18- ويعبد هؤلاء المشركون - المفترون على الله بالشرك - أصناماً باطلة ، لا تضرهم ولا تنفعهم ، ويقولون : هؤلاء الأصنام يشفعون لنا عند الله في الآخرة ، قل لهم - أيها الرسول - : هل تخبرون الله بشريك لا يعلم الله له وجوداً في السماوات ولا في الأرض ؟ ! تنزه الله عن الشريك وعما تزعمونه بعبادة هؤلاء الشركاء .
قوله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم } ، إن عصوه وتركوا عبادته ، { ولا ينفعهم } ، إن عبدوه ، يعني : الأصنام ، { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله } أتخبرون الله ، { بما لا يعلم } ، الله صحته . ومعنى الآية : أتخبرون الله أن له شريكا ، أو عنده شفيعا بغير إذنه ، ولا يعلم الله لنفسه شريكا ؟ ! { في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } ، قرأ حمزة والكسائي : تشركون بالتاء ، هاهنا وفى سورة النحل موضعين ، وفى سورة الروم ، وقرأ الآخرون كلها بالياء .
ثم حكى - سبحانه - أقبح رذائلهم ، وهى عبادتهم لغير الله ، ودعواهم أن أصنامهم ستشفع لهم فقال - تعالى - :
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ . . . }
هذه الآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا . . . } عطف القصة على القصة .
والعبادة : الطاعة البالغة حد النهاية في الخضوع والتعظيم .
أي : وهؤلاء الذين لا يرجون لقاؤنا ، ويطلبون قرآنا غير هذا القرآن أو تبديله ، بلغ من جهلهم وسفههم أنهم يعبدون من دون الله أصناما لا تضرهم ولا تنفعهم ، لأنها جمادات لا قدرة لها على ذلك .
والمقصود بوصفها بأنها لا تضر ولا تنفع : بطلان عبادتها ، لأن من شأن المعبود أن يملك الضر والنفع ، وأن يكون مثيبا على الطاعة ومعاقبا على المعصية .
وقوله : { مِن دُونِ الله } جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل { يعبدون } أي : يعبدونها متجاوزين الله وتاركين طاعته .
و { ما } موصولة أو نكرة موصوفة . والمراد بها الأصنام التي عبدوها من دون الله ؟
قال الجمل : " ونفي الضر والنفع هنا عن الأصنام باعتبار الذات ، وإثباتها لها في سورة الحج في قوله { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } باعتبار السبب ، فلا يرد كيف نفي عن الأصنام الضر والنفع ، وأثبتهما لهما في سورة الحج " .
وقوله : { وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } حكاية لأقوالهم السخيفة عندما يُدعَوْن إلى عبادة الله وحده .
والشفعاء : جمع شفيع ، وهو من يشفع لغيره في دفع ضر أو جلب نفع .
أي : أنهم يدينون بالعبادة لأصنام لا تضرهم إن تركوا عبادتها ، ولا تنفعهم إن عبدوها ، فإذا ما طلب منهم أن يجعلوا عبادتهم لله وحده وقالوا : إننا نعبد هذه الأصنام لتكون شفيعة لنا عند الله في دنيانا ، بأن نتوسل إليه بها في إصلاح معاشنا ، وفى آخرتنا إن كان هناك ثواب وعقاب يوم القيامة .
وهنا يأمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم في قول : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السماوات وَلاَ في الأرض } .
أي : قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين : إن الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء في هذا الكون ولا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون شفاعته . فهل تعملون أنتم ما لا يعلمه . وهل تخبرونه بما لا يعلم له وجوداً في السموات ولا في الأرض ؟ ! !
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة التهكم بهم ، والسخرية بعقولهم وأفكارهم ، ونفي أن تكون الأوثان شفعاء عند الله بأبلغ وجه .
والعائد في قوله { بِمَا لاَ يَعْلَمُ } محذوف . والتقدير بما لا يعلمه .
وقوله { فِي السماوات وَلاَ في الأرض } حال من العائد المحذوف ، وهو مؤكد للنفي ، لأن ما لا يوجد في ها فهو منتف عادة .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت كيف : أنبأوا الله بذلك ؟ قلت : هو تهكم بهم ، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل .
فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به ، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه .
وقوله { فِي السماوات وَلاَ في الأرض } تأكيد لتنفيه ، لأن ما لم يوجد في هما فهو منتف معدوم .
وقوله : { سُبْحَانَهُ وتعالى } عن كل شريك ، وعما قاله هؤلاء الجاهلون من أن الأصنام شفعاء عنده .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد وبخت المشركين على عبادتهم لغير الله وعلى جهالاتهم وتقولهم على الله بغير علم .
ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ، ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتُها عند الله ، فأخبر تعالى أنها لا تنفع ولا تضر ولا تملك شيئا ، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها ، ولا يكون هذا أبدا ؛ ولهذا قال تعالى : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } .
وقال ابن جرير : معناه أتخبرون{[14135]} الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض ؟ ثم نزه نفسه عن شركهم وكفرهم ، فقال : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس ، كائن بعد أن لم يكن ، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد ، وهو الإسلام ؛ قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام ، ثم وقع الاختلاف بين الناس ، وعُبدت الأصنام والأنداد والأوثان ، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحُجَجه البالغة وبراهينه الدامغة ، { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] .
{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } فإنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر ، { ويقولون هؤلاء } الأوثان . { شفعاؤنا عند الله } تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا أو في الآخرة إن يكن بعث ، وكأنهم كانوا شاكين فيه وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضار النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضر ولا ينفع على توهم أنه ربما يشفع لهم عنده . { قل أتنبّئون الله } أتخبرونه . { بما لا يعلم } وهو أن له شريكا أو هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له تحقق ما وفيه تقريع وتهكم بهم . { في السماوات ولا في الأرض } حال من العائد المحذوف مؤكدة للنفي منبهة على أن ما يعبدون من دون الله إما سماوي وإما أرضي ، ولا شيء من الموجودات فيهما إلا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به . { سبحانه وتعالى عما يشركون } عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به . وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الموضعين في أول " النحل " و " الروم " بالتاء .
وقوله { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم } الآية ، الضمير في { يعبدون } عائد على الكفار من قريش الذين تقدّمت محاورتهم ، و { ما لا يضرهم ولا ينفعهم } هي الأصنام ، وقولهم { هؤلاء شفعاؤنا } هو مذهب النبلاء منهم ، فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقررهم ويوبخهم أهم يعلمون الله بأنباء من السماوات والأرض لا يعلمها هو ؟ وذكر { السماوات } لأن العرب من يعبد الملائكة والشعرى ، وبحسب هذا حسن أن يقول { هؤلاء } وقيل ذلك على تجوز في الأصنام التي لا تعقل ، وفي التوقيف على هذا أعظم غلبة لهم ، ولا يمكنهم ألا أن يقولوا : لا نفعل ولا نقدر ، وذلك لهم لازم من قولهم : { هؤلاء شفعاؤنا } ، و { سبحانه } استئناف تنزيه لله عز وجل ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر هنا : «عما يشركون » بالياء على الغيبة ، وفي حرفين في النحل وحرف في الروم وحرف في النمل{[6050]} ، وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك نافع والحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش ، وقرأ ابن كثير ونافع هنا وفي النمل فقط «تشركون » بالتاء على مخاطبة الحاضر ، وقرأ حمزة والكسائي الخمسة الأحرف بالتاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم} إن تركوا عبادتهم، {ولا ينفعهم} إن عبدوها... قالوا: نعبدها لتشفع لنا يوم القيامة، فذلك قوله: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك يا محمد صفتهم من دون الله الذي لا يضرّهم شيئا ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها. "وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ "يعني أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قُلْ لَهُمْ أتُنَبّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السّمَوَاتِ وَلا في الأرْضِ" يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض، وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما، وذلك باطل لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضرّ. "سُبْحانَهُ وَتَعَالى عَمّا يُشْرِكُونَ" يقول: تنزيها لله وعلوّا عما يفعله هؤلاء المشركون من إشراكهم في عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع وافترائهم عليه الكذب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (ما لا يضرهم): ما يملكون الضرر بهم، (ولا ينفعهم): أي ولا يملكون جر النفع إليهم. يسفههم في عبادتهم من لا يملك دفع الضر عنهم، ولا يملك جر النفع إليهم وتركهم عبادة من به يكون جميع منافعهم وغذائهم، ومنه يكون كل خوف وضر، والله أعلم.
وقوله تعالى: (وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) يحتمل هذا القول منهم تقليدا لآبائهم كقولهم: (وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) [الأعراف: 28] ظنوا أن آباءهم لما لم يتركوا ما هم عليه لم يعذبوا، وأنهم على الحق، وأن الله قد رضي بذلك...
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) يقول: أتنبئون اللَّه أي أتخبرون اللَّه بما لا يعلم، أي: تعلمون أنه عالم، أي: أتُعِّلمون من تَعْلمون أنه يعلم ما ذكر وأنتم لا تعلمون ذلك، وقد تعلمون أنه لو كان كذلك لكان هو أعلم به منكم.
والثاني: أن تقولوا ما لا يعلم، أي: يعلم أنه ليس كما تقولون كقول الناس: ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لا يكون، أي: ما شاء ألا يكون لا يكون.
وقوله: (سُبْحَانَهُ): كلمة جعلت لإجلال اللَّه عما يحتمله غيره من الأشكال والأضداد، ومن العيوب والآفات، وهو في هذا الموضع يتوجه إلى وجهين إذ كانوا يعبدون ما ذكر ويقولون: هم شفعاؤنا عند اللَّه، فيقول: سبحانه أن يجعل لأمثال أُولَئِكَ شفاعة عنده؛ إذ الشفيع يكون من له منزلة وقدر عند من يشفع له، والمنزلة تكون للعبيد بما يتعبدهم، فيقومون بتوفير ما يحتمل وسعهم من العبادة، فأما من لا يحتمل التعبد فهو بعيد عما ذكر يعني سبحانه أن يجعل الشفاعة لمن ذكر دون الأنبياء والرسل، وهم قد أخبروا أنها لا تملك ضرا ولا نفعًا، وفي الشفاعة ذلك.
والثاني: أن يكون عما أشركوا في العبادة، فسبحانه عن أن يكون معه معبود أو يأذن لأحد بعبادة غيره، واللَّه أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى على وجه الذم للكفار بأنهم يوجهون عبادتهم إلى من هو دون الله من الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع. فإن قيل: كيف ذمهم على عبادة الوثن الذي لا ينفع ولا يضر مع أنه لو نفع وضر لم تجز عبادته؟! قلنا: لأنه إذا كان من يضر وينفع قد لا يستحق العبادة إذا لم يقدر على أصول النعم، فمن لا يقدر على النفع والضر أصلا أبعد من أن يستحق العبادة. "ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله "إخبار منه تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم يقولون إنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله، فتوهموا أن عبادتها أشد في تعظيم الله من قصده تعالى بالعبادة، فحلت من هذه الجهة محل الشافع عند الله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ومعنى قوله: {لاَ يَعْلَمُ}: خلافه. ومَنْ تَعَلَّقَ قلبُه بالمخلوقين في استدفاع المضَارِّ واستجلاب المسَارِّ فكالسالِك سبيلَ مَنْ عَبَدَ الأصنام؛ إذ المنْشِئُ والموجِدُ للشيء مِنَ العَدم هو الله- سبحانه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ} أتخبرونه بكونكم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم المحيط بجميع المعلومات، لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم [به] ويخبر عنه، فكان خبراً ليس له مخبر عنه.
وقوله: {فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} تأكيد لنفيه؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم..
اعلم أنا ذكرنا أن القوم إنما التمسوا من الرسول صلى الله عليه وسلم قرآنا غير هذا القرآن أو تبديل هذا القرآن لأن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي جعلوها آلهة لأنفسهم، فلهذا السبب ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما يدل على قبح عبادة الأصنام، ليبين أن تحقيرها والاستخفاف بها أمر حق وطريق متيقن. واعلم أنه تعالى حكى عنهم أمرين: أحدهما: أنهم كانوا يعبدون الأصنام. والثاني: أنهم كانوا يقولون: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله}
أما الأول فقد نبه الله تعالى على فساده بقوله: {ما لا يضرهم ولا ينفعهم} وتقريره من وجوه:
الأول: قال الزجاج: لا يضرهم إن لم يعبدوه ولا ينفعهم إن عبدوه.
الثاني: أن المعبود لا بد وأن يكون أكمل قدرة من العابد، وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر البتة، وأما هؤلاء الكفار فهم قادرون على التصرف في هذه الأصنام تارة بالإصلاح وأخرى بالإفساد، وإذا كان العابد أكمل حالا من المعبود كانت العبادة باطلة.
الثالث: أن العبادة أعظم أنواع التعظيم، فهي لا تليق إلا بمن صدر عنه أعظم أنواع الأنعام، وذلك ليس إلا الحياة والعقل والقدرة ومصالح المعاش والمعاد، فإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله سبحانه وتعالى، وجب أن لا تليق العبادة إلا بالله سبحانه.
وأما قوله تعالى: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون}.
اعلم أن المفسرين قرروا وجها واحدا، وهو أن المراد من نفي علم الله تعالى بذلك تقرير نفيه في نفسه، وبيان أنه لا وجود له البتة، وذلك لأنه لو كان موجودا لكان معلوما لله تعالى، وحيث لم يكن معلوما لله تعالى وجب أن لا يكون موجودا، ومثل هذا الكلام مشهور في العرف، فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول: ما علم الله هذا مني، ومقصوده أنه ما حصل ذلك قط... أما قوله: {سبحانه وتعالى عما يشركون} فالمقصود تنزيه الله تعالى نفسه عن ذلك الشرك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ويجوز أن يكون {ويعبدون} حالاً من {الذين لا يرجون لقاءنا} أي قالوا ذلك عابدين {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال الذي ثبت عندهم أن هذا القرآن كلامه لعجزهم عن معارضة شيء منه وهو ينهاهم عن عبادة غيره وهم يعلمون قدرته على الضر والنفع.
ولما كان السياق للتهديد والتخويف، قدم الضر لذلك وتنبيهاً لهم على أنهم مغمورون في نعمه التي لا قدرة لغيره على منع شيء منها، فعليهم أن يقيدوها بالشكر فقال: {ما لا يضرهم} أي أصلاً من الأصنام وغيرها {ولا ينفعهم} في معارضة القرآن بتبديل أو غيره ولا في شيء من الأشياء، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية وإلا كانت عبادته عبثاً، معرضين عما جاءهم من الآيات البينات من عند من يعلمون أنه يضرهم وينفعهم ولا يملك شيئاً من ذلك أحد سواه، وقد أقام الأدلة على ذلك غير مرة، وفي هذا غاية التبكيت لهم بمنابذة العقل مع ادعائهم رسوخ الأقدام فيه وتمكن المجال منه؛ والعبادة: خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع؛ ثم عجب منهم تعجيباً آخر فقال: {ويقولون} أي لم يكفهم قول ذلك مرة من الدهر حتى يجددوا قوله مستمرين عليه: {هؤلاء} أي الأصنام أو غيرهم {شفعاؤنا} أي ثابتة شفاعتهم لنا {عند الله} أي الملك الأعظم الذي لا يمكن الدنو من شيء من حضرته إلا بإذنه، وقد مضى إبطال ما تضمنته هذه المقالة في قوله تعالى {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} وفيه تخجيلهم في العجز عن تبديل القرآن أو الإتيان بشيء من مثله حيث لم تنفعهم في ذلك فصاحتهم ولا أغنت عنهم شيئاً بلاغتهم، وأعوزهم في شأنه فصحاءهم، وضل عنهم شفعاءهم، فدل ذلك قطعاً على أنه ما من شفيع إلا بإذنه من بعد، فكأنه قال: بماذا أجيبهم؟ فقال: {قل} منكراً عليهم هذا العلم {أتنبئون} أي تخبرون إخباراً عظيماً {الله} وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كمال {بما لا يعلم} أي لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات {في السماوات} ولما كان الحال مقتضياً لغاية الإيضاح، كرر النافي تصريحاً فقال: {ولا في الأرض} وفي ذلك من الاستخفاف بعقولهم مما لا يقدرون على الطعن فيه بوجه ما يخجل الجماد، فإن ما لا يكون معلوماً لله لا يكون له وجود أصلاً، فلا نفي أبلغ من هذا كما أنك إذا بالغت في نفي شيء عن نفسك تقول: هذا شيء ما علمه الله مني.
ولما بين تعالى هنا ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ختم ذلك بتنزيه نفسه بقوله: {سبحانه} أي تنزه عن كل شائبة نقص تنزهاً لا يحاط به {وتعالى} أي وفعل بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال فعل المبالغ في التنزه {عما يشركون} أي يوجدون الإشراك به.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية في دحض شبهتهم على عبادة غير الله تعالى، وهي الشفاعة، وتقدم في الآية الثالثة بطلانها، وإقامة الحجة على وجوب عبادة الرب الخالق المدبر وحده، وصرح هنا بإسناد هذا الشرك إليهم، وباحتجاجهم عليه بالشفاعة، ثم لقن رسوله الحجة على بطلان هذا الاحتجاج، فقال:
{ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنفَعُهُمْ} الكلام معطوف على ما قبله من بيان شركهم وسخافتهم فيه، ومكابرتهم في جحود الحق الذي دعاهم إليه الوحي، أي ويعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا من الأصنام وغيرها من دون الله، أي غير الله، والمعنى أنهم يعبدونها حال كونهم متجاوزين ما يجب من عبادته وحده، لا أنهم يعبدونها وحدها، فما معنى كونهم مشركين إلا أنهم يبعدونه ويعبدون غيره. {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106]، وفي وصفها بأنها لا تضرهم ولا تنفعهم إيذان بسبب عبادتها وضلالهم فيه، وتذكير بأنه هو القادر على نفع من يعبده، وضر من يكفره ويشرك بعبادته غيره في الدنيا والآخرة.
وأصل غريزة العبادة الفطرية في البشر في سذاجتهم -التي لا تلقين فيها لحق ولا باطل- هي الشعور الباطن بأن في الوجوه قوة غيبية وسلطانا علويا على التصرف في الخلق بالنفع لمن شاء، وإيقاع الضر على من شاء، وكشفه بعد وقوعه عمن شاء، غير مقيد في ذلك بسبب من الأسباب المسخرة للناس، فمن اطلع على تواريخ البشر في كل طور من أطوار حياتهم البدوية والحضرية يظهر له أن هذا هو أصل التدين الغريزي فيهم، وأما صور التعبد وتسمية المعبودات فمنها ما هو من اجتهادهم، ومنها ما هو من تلقين دعاة الدين فيهم من الأنبياء وغيرهم، فكل ما عبد من دون الله بالرأي والاجتهاد فإنما عبده من عبده لشبهة فهم منها قدرته على النفع والضر بسلطان له فوق الأسباب، وقد بينا ذلك في مواضع أخرى، أولها تفسير العبادة من سورة الفاتحة، وأوسطها وأبسطها تفسير قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع أبيه آزر من سورة الأنعام، ومن آخرها في تفسير هذه السورة ما جاء في بيان الركن الأول من أركان الدين، وفي الكلام على الخوارق من بحث الوحي الاستطرادي.
فليس المراد من كون هذه المعبودات لا تضرهم ولا تنفعهم هو بيان عجزها عن النفع والضر؛ لأنها إما جمادات مصنوعة -كالأوثان المتخذة من الحجارة أو الخشب، والأصنام المتخذة من المعادن وكذا الحجارة- أو غير مصنوعة –كاللات، وهي صخرة كانت بالطائف يلت عليها السويق ثم عظمت حتى عبدت- وإما أشجار- كالعزى معبودة قريش...- فإن أكثر الأوثان والأصنام قد وضعت ذكرى لبعض الصالحين من البشر -كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه في أصنام قوم نوح- ثم انتقلت عبادتهم إلى العرب، وكانوا يعتقدون أن فيها أرواحا من الجن- كما روي في حديث قطع شجرة العزى، أو شجراتها الثلاث- إذ ظهرت عند قطعها لخالد بن الوليد امرأة سوداء عريانة ناشرة شعرها، كانوا يزعمون أنها جنية، فأرادت أن تواثبه وتخيفه فقتلها، فهي كالقبور التي تشرف وتجصص، ويوضع عليها الستور، وتبنى عليها القباب لمثل السبب الذي وضعوا له تماثيل الأوثان، وعبدة هذه القبور يعتقدون أن المدفونين فيها أحياء يقضون حاجات من يدعونهم ويستغيثونهم، وعلماء الخرافات يقولون لهم: إن عملهم هذا شرعي.
نعم ليس المراد هنا من نفي ضرها ونفعها أنها جمادات لا عمل لها فقط كما قيل- وإن كانت الحجة على عبادة هذه الأصنام أظهر من الحجة على عبادة الثعابين والبقر والقرود، ولا يزال لها بقية في الهند، وعلى عبادة البشر التي هي أساس النصرانية الآرية التي وضعها الإمبراطور قسطنطين، ومن اتبع سنن النصارى والهنود من جهلة المسلمين- وإنما المراد المقصود بالذات بيان بطلان الشرك بالألوهية- وهو عبادة غير الله مهما يكن المعبود- وبطلان الشرك بالربوبية -وهو قسمان ادعاء وساطتهم في الخلق والتدبير، واحتجاجهم عليه بشفاعتهم عند الله- وهو كذب في التشريع الذي هو حق الرب وحده، ولا يعلم إلا بوحيه. بيان الأول أن كل ما عبد ومن عبد من دون الله -حتى الجن والملائكة- لا يملكون لعابديهم النفع والضر بالقدرة الذاتية الغيبية التي هي فوق الأسباب التي منحها الخالق للمخلوقات على اختلاف أنواعها، لا بذواتهم وكراماتهم ولا بتأثير خاص لهم عند الخالق يحملونه به على نفع من شاءوا، أو ضر من شاءوا، أو كشف الضر عنه، كما يعتقد عباد الأنبياء والأولياء من البشر إلى هذا اليوم، ولهذا أمر الله تعالى رسوله أن يحتج على النصارى في عبادتهم للمسيح عليه السلام بقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولاَ نَفْعاً واللّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]، وهذه حجة على عبدة القبور وعلى أصحاب العمائم الذي يتأولون لهم عبادتهم بما يظنون أنه يبعدهم عن عباد الأصنام، بقولهم: إن هؤلاء الأولياء أحياء عند ربهم كالشهداء، فهم يضرون وينفعون لا كالأصنام، ولكن الله تعالى يقول للنصارى: إن المسيح لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعبادتهم له على ما آتاه من المعجزات، وإن هؤلاء الدجالين من الشيوخ يؤمنون بأن المسيح أفضل من البدوي والحسين والسيدة زينب وغيرهم ممن يزعمون أنهم يملكون الضر والنفع لمن يطلبه منهم، وحياته لا تزال في اعتقادهم حياة عنصرية وحياتهم برزخية، ومعجزاته قطعية وكراماتهم غير قطعية.
كذلك أمر الله تعالى رسوله خاتم النبيين وأفضلهم أن يخبر الناس بنفي ملكه لضر الناس ونفعهم وهو حي كما يأتي في الآية (49) من هذه السورة، وسبق مثلها في سورة الأعراف (188).
{وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} أي ويقولون في سبب عبادتهم لهم- مع اعتقادهم أنهم لا يملكون الضر والنفع بأنفسهم؛ لإيمانهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى-: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فنحن نعبدهم بتعظيم هياكلهم وتطييبها بالعطر والطواف بها، وبتقديم النذور لهم، والإهلال عند ذبح القرابين بأسمائهم، وبدعائهم والاستغاثة بهم، لأنهم شفعاؤنا عند الله، يقربوننا إليه زلفى، فيدفع بجاههم عنا البلاء، ويعطينا ما نطلب من النعماء، هذا ما يقوله منكرو البعث منهم، وهم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى في الآخرة، على أنهم إذا فرضوا وجودها زعم مجرموهم أنهم يكونون فيها كما كانوا في الدنيا كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وأَوْلَاداً ومَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] وقوله في الإنسان الكافر {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ومَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ولَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50]، وروي عن عكرمة أن النضر بن الحارث من كبار مجرميهم قال: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى. وكذلك كل من يؤمن بالآخرة -ممن يعبدون غير الله- يعتقدون أن معبوديهم يشفعون لهم فيها كما يشفعون لهم في الدنيا، فإن أساس عقيدة الشرك أن جميع ما يطلبونه من الله لا بد أن يكون بواسطة المقربين عنده؛ لأنهم لا يمكنهم القرب من الله والحظوة عنده بأنفسهم؛ لأنها مدنسة بالمعاصي، بخلاف دين التوحيد فإنه يوجب على العاصي أن يتوجه إلى الله وحده تائبا إليه طالبا مغفرته ورحمته.
{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاواتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ}، أي قل لهم أيها الرسول مُنكِرا عليهم جهالتهم وافتراءهم على ربهم: أتخبرون الله تعالى وتعلمونه بشيء لا يعلمه من أمر هؤلاء الشفعاء في السماوات من ملائكته ولا في الأرض من خواص خلقه؟ فإنه لو كان فيهما شفعاء يشفعون لكم عنده لكان أعلم بهم منكم، فإنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فكيف يخفى عليه من لهم من المكانة عنده أن جعلهم وسطاء بينه وبين خلقه في قضاء حاجاتهم من نفع وضر، وفي تقريبهم إليه زلفى، كالوسطاء عند ملوك البشر الجاهلين بأمور رعيتهم، والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم بدون وساطة الوزراء والحجاب والقواد؟
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزيها له وتعالى علوا كبرا عما يشركون به من الشفعاء والوسطاء، وما يفترونه عليه بجعلهم هذا دينا يتقرب به إليه، فهذا تذييل للجواب مبين لما في هذا الشرك من إهانة مقام الربوبية والألوهية، وتشبيه رب العالمين بعبيده من الملوك الجاهلين العاجزين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فهذه قصة أخرى من قصص أحوال كفرهم أن قالوا: {ائت بقرآن غير هذا} [يونس: 15] حين تتلى عليهم آيات القرآن، ومن كفرهم أنهم يعبدون الأصنام ويقولون: {هم شفعاؤنا عند الله}. والمناسبة بين القصتين أن في كلتيهما كفراً أظهروه في صورة السخرية والاستهزاء وإيهام أن العذر لهم في الاسترسال على الكفر، فلعلهم (كما أوهموا أنه إنْ أتاهم قرآن غيرُ المتلو عليهم أو بُدل ما يرومون تبديلَه آمنوا) كانوا إذا أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعذاب الله قالوا: تشفع لنا آلهتنا عند الله.
وإيثار اسم الموصول في قوله: {ما لا يضرهم ولا ينفعهم} لما تؤذن به صلة الموصول من التنبيه على أنهم مُخطئون في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، وفيه تمهيد لعطف {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} لتحقير رأيهم من رجاء الشفاعة من تلك الأصنام، فإنها لا تقدر على ضر ولا نفع في الدنيا فهي أضعف مقدرة في الآخرة.
{هؤلاء شفعاؤنا عند الله} فاعترفوا بأن المتصرف هو الله.
وقُدم ذكر نفي الضر على نفي النفع لأن المطلوب من المشركين الإقلاع عن عبادة الأصنام وقد كان سدنتها يخوفون عبدَتها بأنها تُلحق بهم وبصبيانهم الضر، كما قالت امرأة طفيل بن عمرو الدوسي حين أخبرها أنه أسلم ودعاها إلى أن تُسلم فقالت: « أما تخشى على الصبية من ذي الشَّرى». فأريد الابتداء بنفي الضر لإزالة أوهام المشركين في ذلك الصَّادَّة لكثير منهم عن نبذ عبادة الأصنام.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} به من أصنامٍ وأشخاصٍ وموجوداتٍ، لأنه لا شيء هناك من هذه الأشياء أو غيرها إلا وهو مخلوق له، فكيف يمكن أن يرقى إلى مستوى الشريك.