبْلَغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها ، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال ، فهذه هي المسكنة ، فعلى هذا كل مسكين فقير وليس كل فقير مسكيناً ، ويقوي هذا أن الله تعالى قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم ، وإذا تأملت ما قلناه بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين ، ويقوي هذا قوله تعالى :
{ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }{[5728]} وقيل لأعرابي : أفقير أنت فقال : إني والله مسكين ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه » ، اقرأوا إن شئتم { لا يسألون الناس إلحافاً }{[5729]} ، فدل هذا الحديث على أن المسكين في اللغة هو الطواف ، وجرى تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على المتصاون مجرى تقديم { الفقراء } في الآية لمعنى الاهتمام إذ هم بحيث إن لم ُيَتَهَّمم بهم هلكوا ، والمسكين يلح ويذكر بنفسه ، وأما العامل فهو الرجل الذي يستنيبه الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم ، وكل من يصرف من عون لا يستغنى عنه فهو من { العاملين } لأنه يحشر الناس على الساعي{[5730]} ، وقال الضحاك : للعاملين ثمن ما عملوا على قسمة القرآن ، وقال الجمهور : لهم قدر تعبهم ومؤنتهم قاله مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر ، فإن تجاوز ذلك ثمن الصدقة فاختلف ، فقيل يتم لهم ذلك من سائر الأنصباء وقيل ، بل يتم لهم ذلك من خمس الغنيمة ، واختلف إذا عمل في الصدقات هاشمي فقيل : يعطى منها عمالته{[5731]} وقيل : بل يعطاها الخمس ، ولا يجوز للعامل قبول الهدية والمصانعة ممن يسعى عليه ، وذلك إن فعله رد في بيت المال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية{[5732]} حين استعمله على الصدقة فقال : هذا لكم وهذا ما أهدي لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«هلا قعدت في بيت أبيك وأمك حتى تعلم ما يهدى إليك » وأخذ الجميع منه{[5733]} .
قال القاضي أبو محمد : وتأمل عمالة الساعي هل يأخذها قبل العمل أو بعده ، وهل هي إجازة أو هي جعل وهل العمل معلوم أو هو يتتبع وإنما يعرف قدره بعد الفراغ ، وأما { المؤلفة قلوبهم } فكانوا صنفين ، مسلمين وكافرين مساترين{[5734]} ، قال يحيى بن أبي كثير ، كان منهم أبو سفيان بن حرب بن أمية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعيينة والأقرع{[5735]} ومالك بن عوف والعباس بن مرداس والعلاء بن جارية الثقفي .
قال القاضي أبو محمد : وأكثر هؤلاء من الطلقاء{[5736]} الذين ظاهر أمرهم يوم الفتح الكفر ، ثم بقوا مظهرين الإسلام حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم واستئلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة أو تدفع عنه مضرة ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحسن والشعبي وجماعة من أهل العلم : انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور مذهب مالك رحمه الله ، قال عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة .
قال القاضي أبو محمد : وقول عمر عندي إنما هو لمعنيين ، فإنه قال لأبي سفيان حين أراد أخذ عطائه القديم : إنما تأخذ كرجل من المسلمين فإن الله قد أغنى عنك وعن ضربائك{[5737]} ، يريد في الاستئلاف ، وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام فبعيد ، وقال كثير من أهل العلم : { المؤلفة قلوبهم } موجودون إلى يوم القيامة .
قال القاضي أبو محمد : وإذا تأملت الثغور وجد فيها الحاجة إلى الاستئلاف ، وقال الزهري : { المؤلفة } من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً .
قال القاضي أبو محمد : يريد لتبسط نفسه ويحبب دين الإسلام إليه ، وأما { الرقاب } فقال ابن عباس والحسن ومالك وغيره : هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته ، واختلف هل يعان بها المكاتب في أثناء نجومه{[5738]} بالمنع والإباحة ، واختلف على القول بإباحة ذلك إن عجز فقيل يرد ذلك من عند السيد ، وقيل يمضي لأنه كان يوم دفعه بوجه مترتب ، وقال الشافعي : معنى { وفي الرقاب } في المكاتبين ولا يبتدأ منها عتق عبد ، وقاله الليث وإبراهيم النخعي وابن جبير ، وذلك أن هذه الأصناف إنما تعطى لمنفعة المسلمين أو لحاجة في أنفسها ، والعبد ليس له واحدة من هاتين العلتين ، والمكاتب قد صار من ذوي الحاجة وقال الزهري : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى ، قال ابن حبيب : ويفدى منه أسارى المسلمين ومنع ذلك غيره{[5739]} ، وأما «الغارم فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه ، قال العلماء : فهذا يؤدى عنه وإن كانت له عروض تقيم رمقه وتكفي عياله ، وكذلك الرجل يتحمل بحمالة في ديارات أو إصلاح بين القبائل ونحو هذا ، وهو أحد الخمسة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
«ولا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة :العامل عليها أو غاز في سبيل الله أو رجل تحمل بحمالة أو من أهديت له أو من اشتراها بماله »{[5740]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد سقط { المؤلفة } من هذا الحديث ، ولا يؤدى من الصدقة دين ميت ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله ، وإنما «الغارم » من عليه دين يسجن فيه ، وقد قيل في مذهبنا وغيره : يؤدى دين الميت من الصدقات قاله أبو ثور ، وأما { في سبيل الله } فهو المجاهد يجوز أن يأخذ من الصدقة لينفقها في غزوه وإن كان غنياً قال ابن حبيب : ولا يعطى منها الحاج إلا أن يكون فقيراً فيعطى لفقره ، وقال ابن عباس وابن عمر وأحمد وإسحاق : يعطى منها الحاج وإن كان غنياً ، والحج سبيل الله ، ولا يعطى منها في بناء مسجد ولا قنطرة ولا شراء مصحف ونحو هذا ، وأما { ابن السبيل } فهو الرجل في السفر والغربة يعدم فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنياً في بلده ، وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل كما يقال للطائر : ابن ماء لملازمته له ومنه عندي قولهم : ابن جلا وقد قيل فيه غير هذا ومنه قولهم : بنو الحرب وبنو المجد{[5741]} ولا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ، قال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب : ولا من التطوع ولا يعطى مواليهم لأن مولى القوم منهم ، قال ابن القاسم : يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع ويعطى مواليهم من الصدقتين ، ومن سأل من الصدقة وقال إنه فقير ، فقالت فرقة يعطى دون أن يكلف بينة على فقره بخلاف حقوق الآدميين يدعي معها الفقر فإنه يكلف البينة لأنها حقوق الناس يؤخذ لها بالأحوط ، وأيضاً فالناس إذا تعلقت بهم حقوق آدمي محمولون على الغني حتى يثبت العدم ويظهر ذلك من قوله تعالى { وإن كان ذو عسرة }{[5742]} أي ان وقع فيعطي هذا أن الأصل الغنى{[5743]} فإن وقع ذو عسرة فنظرة ، وقالت فرقة : الرجل الصحيح الذي لا يعلم فقره لا يعطى إلا أن يعلم فقره ، وأما إن ادعى أنه غارم أو مكاتب أو ابن سبيل أو في سبيل الله أو نحو ذلك مما لم يعلم منه فلا يعطى إلا ببينة قولاً واحداً ، وقد قيل في الغارم{[5744]} : تباع عروضه وجميع ما يملك ثم يعطى بالفقر ، ويعطى الرجل قرابته الفقراء وهم أحق من غيرهم فإن كان قريبه غائباً في موضع تقصر إليه الصلاة فجاره الفقير أولى ، وإن كان في غيبة لا تقصر إليه الصلاة فقيل هو أولى من الجار الفقير ، وقيل الجار أولى ويعطى الرجل قرابته الذين لا تلزمه نفقتهم ، وتعطى المرأة زوجها ، وقال بعض الناس ما لم ينفق عليها ، ويعطي الرجل زوجته إذا كانت من الغارمين ، واختلف في ولاء الذي يعتق من الصدقة ، فقال مالك : ولاؤه لجماعة المسلمين وقال أبو عبيد : ولاؤه للمعتق وقال عبيد الله بن الحسن : يجعل ماله في بيت الصدقات ، وقال الحسن وأحمد وإسحاق : ويعتق من ماله رقاب ، وإذا كان لرجل على معسر دين فقيل يتركه له ويقطع ذلك من صدقته وقيل لا يجوز ذلك جملة ، وقيل إن كان ممن لو رفعه للحاكم أمكن أن يؤديه جاز ذلك وإلا لم يجز لأنه قد توي{[5745]} وأما السبيل : فهو الذي قدمنا ذكره يعطى الرجل الغازي وإن كان غنياً ، وقال أصحاب الرأي لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا أن يكون منقطعاً به ، قال ابن المنذر ؟ وهذا خلاف ظاهر القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما القرآن فقوله { وفي سبيل الله } ، وأما الحديث فقوله «إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله » ، وأما صورة التفريق فقال مالك وغيره : على قدر الحاجة ونظر الإمام يضعها في أي صنف رأى وكذلك المتصدق ، وقاله حذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبو العالية ، قال الطبري : وقال بعض المتأخرين : إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف لأنه ليس ثم عامل ولأن المؤلفة قد انقطعوا فإن قسم الإمام ففي سبعة أصناف ، قال الشافعي وعكرمة والزهري : هي ثمانية أقسام لثمانية أصناف لا يخل بواحد منها واحتج الشافعي بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله : «إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية أصناف فإن كنت واحداً منها أعطيتك » .
قال القاضي أبو محمد : والحديث في مصنف أبي داود ، وقال أبو ثور : إذا قسمها الإمام لم يخل بصنف منها وإن أعطى الرجل صدقته صنفاً دون صنف أجزأه ذلك وقال النخعي : إذا كان المال كثيراً قسم على الأصناف كلها وإذا كان قليلاً أعطاه صنفاً واحداً . وقالت فرقة من العلماء : من له خمسون درهماً فلا يعطى من الزكاة ، وقال الحسن وأبو عبيد ، لا يعطى من له أوقية وهي أربعون درهماً ، قال الحسن : وهو غني وقال الشافعي : قد يكون الرجل الذي لا قدر له غنياً بالدرهم مع سعيه وتحيله ، وقد يكون الرجل له القدر والعيال ضعيف النفس والحيلة فلا تغنيه آلاف ، وقال أبو حنيفة : لا يأخذ الصدقة من لا مائتا درهم ومن كان له أقل فلا بأس أن يأخذ ، قال سفيان الثوري : لا يدفع إلى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهماً ، إلا أن يكون غارماً وقال أصحاب الرأي ، إن أعطي ألفاً وهو محتاج أجزأ ذلك ، وقال أبو ثور : يعطى من الصدقة حتى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة ولا بأس أن يعطى الفقير الألف وأكثر من ذلك ، وقال ابن المنذر : أجمع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن يأخذ من الزكاة وللمعطي أن يعطيه ، وقال مالك : إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة على ما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجزه ، وأما الرجل يعطي الآخر وهو يظنه فقيراً فإذا هو غني ، فإنه إن كان بفور ذلك أخذها منه فإن فاتت نظر ، فإن كان الآخذ غنياً وأخذها مع علمه بأنها لا تحل له ضمنها على كل وجه ، وإن كان لم يغر بل اعتقد أنها تجوز له ، أو لم يتحقق مقصد المعطي نظر ، فقال الحسن وأبو عبيدة : تجزيه ، وقال الثوري وغيره : لا تجزيه ، وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فتنقل إلى غيرها بحسب نظر الإمام ، قال ابن حبيب في الواضحة : أما { المؤلفة } فانقطع سهمهم ، وأما سبيل الله فلا بأس أن يعطى الإمام الغزاة إذا قل الفيء في بيت المال .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الشرط فيه نظر ، قال ابن حبيب : وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها بالمواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منه شيء إلى الإمام إلا أن يرى ذلك لحاجة أو فاقة نزلت بقوم ، قال مالك : ومن له مزرعة أو شيء في ثمنه إذا باعه ما يغنيه لم يجز له أخذ الصدقة ، وهذه جملة من فقه الآية كافية على شرطنا في الإيجاز والله الموفق برحمته{[5746]} ، وقال تعالى : { فريضة من الله } أي موجبة محدودة وهو مأخوذ من الفرض في الشيء بمعنى الحز والقطع ثبوت ذلك ودوامه ، شبه ما يفرض من الأحكام ، ونصب { فريضة } على المصدر{[5747]} ، ثم وصف نفسه تعالى بصفتين مناسبتين لحكم هذه الآية لأنه صدر عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة بينهم .
هذه الآية اعتراض بين جملة : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] وجملة { ومنهم الذين يؤذون النبي } [ التوبة : 61 ] الآية . وهو استطراد نشأ عن ذكر اللمز في الصدقات أدمج فيه تبيين مصارف الصدقات .
والمقصود من أداة الحصر : أن ليس شيء من الصدقات بمستحقّ للذين لَمَزوا في الصدقات ، وحَصْر الصدقات في كونها مستحقّة للأصناف المذكورة في هذه الآية ، فهو قصر إضافي أي الصدقات لهؤلاء لا لكم .
وأمّا انحصارها في الأصناف الثمانية دون صنف آخر فيستفاد من الاقتصار عليها في مقام البيان إذ لا تكون صيغة القصر مستعملة للحقيقي والإضافي معاً إلاّ على طريقة استعمال المشترك في معنييه .
والفقير صفة مشبّهة أي المتّصف بالفقر وهو عدم امتلاك ما به كفاية لوازم الإنسان في عيشه ، وضدّه الغني . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } في سورة النساء ( 135 ) .
والمسكين ذو المسكنة ، وهي المذلّة التي تحصل بسبب الفقر ، ولا شكّ أنّ ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر ، وإنّما النظر فيما إذا جُمع ذكرهما في كلام واحد ؛ فقيل : هو من قبيل التأكيد ، ونسب إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي علي الجبائي ، وقيل : يراد بكلّ من الكلمتين معنى غير المراد من الأخرى ، واختلف في تفسير ذلك على أقوال كثيرة : الأوضح منها أن يكون المراد بالفقير المحتاج احتياجاً لا يبلغ بصاحبه إلى الضراعة والمذلّة . والمسكين المحتاج احتياجاً يُلجئه إلى الضراعة والمذلّة ، ونسب هذا إلى مالك ، وأبي حنيفة ، وابن عباس ، والزهري ، وابن السكّيت ، ويونسَ بن حبيب ؛ فالمسكين أشدّ حاجة لأنّ الضراعة تكون عند ضعف الصبر عن تحمّل ألم الخصاصة ، والأكثرُ إنمّا يكون ذلك من شدّة الحاجة على نفس المحتاج . وقد تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى : { وبذي القربى واليتامى والمساكين } في سورة النساء ( 36 ) .
{ والعاملين عليها } معناه العاملون لأجلها ، أي لأجل الصدقات فحرف ( على ) للتعليل كما في قوله : { ولتكبروا الله على ما هداكم } [ البقرة : 185 ] أي لأجل هدايته إيّاكم . ومعنى العمل السعي والخدمة وهؤلاء هم الساعون على الأحياء لجمع زكاة الماشية واختيار حرف ( على ) في هذا المقام لما يشعر به أصل معناه من التمكّن ، أي العاملين لأجلها عملاً قوياً لأنّ السعاة يتجشّمون مشقّةً وعملاً عظيماً ، ولعلّ الإشعار بذلك لقصد الإيمان إلى أنّ علّة استحقاقهم مركّبة من أمرين : كون عملهم لفائدة الصدقة ، وكونه شاقّاً ، ويجوز أن تكون ( على ) دالَّة على الاستعلاء المجازي ، وهو استعلاء التصرف كما يقال : هو عامل على المدينة ، أي العاملين للنبيء أو للخليفة على الصدقات أي متمكّنين من العمل فيها .
وممّن كان على الصدقة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حَمَل بن مالك بن النابغة الهذلي كان على صدقات هُذيل .
{ والمؤلفة قلوبهم } هم الذين تؤلّف ، أي تُؤنَّس نفوسهم للإسلام من الذين دخلوا في الإسلام بحدثان عهدٍ ، أو من الذين يرغَّبون في الدخول في الإسلام ، لأنّهم قاربوا أن يُسلموا .
والتأليف : إيجاد الألفة وهي التأنّس .
فالقلوب بمعنى النفوس . وإطلاق القلب على ما به إدراك الاعتقاد شائع في العربية .
وللمؤلّفة قلوبهم أحوال : فمنهم من كان حديثَ عهد بالإسلام ، وعرف ضعف حينئذٍ في إسلامه ، مثل : أبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، من مسلمة الفتح ؛ ومنهم من هم كفار أشدّاء ، مثل : عامر بن الطفيل ، ومنهم من هم كفار ، وظهر منهم ميل إلى الإسلام ، مثل : صفوان بن أمية . فمثل هؤلاء أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات وغيرها يتألفهم على الإسلام ، وقد بلغ عدد من عدّهم ابن العربي في « الأحكام » من المؤلفة قلوبهم : تسعة وثلاثين رجلاً ، قال ابن العربي : وعدّ منهم أبُو إسحاق يعني القاضي إسماعيل بن إسحاق معاويةَ بن أبي سفيان ، ولم يكن منهم وكيف يكون ذلك ، وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقرآنه وخلطه بنفسه .
و { الرقاب } العبيد جمع رقَبة وتطلق على العبد . قال تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة } [ النساء : 92 ] .
و { في } للظرفية المجازية وهي مغنية عن تقدير « فكّ الرقاب » لأنّ الظرفية جَعلت الرقاب كأنّها وُضعت الأموالُ في جماعتها ، ولم يجرّ باللاّم لئلا يتوهّم أنّ الرقاب تدفع إليهم أموال الصدقات ، ولكن تُبذل تلك الأموال في عتق الرقاب بشراء أو إعانة على نجوم كتابة ، أو فداءِ أسرى مسلمين ، لأنّ الأسرى عبيد لمن أسَّروهم ، وقد مضى في سورة البقرة ( 177 ) قوله : { والسائلين وفي الرقاب والغارمين } المدينون الذين ضاقت أموالهم عن أداء ما عليهم من الديون ، بحيث يُرْزأ دائنوهم شيئاً من أموالهم ، أو يُرْزأ المدينون ما بقي لهم من مَال لإقامة أود الحياة ، فيكون من صرف أموالٍ من الصدقات في ذلك رحمةٌ للدائن والمدين .
و { سبيل الله } الجهاد ، أي يصرف من أموال الصدقات ما تقام به وسائل الجهاد من آلات وحراسة في الثغور ، كلّ ذلك برّاً وبحراً .
و { ابن السبيل } الغريب بغَير قومه ، أضيف إلى { السبيل } بمعنى الطريق : لأنّه أولده الطريق الذي أتى به ، ولم يكن مولوداً في القوم ، فلهذا المعنى أطلق عليه لفظ ابن السبيل .
ولفقهاء الأمّة في الأحكام المستمدّة من هذه الآية طرائق جمّة ، وأفهام مهمّة ، ينبغي أن نلمّ بالمشهور منها بما لا يفضي بنا إلى الإطالة ، وإنّ معانيَها لأوفرُ ممّا تفي به المقالة .
فأمّا ما يتعلّق بجعل الصدقات لهؤلاء الأصناف فبقطع النظر عن حمل اللام في قوله : { للفقراء } على معنى الملك أو الإستحقاق ، فقد اختلف العلماء في استحقاق المستحقّين من هذه الصدقات هل يجب إعطاء كلّ صنف مقداراً من الصدقات ، وهل تجب التسوية بين الأصناف فيما يعطى كلّ صنف من مقدارها ، والذي عليه جمهور العلماء أنّه لا يجب الإعطاء لجميع الأصناف ، بل التوزيع موكول لاجتهاد وُلاَة الأمور يضعونها على حسب حاجة الأصناف وسعة الأموال ، وهذا قول عمر بن الخطاب ، وعلي ، وحذيفةَ ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والنخعي ، والحسن ، ومالك ، وأبي حنيفة .
وعن مالك أنّ ذلك ممّا أجمع عليه الصحابة ، قال ابن عبد البر : ولا نعلم مخالفاً في ذلك من الصحابة ، وعن حذيفة . إنّما ذكر الله هذه الأصناف لتُعرف وأيّ صنف أعطيْت منها أجزأك . قال الطبري : الصدقة لسدّ خلّة المسلمين أو لسدّ خلّة الإسلام ، وذلك مفهوم من مآخذ القرآن في بيان الأصناف وتعدادهم . قلت وهذا الذي اختاره حذّاق النظّار من العلماء ، مثل ابن العربي ، وفخر الدين الرازي .
وذهب عكرمة ، والزهري ، وعمر بن عبد العزيز ، والشافعي : إلى وجوب صرف الصدقات لجميع الأصناف الثمانية لكلّ صنف ثُمن الصدقات فإن انعدم أحد الأصناف قسمت الصدقات إلى كسور بعدد ما بقي من الأصناف . واتّفقوا على أنّه لا يجب توزيع ما يعطى إلى أحد الأصناف على جميع أفراد ذلك الصنف .
وأمّا ما يرجع إلى تحقيق معاني الأصناف ، وتحديد صفاتها : فالأظهر في تحقيق وصف الفقير والمسكين أنّه موكول إلى العرف ، وأنّ الخصاصة متفاوتة وقد تقدّم آنفاً . واختلف العلماء في ضبط المكاسب التي لا يكون صاحبها فقيراً ، واتّفقوا على أن دار السكنى والخادم لا يُعدَّانِ مالاً يرفع عن صاحبه وصف الفقر .
وأمّا القدرة على التكسّب ، فقيل : لا يعدّ القادر عليه فقيراً ولا يستحقّ الصدقة بالفقر وبه قال الشافعي ، وأبو ثور ، وابن خويز منداد ، ويحيى بن عُمر من المالكية . . . ورويت في ذلك أحاديث رواها الدارقطني ، والترمذي ، وأبو داود . وقيل : إذا كان قوياً ولا مال له جاز له أخذ الصدقة ، وهو المنقول عن مالك واختاره الترمذي . والكيا الطبري من الشافعية .
وأمّا العاملون عليها فهم يتعيّنون بتعيين الأمير ، وعن ابن عمر يعطون على قدر عملهم من الأجرة . وهو قول مالك وأبي حنيفة .
وأمّا المؤلفة قلوبهم فقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم عطايا متفاوتة من الصدقات وغيرها . فأمّا الصدقات فلهم حقّ فيها بنصّ القرآن ، وأما غير الصدقات فبفعل النبي صلى الله عليه وسلم واستمرّ عطاؤهم في خلافة أبي بكر ، وزمنٍ من خلافة عمر ، وكانوا يعطَون بالاجتهاد ، ولم يكونوا يعيِّنون لهم ثُمن الصدقات ثم اختلف العلماء في استمرار هذا المصرف ، وهي مسألة غريبة لأنّها مبنية على جواز النسخ بدليل العَقْل وقياس الاستنباط أي دون وجود أصل يقاس عليه نظيره وفي كونها مبنيّة على هذا الأصل نظر . وإنّما بناؤها على أنّه إذا تعطّل المصرف فلِمَن يردّ سهمه وينبغي أن تقاس على حكم سهم من مات من أهل الحبس أنّ نصيبه يصير إلى بقية المحبس عليهم . وعن عمر بن الخطاب أنّه انقطع سهمهم بعزة الإسلام ، وبه قال الحسن ، والشعبي ، ومالك بن أنس وأبو حنيفة ، وقد قيل : إنّ الصحابة أجمعوا على سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم من عهد خلافة أبي بكر حكاه القرطبي ، ولا شكّ أن عمر قَطع إعطاء المؤلّفة قلوبهم مع أنّ صنفهم لا يزال موجوداً ، رأى أنّ الله أغنى دين الإسلام بكثرة أتْباعه فلا مصلحة للإسلام في دفع أموال المسلمين لتأليف قلوب من لم يتمكّن الإسلام من قلوبهم ، ومِن العلماء من جعل فعل عمر وسكوتَ الصحابة عليه إجماعاً سكوتياً فجعلوا ذلك ناسخاً لبعض هذه الآية وهو من النسخ بالإجماع ، وفي عدّ الإجماع السكوتي في قوة الإجماع القولي نزاع بين أئمّة الأصول وفي هذا البناء نظر ، كما علمت آنفاً وقال كثير من العلماء : هم باقون إذا وُجدوا فإنّ الإمام ربما احتاج إلى أن يستألف على الإسلام ، وبه قال الزهري ، وعمر بن عبد العزيز ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، واختاره عبد الوهاب ، وابن العربي ، من المالكية قال ابن العربي : « الصحيح عندي أنّه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا » .
أي فهو يرى بقاء هذا المصرف ويرى أنّ عدم إعطائهم في زمن عمر لأجْل عزة الإسلام ، وهذا هو الذي صحّحه المتأخّرون . قال ابن الحاجب في « المختصر » « والصحيح بقاء حكمهم إن احتيج إليهم » . وهذا الذي لا ينبغي تقلّد غيره .
وأمّا الرقاب فالجمهور على أنّ معنى { وفي الرقاب } في شراء الرقيق للعتق ، ودفع ما على المكاتب من مال تحصُل به حريته ، وهو رواية المدنيين عن مالك ، وقيل لا يعان بها المكاتب ولو كان آخر نجم تحصُل به حريته ، وروي عن مالك من رواية غير المدنيين عنه . وقيل : لا تعطى إلاّ في إعانة المكاتب على نجومه ، دون العتق ، وهو قول الليث ، والنخعي ، والشافعي . واختلف في دفع ذلك في عتق بعض عبد أو نجوم كتابة ليس بها تمام حرية المكاتب ، فقيل : لا يجوز ، وبه قال مالك والزهري وقيل يجوز ذلك . وفداء الأسرى من فك الرقاب على الأصحّ من المذهب ، وهو لابن عبد الحكم ، وابن حبيب ، خلافاً لأصبغ ، من المالكية .
وأما الغارمون فشرطهم أن لا يكون دينهم في معصية إلاّ أن يتوبوا . والميت المدين الذي لا وفاء لدينه في تركته يُعدّ من الغارمين عند ابن حبيب ، خلافاً لابن الموّاز .
وسبيل الله لم يُختلف أنّ الغزو هو المقصود ، فيعطى الغزاة المحتاجون في بلد الغزو ، وإن كانوا أغنياء في بلدهم ، وأمّا الغزاة الأغنيَاء في بلد الغزو فالجمهور أنّهم يعطَون . وبه قال مالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة : لا يعطون . والحق أنّ سبيل الله يشمل شراء العُدّة للجهاد من سلاح ، وخيل ، ومراكب بحرية ، ونوتيه ، ومجانيق ، وللحُملان ، ولبناء الحصون ، وحفر الخنادق ، وللجواسيس الذين يأتون بأخبار العدوّ ، قاله محمد بن عبد الحكم من المالكية ولم يُذكر أنّ له مخالفاً ، وأشعر كلام القرطبي في التفسير أنّ قول ابن عبد الحكم مخالف لقول الجمهور .
وذهب بعض السلف أنّ الحجّ من سبيل الله يدخل في مصارف الصدقات ، وروي عن ابن عمر ، وأحمد ، وإسحاق . وهذا اجتهاد وتأويل ، قال ابن العربي : « وما جاء أثرٌ قطّ بإعطاء الزكاة في الحجّ » .
وأما ابن السبيل فلم يُختلف في الغريب المحتاج في بلد غربته أنّه مراد ولو وجد من يسلفه ، إذ ليس يلزمه أن يدخل نفسه تحتَ منّة . واختلف في الغني : فالجمهور قالوا : لا يعطى ؛ وهو قول مالك ، وقال الشافعي وأصبغ : يعطى ولو كان غنياً في بلد غربتِه .
وقوله : { فريضة من الله } منصوب على أنّه مصدر مؤكِّد لمصدر محذوف يدلّ عليه قوله : { إنما الصدقات } لأنّه يفيد معنى فَرضَ اللَّهُ أو أوجبَ ، فأكّد بفريضة من لفظ المقدّر ومعناه .
والمقصود من هذا تعظيم شأن هذا الحكم والأمر بالوقوف عنده .
وجملة { والله عليم حكيم } تذييل إمّا أفاده الحصر ب { إنّما } في قوله : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } إلخ ، أي : والله عليم حكيم في قصر الصدقات على هؤلاء ، أيْ أنّه صادر عن العليم الذي يعلم ما يناسب في الأحكام ، والحكيمِ الذي أحكم الأشياء التي خلقها أو شرعها . والواو اعتراضية لأنّ الاعتراض يكون في آخر الكلام على رأي المحقّقين .