قوله تعالى : { لكم فيها } أي : في البدن قبل تسميتها للهدي ، { منافع } في درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها ، { إلى أجل مسمى } وهو أن يسميها ويوجبها هدياً ، فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها ، هذا قول مجاهد ، وقول قتادة و الضحاك ، ورواه مقسم عن ابن عباس . وقيل : معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا بأن تركبوها وتشربوا ألبانها عند الحاجة ( إلى أجل مسمى ) ، يعني : إلى أن تنحروها ، وهو قول عطاء بن أبي رباح . واختلف أهل العلم في ركوب الهدي : فقال قوم : يجوز له ركوبها والحمل عليها غير مضر بها ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا أبو علي زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال :اركبها ، فقال : إنها بدنة . قال : اركبها فقال : إنها بدنة . قال اركبها ويلك ، في الثانية أو الثالثة ، وكذلك قال له : اشرب لبنها بعدما فضل عن ري ولدها " . وقال أصحاب الرأي : لا يركبها . وقال قوم : لا يركبها إلا أن يضطر إليه . وقال بعضهم : أراد بالشعائر المناسك ومشاهد مكة . ( لكم فيها منافع ) بالتجارة والأسواق ( إلى أجل مسمى ) وهو الخروج من مكة . وقيل : لكم فيها منافع بالأجر والثواب في قضاء المناسك . ( إلى أجل مسمى ) أي : إلى انقضاء أيام الحج . { ثم محلها } أي : منحرها ، { إلى البيت العتيق } أي : منحرها عند البيت العتيق ، يريد أرض الحرم كلها ، كما قال : { فلا يقربوا المسجد الحرام } أي : الحرم كله . وروي عن جابر في قصة حجة الوداع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم " . ومن قال : الشعائر : المناسك ، قال : معنى قوله { ثم محلها إلى البيت العتيق } أي : محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق ، أي : أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر .
وقوله - سبحانه - : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } . بيان لبعض مظاهر نعم الله - تعالى - عليهم فى هذه الأنعام .
أى : لكم - أيها المؤمنون - فى تلك الأنعام التى تقدمونها قربة لله - تعالى - " منافع " تصل إليكم عن طريق ركوبها ولبنها ونسلها . . . وهذه المنافع موقوتة إلى وقت معين ، هو وقت ذبحها أو وقعت تعيبنها وتسميتها هديا ، أما بعد ذلك فاتركوا الانتفاع بها للفقراء والمحتاجين ، فهذا أكثر ثوابا لكم عند الله - تعالى - .
وقوله - سبحانه - { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } بيان لمكان ذبحها .
والمحل مأخوذ من حل الشىء يحل - بالكسر - حلولا إذا وجب أو انتهى أجله . والمراد به فى الآية مكان الحلول ، أى : المكان الذى ينتهى فيه أجل تلك الأنعام ، أو المكان الذى يجب ذبحها فيه .
والمعنى : لكم فى تلك الأنعام منافع إلى أجل مسمى ثم المكان الذى تذبح فيه منته إلى البيت العتيق . ومتصل به .
والمقصود بهذا المحل الحرم كله ، لأن البيت ليس مكانا للذبح .
وبعضهم يرى أن المراد بالمحل فى قوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } : تحلل الحجاج من إحرامهم بعد أداء شعائر الحج المعبر عنها بقوله - تعالى - : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله . . . } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } يريد أنها تنتهى إلى البيت ، وهو الطواف فقوله : { مَحِلُّهَآ } مأخوذ من إحلال المحرم .
والمعنى : أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمى الجمار والسعى ينتهى إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق . فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه . .
قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي : لكم في البدن منافع ، من لبنها ، وصوفها وأوبارها وأشعارها ، وركوبها .
{ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } : قال مِقْسَم ، عن ابن عباس [ في قوله ]{[20208]} : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } قال : ما لم يسم بدنا .
وقال مجاهد في قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } ، قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سُمّيت بَدنَةً أو هَديًا ، ذهب ذلك كله . وكذا قال عطاء ، والضحاك ، وقتادة ، [ ومقاتل ]{[20209]} وعطاء الخراساني ، وغيرهم .
وقال آخرون : بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا ، إذا احتاج إلى ذلك ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدَنَةً ، قال : " اركبها " . قال : إنها بَدنَة . قال : " اركبها ، ويحك " ، في الثانية أو الثالثة{[20210]} .
وفي رواية لمسلم ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اركبها بالمعروف إذا ألجئتَ إليها " {[20211]} .
وقال شعبة ، عن زهير بن أبي ثابت الأعمى ، عن المغيرة بن حَذْف ، عن علي ؛ أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها ، فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها ، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدَها .
وقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أي : مَحِل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق ، وهو الكعبة ، كما قال تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، وقال { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] .
وقد تقدم الكلام على معنى " البيت العتيق " قريبا ، ولله الحمد{[20212]} .
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء : كان ابن عباس يقول : كل من طاف بالبيت ، فقد حل ، قال الله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ مَحِلّهَآ إِلَىَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكر الله في هذه الاَية وأخبر عباده أنها إلى أجل مسمى ، على نحو اختلافهم في معنى الشعائر التي ذكرها جلّ ثناؤه في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ فقال الذين قالوا عني بالشعائر البدن . معنى ذلك : لكم أيها الناس في البدن منافع . ثم اختلف أيضا الذين قالوا هذه المقالة في الحال التي لهم فيها منافع ، وفي الأجل الذي قال عزّ ذكره : إلى أجَلٍ مُسَمّى فقال بعضهم : الحال التي أخبر الله جلّ ثناؤه أن لهم فيها منافع ، هي الحال التي لم يوجبها صاحبها ولم يسمها بدنة ولم يقلّدْها . قالوا : ومنافعها في هذه الحال : شرب ألبانها ، وركوب ظهورها ، وما يرزقهم الله من نتاجها وأولادها . قالوا : والأجل المسمى الذي أخبر جلّ ثناؤه أن ذلك لعباده المؤمنين منها إليها ، هو إلى إيجابهم إياها ، فإذا أوجبوها بطل ذلك ولم يكن لهم من ذلك شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : ما لم يُسَمّ بُدْنا .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب كله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في هذه الاَية : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : لكم في ظهورها وألبانها وأوبارها ، حتى تصير بُدْنا .
قال : حدثنا ابن عديّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، وليث عن مجاهد : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : في أشعارها وأوبارها وألبانها ، قبل أن تسميها بدنة .
قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : في البدن لحومها وألبانها وأشعارها وأوبارها وأصوافها قبل أن تسمى هديا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، وزاد فيه : وهي الأجل المسمى .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء أنه قال في قوله : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْت العَتِيق قال : منافع في ألبانها وظهورها وأوبارها ، إلى أجَلٍ مُسَمّى : إلى أن تقلد .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثل ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : قال ابن علية : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله : لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : إلى أن تُوجِبها بَدَنة .
قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن قَتادة : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى يقول : في ظهورها وألبانها ، فإذا قلدت فمحلها إلى البيت العتيق .
وقال آخرون ممن قال الشعائر البدن في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ والهاء في قوله : لَكُمْ فِيها من ذكر الشعائر ، ومعنى قوله : لَكُمْ فِيها مَنافعُ لكم في الشعائر إلى تعظمونها لله منافع بعد اتخاذكموها لله بدنا أو هدايا ، بأن تركبوا ظهورها إذا احتجتم إلى ذلك ، وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها . قالوا : والأجل المسمى الذي قال جلّ ثناؤه : إلى أجَل مُسَمّى إلى أن تنحر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : هو ركوب البدن ، وشرب لبنها إن احتاج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح في قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : إلى أن تنحر ، قال : له أن يحملها عليها المُعِيْي والمنقطع به من الضرورة ، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركب عند منهوكه . قلت لعطاء : ما ؟ قال : الرجل الراجل ، والمنقطع به ، والمتبع وإن نتجت ، أن يحمل عليها ولدها ، ولا يشرب من لبنها إلا فضلاً عن ولدها ، فإن كان في لبنها فضل فليشرب من أهداها ومن لم يهدها .
وأما الذين قالوا : معنى الشعائر في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله : شعائر الحجّ ، وهي الأماكن التي يُنْسك عندها لله ، فإنهم اختلفوا أيضا في معنى المنافع التي قال الله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ فقال بعضهم : معنى ذلك : لكم في هذه الشعائر التي تعظمونها منافع بتجارتكم عندها وبيعكم وشرائكم بحضرتها وتسوّقكم . والأجل المسمى : الخروج من الشعائر إلى غيرها ومن المواضع التي ينسك عندها إلى ما سواها في قول بعضهم .
حدثني الحسن بن عليّ الصّدائَي ، قال : حدثنا أبو أسامة عن سليمان الضبي ، عن عاصم بن أبي النّجود ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، في قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ قال : أسواقهم ، فإنه لم يذكر منافع إلا للدنيا .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، قوله : لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : والأجل المسمى : الخروج منه إلى غيره .
وقال آخرون منهم : المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع : العمل لله بما أمر من مناسك الحجّ . قالوا : والأجل المسمّى : هو انقضاء أيام الحجّ التي يُنْسَك لله فيهنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى ثُمّ مَحِلّها إلى الَبْيتَ العَتِيق فقرأ قول الله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب لكم في تلك الشعائر منافع إلى أجل مسمى ، إذا ذهبت تلك الأيام لم تر أحدا يأتي عرفة يقف فيها يبتغي الأجر ، ولا المزدلفة ، ولا رمي الجمار ، وقد ضربوا من البلدان لهذه الأيام التي فيها المنافع ، وإنما منافعها إلى تلك الأيام ، وهي الأجل المسمى ، ثم محلّها حين تنقضي تلك الأيام إلى البيت العتيق .
قال أبو جعفر : وقد دللنا قبل على أن قول الله تعالى ذكره : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ معنيّ به : كلّ ما كان من عمل أو مكان جعله الله علما لمناسك حجّ خلقه ، إذ لمن يخصص من ذلك جلّ ثناؤه شيئا في خبر ولا عقل . وإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن معنى قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى في هذه الشعائر منافع إلى أجل مسمى ، فما كان من هذه الشعائر بدنا وهديا ، فمنافعها لكم من حين تملكون إلى أن أوجبتموها هدايا وبدنا ، وما كان منها أماكن ينسك لله عندها ، فمنافعها التجارة لله عندها والعمل بما أمر به إلى الشخوص عنها ، وما كان منها أوقاتا بأن يُطاع الله فيها بعمل أعمال الحجّ وبطلب المعاش فيها بالتجارة ، إلى أن يطاف بالبيت في بعض ، أو يوافى الحرم في بعض ويخرج عن الحرم في بعض .
وقال اختلف الذين ذكرنا اختلافهم في تأويل قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى في تأويل قوله : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ فقال الذين قالوا عني بالشعائر في هذا الموضع البُدْن : معنى ذلك ثم محل البدن إلى أن تبلغ مكة ، وهي التي بها البيت العتيق . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ إلى مكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ يعني محل البدن حين تسمى إلى البيت العتيق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جرَيج ، عن مجاهد ، قال : ثُمّ مَحِلّها حين تسمى هديا إلى البيت العتيق ، قال : الكعبة أعتقها من الجبابرة .
فوجه هؤلاء تأويل ذلك إلى ثَمّ منحر البدن والهدايا التي أوجبتموها إلى أرض الحرم . وقالوا : عني بالبيت العتيق أرض الحرم كلها . وقالوا : وذلك نظير قوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ والمراد : الحرم كله .
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم محلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلى البيت العتيق أن تطوفوا به يوم النحر بعد قضائكم ما أوجبه الله عليكم في حجكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ قال : محلّ هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت .
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم محلّ منافع أيام الحجّ إلى البيت العتيق بانقضائها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ حين تنقضي تلك الأيام ، أيام الحجّ إلى البيت العتيق .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ثم محلّ الشعائر التي لكم فيها منافع إلى أجل مسمى إلى البيت العتيق ، فما كان من ذلك هديا أو بدنا فبموافاته الحرم في الحرم ، وما كان من نُسُك فالطواف بالبيت .
ثم اختلف المتألون في قوله { لكم فيها منافع } الآية ، فقال مجاهد وقتادة : أراد أن للناس في أنعامهم منافع من الصوف واللبن وغير ذلك ما لم يبعثها ربها هدياً فإذا بعثها فهو «الأجل المسمى » ، وقال عطاء بن أبي رباح : أراد في الهدي المبعوث منافع من الركوب والاحتلاب لمن اضطر ، و «الأجل » نحرها وتكون { ثم } لترتيب الجمل ، لأن المحل قبل الأجل ومعنى الكلام عند هاتين الفرقتين { ثم محلها } إلى موضع النحر فذكر { البيت } لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره ، وقال ابن زيد وابن عمر والحسن ومالك : «الشعائر » في هذه الآية مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك ، وفي الآية التي تأتي أن البدن من الشعائر ، و «المنافع » التجارة وطلب الرزق ، ويحتمل أن يريد كسب الأجر والمغفرة ، وبكل احتمال قالت فرقة و «الأجل » الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله ، { محلها } مأخوذ من إحلال المحرم ومعناه ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة ب { البيت العتيق } ، ف { البيت } على هذا التأويل مراد بنفسه ، قاله مالك في الموطأ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لكم فيها} في البدن {منافع} في ظهورها وألبانها {إلى أجل مسمى} يقول: إلى أن تقلد، أو تشعر، أو تسمى هديا، فهذا الأجل المسمى، فإذا فعل ذلك بها لا يحمل عليها إلا مضطرا ويركبها بالمعروف، ويشرب فضل ولدها من اللبن، ولا يجهد الحلب حتى لا ينهك أجسامها.
{ثم محلها إلى البيت العتيق}، يعني: منحرها إلى أرض الحرم كله... ثم ينحر ويأكل ويطعم، إن شاء نحر الإبل، وإن [شاء] ذبح الغنم، أو البقر، ثم تصدق به كله، وإن شاء أكل وأمسك منه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكر الله في هذه الآية وأخبر عباده أنها إلى أجل مسمى، على نحو اختلافهم في معنى الشعائر التي ذكرها جلّ ثناؤه في قوله:"وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ"؛ فقال الذين قالوا عنى بالشعائر البدن. معنى ذلك: لكم أيها الناس في البدن منافع، ثم اختلف أيضا الذين قالوا هذه المقالة في الحال التي لهم فيها منافع، وفي الأجل الذي قال عزّ ذكره: "إلى أجَلٍ مُسَمّى"؛ فقال بعضهم: الحال التي أخبر الله جلّ ثناؤه أن لهم فيها منافع، هي الحال التي لم يوجبها صاحبها ولم يسمها بدنة ولم يقلّدْها. قالوا: ومنافعها في هذه الحال: شرب ألبانها، وركوب ظهورها، وما يرزقهم الله من نتاجها وأولادها. قالوا: والأجل المسمى الذي أخبر جلّ ثناؤه أن ذلك لعباده المؤمنين منها إليها، هو إلى إيجابهم إياها، فإذا أوجبوها بطل ذلك ولم يكن لهم من ذلك شيء... وقال آخرون ممن قال الشعائر: البدن في قوله: "وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ "والهاء في قوله: "لَكُمْ فِيها" من ذكر الشعائر، ومعنى قوله: "لَكُمْ فِيها مَنافعُ": لكم في الشعائر إلى تعظمونها لله منافع بعد اتخاذكموها لله بدنا أو هديا، بأن تركبوا ظهورها إذا احتجتم إلى ذلك، وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها. قالوا: والأجل المسمى الذي قال جلّ ثناؤه: "إلى أجَل مُسَمّى" إلى أن تنحر... وأما الذين قالوا: معنى الشعائر في قوله: "وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله": شعائر الحجّ، وهي الأماكن التي يُنْسك عندها لله، فإنهم اختلفوا أيضا في معنى المنافع التي قال الله: "لَكُمْ فِيها مَنافِعُ"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: لكم في هذه الشعائر التي تعظمونها منافع بتجارتكم عندها وبيعكم وشرائكم بحضرتها وتسوّقكم، والأجل المسمى: الخروج من الشعائر إلى غيرها، ومن المواضع التي ينسك عندها إلى ما سواها في قول بعضهم...
وقال آخرون منهم: المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع: العمل لله بما أمر من مناسك الحجّ. قالوا: والأجل المسمّى: هو انقضاء أيام الحجّ التي يُنْسَك لله فيهنّ... وقد دللنا قبل على أن قول الله تعالى ذكره: "وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ" معنيّ به: كلّ ما كان من عمل أو مكان جعله الله علما لمناسك حجّ خلقه، إذ لم يخصص من ذلك جلّ ثناؤه شيئا في خبر ولا عقل. وإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن معنى قوله: "لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى" في هذه الشعائر منافع إلى أجل مسمى؛ فما كان من هذه الشعائر بدنا وهديا، فمنافعها لكم من حين تملكون إلى أن أوجبتموها هدايا وبدنا، وما كان منها أماكن ينسك لله عندها، فمنافعها التجارة لله عندها والعمل بما أمر به إلى الشخوص عنها، وما كان منها أوقاتا بأن يُطاع الله فيها بعمل أعمال الحجّ وبطلب المعاش فيها بالتجارة، إلى أن يطاف بالبيت في بعض، أو يوافى الحرم في بعض ويخرج عن الحرم في بعض.
وقال اختلف الذين ذكرنا اختلافهم في تأويل قوله: "لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى" في تأويل قوله: "ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ"؛
فقال الذين قالوا عني بالشعائر في هذا الموضع البُدْن: معنى ذلك ثم محل البدن إلى أن تبلغ مكة، وهي التي بها البيت العتيق... فوجه هؤلاء تأويل ذلك إلى ثَمّ منحر البدن والهدايا التي أوجبتموها إلى أرض الحرم. وقالوا: عني بالبيت العتيق أرض الحرم كلها. وقالوا: وذلك نظير قوله: "فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ" والمراد: الحرم كله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم محلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلى البيت العتيق أن تطوفوا به يوم النحر بعد قضائكم ما أوجبه الله عليكم في حجكم...
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم محلّ منافع أيام الحجّ إلى البيت العتيق بانقضائها... وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ثم محلّ الشعائر التي لكم فيها منافع إلى أجل مسمى إلى البيت العتيق، فما كان من ذلك هديا أو بدنا فبموافاته الحرم في الحرم، وما كان من نُسُك فالطواف بالبيت.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى أن تنحر ويتصدّق بلحومها ويؤكل منها...
والمعنى: أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وإنما يعتدّ الله بالمنافع الدينية...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا التِّجَارَةُ؛ وَيَكُونُ الْأَجَلُ عَلَى هَذَا الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَنَافِعَ الثَّوَابُ، وَالْأَجَلَ يَوْمُ الدِّينِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَنَافِعَ الرُّكُوبُ، وَالدُّرُّ وَالنَّسْلُ، وَالْأَكْلُ؛ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا الْبُدْنُ، وَالْأَجَلَ إيجَابُ الْهَدْيِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الْبُدْنُ؛ وَتَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا إمَّا من طَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِمَّا من طَرِيقِ الْأَوْلَى.
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: يُرِيدُ أَنَّهَا تَنْتَهِي إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَهُوَ الطَّوَافُ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ: إنَّ الْحَجَّ كُلَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، يَعْنِي أَنَّ شَعَائِرَ الْحَجِّ كُلَّهَا تَنْتَهِي إلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فقوله: {لكم فيها} معناه: البدن أو النعم المهداة أو مطلقاً {منافع} بالدر والنسل والظهر ونحوه فكلما كانت سمينة حسنة كانت منافعها أكثر ديناً ودنيا {إلى أجل مسمى} وهو الموت الذي قدرناه على كل نفس، أو النحر إن كانت مهداة، أو غير ذلك، وهذا تعليل للجملة التي قبله، فإن المنافع حاملة لذوي البصائر على التفكر فيها لا سيما مع تفاوتها، والتفكر فيها موصل إلى التقوى بمعرفة أنها من الله، وأنه قادر على ما يريد. وأنه لا شريك له.
ولما كانت هذه المنافع دنيوية، وكانت منفعة نحرها إذا أهديت دينية، أشار إلى تعظيم الثاني بأداة التراخي فقال: {ثم محلها} أي وقت حلول نحرها بانتهائكم بها {إلى البيت العتيق} أي إلى فنائه وهو الحرم كما قال تعالى {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95].
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {لكم فيها منافع} حال من الأنعام في قوله: {وأحلت لكم الأنعام} [الحج: 30] وما بينهما اعتراضات أو حال من {شعائر الله} [الحج: 32] على التفسير الثاني للشعائر. والمقصود بالخبر هنا: هو صنف من الأنعام، وهو صنف الهدايا بقرينة قوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق}.
والمنافع: جمع منفعة، وهي اسم النفع، وهو حصول ما يلائم ويحفّ. وجعل المنافع فيها يقتضي أنها انتفاع بخصائصها مما يراد من نوعها قبل أن تكون هدياً.
وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعاً لا يتلفها، وهو رد على المشركين إذ كانوا إذا قلّدوا الهدْيَ وأشعَرُوه حظروا الانتفاع به من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه، وغير ذلك.
وفي « الموطّأ»:"عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال: اركبها؟ فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، ويلك في الثانية أو الثالثة". والأجل المسمّى هو وقت نحرها، وهو يوم من أيام مِنى. وهي الأيام المعدودات.
والمَحِلّ: بفتح الميم وكسر الحاء مصدر ميمي من حلّ يحِلّ إذا بلغ المكان واستقرّ فيه. وهو كناية عن نهاية أمرها، كما يقال: بلغ الغاية، ونهاية أمرها النحر أو الذبح.
و {إلى} حرف انتهاء مجازي لأنها لا تنحر في الكعبة، ولكن التقرب بها بواسطة تعظيم الكعبة لأنّ الهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحجّ، والحجّ قصد البيت. قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97]، فالهدايا تابعة للكعبة، قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95] وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها، وإنما المناحر: مِنى، والمروة، وفجاج مكة أي طرقها بحسب أنواع الهدايا، وتبيينه في السنة.
وقد جاء في قوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} رد العجز على الصدر باعتبار مبدأ هذه الآيات وهو قوله تعالى: {وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت} [الحج: 26].
يعني: ما دامت هذه المسائل من شعائر الله ومن تقوى القلوب فاعملوها وعظموها، لأن لكم فيها منافع عرفتها أو لم تعرفها، وربما تعرف بعضها ولا تعرف الباقي، لأنه مستور عنك ولو أنك لا تعلم قيمة الجزاء على هذه الشعائر، فقيمة الجزاء على العمل بحسب أنفاس الإخلاص في هذا العمل... وما دامت هذه منافع إلى أجل مسمى، فلا بد أنها المنافع الدنيوية، أما المنافع الأخروية فسوف تجدها فيما بعد في الآخرة.