المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

15- واللاتي يأتين الزنا من النساء إن شهد عليهن أربعة من الرجال العادلين يمسكن في البيوت محافظة عليهم ودفعاً للفساد والشر حتى يأتيهن الموت أو يفتح الله لهن طريقاً للحياة المستقيمة بالزواج والتوبة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

{ واللاتي يأتين الفاحشة } . يعني : الزنا .

قوله تعالى : { من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعةً منكم } . يعني من المسلمين ، وهذا خطاب للحكام ، أي : فاطلبوا عليهن أربعةً من الشهود وفيه بيان أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود .

قوله تعالى : { فإن شهدوا فأمسكوهن } . فاحبسوهن .

قوله تعالى : { في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً } . وهذا كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود وكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم نسخ في حق البكر بالجلد والتغريب . وفي حق الثيب بالجلد والرجم .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أخبرنا الشافعي رضي الله عنه ، أخبرنا عبد الوهاب عن يونس عن الحسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً . البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) .

قال الشافعي رضي الله عنه : وقد حدثني الثقة : أن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة حطان الرقاشي ، ولا أدري أدخله عبد الوهاب فنزل عن كتابي أم لا ؟ قال شيخنا الإمام : الحديث صحيح ، رواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله عن عبادة ، ثم نسخ الجلد في حق الثيب وبقي الرجم عند أكثر أهل العلم .

وذهب طائفة إلى أنه يجمع بينهما . روي عن علي رضي الله عنه : أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس مائة ، ثم رجمها يوم الجمعة وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعامة العلماء على أن الثيب لا يجلد مع الرجم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية ولم يجلدهما . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه التغريب أيضاً منسوخ في حق البكر ، وأكثر أهل العلم على أنه ثابت .

روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب ، وغرب ، وأن أبا بكر رضي الله عنه ضرب ، وغرب ، وأن عمر رضي الله عنه ضرب ، وغرب . واختلفوا في أن الإمساك في البيت كان حداً فنسخ ، أم كان حبساً ليظهر الحد ؟ على قولين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

وبعد أن أمر - سبحانه - بالإحسان إلى النساء . وبمعاشرتهن معاشرة كريمة ، وبين حقوقهن فى الميراث ، أتبع ذلك ببيان حكمه - سبحانه - فى الرجال والنساء إذا ما ارتكبوا فاحشة الزنا فقال - تعالى - : { واللاتي يَأْتِينَ . . . . . تَوَّاباً رَّحِيماً } .

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ( 15 ) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ( 16 )

وقوله : { واللاتي } جمع التى . وهى تستعمل فى جمع من يعقل . أما إذا أريد جمع ما لا يعقل من المؤنث فإنه يقال : التى تقول : أكرمت النسوة اللاتى حضرن . وتقول : نزعت الأثواب التى كنت ألبسها . وهذا هو الرأى المختار .

وبعضهم يسوى بينهم فيقول فى الجمع المؤنث لغير العاقل : اللاتى .

وقوله { يَأْتِينَ } من الإِتيان ويطلق فى الأصل على المجئ إلى شئ . والمراد به هنا الفعل . أى واللاتى يفعلن { الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } .

والفاحشة : هي الفعلة القبيحة . وهى مصدر كالعافية . يقال فحش الرجل يفحش فحشا .

وأفحش : إذا جاء بالقبح من القول أو الفعل .

والمراد بها هنا : الزنا .

وقوله : { مِن نِّسَآئِكُمْ } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل { يَأْتِينَ } أى : يأتين الفاحشة حال كونهن من نسائكم .

والمراد بالنساء فى قوله { مِن نِّسَآئِكُمْ } : النساء اللاتى قد أحصن بالزواج سواء أكن مازلن فى عصمة أزواجهن أم لا . وهذا رأى جمهور الفقهاء . وبعضهم يرى أن المراد بالنساء هنا مطلق النساء سواء أكن متزوجات أم أبكاراً .

والمعنى : أن الله - تعالى - يبين لعباده بعض الأحكام المتعلقة بالنساء فيقول :

أخبركم - أيها المؤمنون - بأن اللاتى يأتين فاحشة الزنا من نسائكم ، بأن فعلن هذه الفاحشة المنكرة وهن متزوجات أو سبق لهن الزواج .

{ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } أى : فاطلبوا أن يشهد عليهن بأنهن أتين هذه الفاحشة المنكرة أربعة منكم أى من الرجال المسلمين الأحرار .

وقوله : { فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } أى فإن شهد هؤلاء الأربعة بأن هؤلاء النسوة قد أتين هذه الفاحشة ، فعليكم فى هذه الحالة أن تحبسوا هؤلاء النسوة فى البيوت ولا تمكنوهن من الخروج عقوبة لهن ، وصيانة لهن عن تكرار الوقوع فى هذه الفاحشة المنكرة ، وليستمر الأمر على ذلك { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } أى حتى يقبض أرواحهن الموت . أو حتى يتوفاهن ملك الموت .

وقوله : { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } أى : أو يجعل الله لهن مخرجا من هذا الإِمساك فى البيوت ، بأن يشرع لهن حكما آخر .

وقوله : { واللاتي } فى محل رفع مبتدأ . وجملة { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } خبره .

وجاز دخول الفاء الزائدة فى الخبر . لأن المبتدأ أشبه الشرط فى كونه موصولا عاما صلته فعل مستقبل .

وعبر - سبحانه - عن ارتكاب فاحشة الزنا بقوله : { يَأْتِينَ } لمزيد التقبيح والتشنيع على فاعلها : لأن مرتكبها كأنه ذهب إليها عن قصد حتى وصل إليها وباشرها .

واشترط - سبحانه - شهادة أربعة من الرجال المسلمين الأحرار ؛ لأن الرمى بالزنا من أفحش ما ترمى به المرأة والرجل ، فكان من رحمة الله وعدله أن شدد فى إثبات هذه الفاحشة أبلغ ما يكون التشديد ، فقرر عدم ثبوت هذه الجريمة إلا بشهادة أربعة من الرجال بحيث لا تقبل فى ذلك شهادة النساء .

قال الزهرى : مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء فى الحدود .

وقرر أن تكون الشهادة بالمعاينة لا بالسماع ، ولذا قال { فَإِن شَهِدُواْ } أى إن ذكروا أنهم عاينوا ارتكاب هذه الجريمة من مرتكبيها . وشهدوا على ما عاينوه وأبصروه { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت } .

وحتى فى قوله . { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } بمعنى إلى . والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وهى متعلقة بقوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ } غاية له .

والمراد بالتوفى أصل معناه أى الاستيفاء وهو القبض تقول : توفيت مالى الذى على فلان واستوفيته إذا قبضته . وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيهه بشخص يفعل ذلك . والكلام على حذف مضاف أى : حتى يقبض أرواحهن الموت . أو حتى يتوفاهن ملائكة الموت .

و " أو " فى قوله { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } ، للعطف ، فقد عطفت قوله { يَجْعَلَ } على قوله : { يَتَوَفَّاهُنَّ } فيكون الجعل غاية لإمساكهن أيضا .

فيكون المعنى . أمسكوهن فى البيوت إلى أن يتوفاهن الموت ، أو إلى أن يجعل الله لهن سبيلا أى مخرجا من هذه العقوبة .

وقد جعل الله - تعالى - هذا المخرج بما شرعه بعد ذلك من حدود بأن جعل عقوبة الزانى البكر : الجلد . وجعل عقوبة الزانى الثيب : الرجم وقد رجم النبى - صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك الأسلمى ، ورجم الغامدية ، وكانا محصنين .

قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : كان الحكم فى ابتداء الإِسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست فى بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ، ولهذا قال - تعالى - : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } الآية . فالسبيل الذى جعله الله هو الناسخ لذلك - أى لإمساكهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت - .

قال ابن عباس : كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سروة النور فنسخه بالجلد أو الرجم .

وكذلك روى عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة . وهو أمر متفق عليه .

روى الإِمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه فأنزل الله عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال : خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب بالثيب . والبكر بالبكر . الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة . والبكر جلد مائة ونفى سنة " .

وقد رواه مسلم وأصحاب السننن من طرق عبادة بن الصامت .

هذا وما ذكره ابن كثير من أن هذا الحكم كان فى ابتداء الإِسلام ، ثم نسخ بما جاء فى سورة النور وبما جاء فى حديث عبادة بن الصامت ، هو مذهب جمهور العلماء .

وقال صاحب الكشاف : ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ، ويوصى بإمساكهن فى البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال .

{ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } هو النكاح الذى يستغنين به عن السفاح وقيل السبيل : الحد ، لأنه لم يكن مشروعا فى ذلك الوقت .

وقال أبو سليمان الخطابى : هذه الآية ليست منسوخة ، لأن قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت } ألخ ، يدل على أن إمساكهن فى البيوت ممتد إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا ، وذلك السبيل كان مجملا ، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم خذوا عنى ألخ ، صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

مضى الشوط الأول من السورة ، يعالج تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بإقامة الضمانات لليتامى وأموالهم وأنفسهم في محيط الأسرة ، وفي محيط الجماعة ، يعالج نظام التووعقاب الرجال أيضا عقوبة واحدة هي حد الزنا كما ورد في آية سورة النور ، وهي الجلد ؛ وكما جاءت بها السنة أيضا ، وهي الرجم . والهدف الأخير من هذه أو تلك هو صيانة المجتمع من التلوث ، والمحافظة عليه نظيفا عفيفا شريفا .

وفي كل حالة وفي كل عقوبة يوفر التشريع الإسلامي الضمانات ، التي يتعذر معها الظلم والخطأ والأخذ بالظن والشبهة ؛ في عقوبات خطيرة ، تؤثر في حياة الناس تأثيرا خطيرا .

( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) . .

وفي النص دقة واحتياط بالغان . فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد : " من نسائكم " - أي المسلمات - ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل : " من رجالكم " - أي المسلمين - فحسب هذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل . ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه .

إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات - حين يقعن في الخطيئة - رجالا غير مسلمين . بل لا بد من أربعة رجال مسلمين . منكم . من هذا المجتمع المسلم . يعيشون فيه ، ويخضعون لشريعته ، ويتبعون قيادته ، ويهمهم أمره ، ويعرفون ما فيه ومن فيه . ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم ، لأنه غير مأمون على عرض المسلمة ، وغير موثوق بأمانته وتقواه ، ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته ، ولا على إجراء العدالة فيه . وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم ، وأصبح هو الجلد أو الرجم . .

( فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت ) . .

لا يختلطن بالمجتمع ، ولا يلوثنه ، ولا يتزوجن ، ولا يزاولن نشاطا . .

( حتى يتوفاهن الموت ) . .

فينتهي أجلهن ، وهن على هذه الحال من الإمساك في البيوت .

( أو يجعل الله لهن سبيلا ) . .

فيغير ما بهن ، أو يغير عقوبتهن ، أو يتصرف في أمرهن بما يشاء . . مما يشعر أن هذا ليس الحكم النهائي الدائم ، وإنما هو حكم فترة معينة ، وملابسات في المجتمع خاصة . وأنه يتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم . وهذا هو الذي وقع بعد ذلك ، فتغير الحكم كما ورد في سورة النور ، وفي حديث رسول الله [ ص ] وإن لم تتغير الضمانات المشددة في تحقيق الجريمة .

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت . قال : كان رسول الله [ ص ] إذا نزل عليه الوحي أثر عليه ، وكرب لذلك ، وتغير وجهه . فأنزل الله عليه عز وجل ذات يوم ، فلما سري عنه قال : " خذوا عني . . قد جعل الله لهن سبيلا . . الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر . الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة . والبكر جلد مائة ثم نفي سنة " . . وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان ، عن عبادة بن الصامت . عن النبي [ ص ] ولفظه : " خذوا عني . خذوا عني . قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام . والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " . . وقد ورد عن السنة العملية في حادث ماعز والغامدية كما ورد في صحيح مسلم : أن النبي [ ص ] رجمهما ولم يجلدهما . وكذلك في حادث اليهودي واليهودية اللذين حكم في قضيتهما ، فقضى برجمهما ولم يجلدهما . .

فدلت سنته العملية على أن هذا هو الحكم الأخير :

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

قوله { واللاتي } : اسم جمع التي ، وتجمع أيضاً على «اللواتي » ، ويقال : اللائي بالباء ، و { الفاحشة } في هذا الموضع : الزنا ، وكل معصية فاحشة ، لكن الألف واللام هنا للعهد ، وقرأ ابن مسعود «بالفاحشة » ببناء الجر وقوله : { من نسائكم } إضافة في معنى الإسلام ، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ، ولا يلحقها هذا الحكم ، وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة لا تتم إلا بأربعة شهداء ، تغليظاً على المدعي وستراً على العباد ، وقال قوم : ذلك ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وكانت هذه أول عقوبات الزناة - الإمساك في البيوت ، قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد : حتى نسخ بالأذى الذي بعده ثم نسخ ذلك بآية النور وبالرجم في الثيب وقالت فرقة : بل كان الأذى هو الأول ، ثم نسخ بالإمساك ولكن التلاوة أخرت وقدمت ، ذكره ابن فورك ، و { سبيلاً } معناه مخرجاً بأمر من أوامر الشرع ، وروى حطان بن عبد الله الرقاشي عن عمران بن حصين ، أنه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل عليه الوحي ، ثم أقلع عنه ووجهه محمر ، فقال : ( قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ){[3889]} .


[3889]:- أخرجه مسلم في الصحيح (باب الحدود 4/ 33 ط/ 1290) والإمام أحمد في مسنده 3/ 476، وانظر الجامع الصغير 2/2.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

موقع هذه الآية في هذه السورة معضل ، وافتتاحها بواو العطف أعضل ، لاقتضائه اتّصالها بكلام قبلها . وقد جاء حدّ الزنا في سورة النور ، وهي نازلة في سنة ست بعد غزوة بني المصطلق على الصحيح ، والحكم الثابت في سورة النور أشدّ من العقوبة المذكورة هنا ، ولا جائز أن يكون الحدّ الذي في سورة النور قد نسخ بما هنا لأنّه لا قائل به . فإذا مضينا على معتادنا في اعتبار الآي نازلة على ترتيبها في القراءة في سورها ، قلنا إنّ هذه الآية نزلت في سورة النساء عقب أحكام المواريث وحراسة أموال اليتامى ، وجعلنا الواو عاطفة هذا الحكم على ما تقدّم من الآيات في أوّل السورة بما يتعلّق بمعاشرة النساء ، كقوله : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] وجزمنا بأنّ أوّل هذه السورة نزل قبل أوّل سورة النور ، وأنّ هذه العقوبة كانت مبدأ شرع العقوبة على الزنا فتكون هاته الآية منسوخة بآية سورة النور لا محالة ، كما يدلّ عليه قوله : { أو يجعل الله لهن سبيلاً } قال ابن عطية : أجمع العلماء على أنّ هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور . اهـ ، وحكى ابن الفرس في ترتيب النسخ أقوالاً ثمانية لا نطيل بها . فالواو عاطفة حكم تشريع عقب تشريع لمناسبة : هي الرجوع إلى أحكام النساء ، فإنّ الله لمّا ذكر أحكاماً من النكاح إلى قوله : { وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة } وما النكاح إلاّ اجتماع الرجل والمرأة على معاشرة عمادها التأنّس والسكون إلى الأنثى ، ناسب أن يعطف إلى ذكر أحكام اجتماع الرجل بالمرأة على غير الوجه المذكور فيه شرعاً ، وهو الزنا المعبّر عنه بالفاحشة .

فالزنا هو أن يقع شيء من تلك المعاشرة على غير الحال المعروف المأذون فيه ، فلا جرم أن كان يختلف باختلاف أحوال الأمم والقبائل في خرق القوانين المجعولة لإباحة اختصاص الرجل بالمرأة .

ففي الجاهلية كان طريق الاختصاص بالمرأة السبي أو الغَارة أو التعويض أو رغبة الرجل في مصاهرة قوم ورغبتهم فيه أو إذن الرجل امرأته بأن تستبضع من رجل ولداً كما تقدّم .

وفي الإسلام بطلت الغارة وبطل الاستبضاع ، ولذلك تجد الزنا لا يقع إلاّ خفية لأنّه مخالفة لقوانين الناس في نظامهم وأخلاقهم . وسمّي الزنا الفاحشة لأنّه تجاوز الحدّ في الفساد وأصل الفحش الأمر الشديد الكراهية والذمّ ، من فعلٍ أو قولٍ ، أو حالٍ ولم أقف على وقوع العمل بهاتين الآيتين قبل نسخهما .

ومعنى : { يأتين } يَفْعَلْن ، وأصل الإتيان المجيء إلى شيء فاستعير هنا الإتيان لفعل شيء لأنّ فاعل شيء عن قصد يُشبه السائر إلى مكان حتّى يَصله ، يقال : أتى الصلاة ، أي صَلاها ، وقال الأعشى :

لِيَعْلَمَ كلُّ الورى أنّني *** أتَيْتُ ا لمُرُوءَةَ من بابها

وربما قالوا : أَتى بفاحشة وبمكروه كأنّه جاء مُصَاحباً له .

وقوله : { من نسائكم } بيان للموصول وصلته . والنساء اسم جمععِ امرأة ، وهي الأنثى من الإنسان ، وتطلق المرأة على الزوجة فلذلك يطلق النساء على الإناث مطلقاً ، وعلى الزوجات خاصّة ويعرف المراد بالقرينة ، قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } [ الحجرات : 11 ] ثم قال { ولا نساء من نساء } [ الحجرات : 11 ] فقابل بالنساء القومَ . والمراد الإناث كلهنّ ، وقال تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين } [ النساء : 11 ] الآية المتقدّمة آنفاً والمراد هنا مطلق النساء فيشمل العذارى العَزَبَاتِ .

وضمير جمع المخاطبين في قوله : { من نسائكم } والضمائر المُوالية له ، عائدة إلى المسلمين على الإجمال ، ويتعيّن للقيام بما خوطبوا به مَنْ لهم أهلية القيام بذلك . فضمير { نسائكم } عامّ مراد به نساء المسلمين ، وضمير { فاستشهدوا } مخصوص بمن يهمّه الأمر من الأزواج ، وضمير { فأمسكوهن } مخصوص بولاة الأمور ، لأنّ الإمساك المذكور سجن وهو حكم لا يتولاّه إلاّ القضاة ، وهم الذين ينظرون في قبول الشهادة فهذه عمومها مراد به الخصوص .

وهذه الآية هي الأصل في اشتراط أربعة في الشهادة على الزنى ، وقد تقرّر ذلك بآية سورة النور .

ويعتبر في الشهادة الموجبة للإمساك في البيوت ما يعتبر في شهادة الزنى لإقامةِ الحدّ سواء .

والمراد بالبيوت البيوت التي يعيّنها ولاة الأمور لذلك . وليس المراد إمساكهن في بيوتهنّ بل يُخرجن من بيوتهنّ إلى بيوت أخرى إلاّ إذا حُوّلت بيت المسجونة إلى الوضع تحت نظر القاضي وحراسته ، وقد دلّ على هذا المعنى قوله تعالى في آية سورة الطلاق عند ذكر العدّةِ { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } [ الطلاق : 1 ] .

ومعنى { يتوفاهن الموت } يتقاضاهن . يقال : تَوَفَّى فلان حقَّه من فلان واستوفاه حقّه . والعرب تتخيّل العمر مجزّءاً . فالأيام والزمانُ والموتُ يستخلصه من صاحبه منجَّما إلى أن تتوفّاه . قال طرفة :

أرى العمر كَنزا ناقصا كلّ ليلة *** وما تَنْقُصْ الأيامُ والدهرُ ينفَدِ

وقال أبو حيّة النميري :

إذا ما تقاضى المرءَ يومٌ وليلة *** تَقاضاه شيء لا يَمَلُّ التقاضيا

ولذلك يقولون تُوفيِّ فلان بالبناء للمجهول أي توفَّى عُمُرَهُ فجعل الله الموت هو المتقاضي لأعمار الناس على استعمالهم في التعبير ، وإن كان الموت هو أثَرُ آخر أنفاس المرء ، فالتوفيّ في هذه الآية وارِد على أصل معناه الحقيقي في اللغة .

ومعنى { أو يجعل الله لهن سبيلاً } أي حكماً آخر . فالسبيل مستعار للأمر البيّن بمعنى العقاب المناسب تشبيها له بالطريق الجادّة . وفي هذا إشارة إلى أنّ إمساكهنّ في البيوت زجر موقّت سيعقبه حكم شاف لما يَجده الناس في نفوسهم من السخط عليهنّ ممّا فَعَلْنَ .

ويشمل قوله : { واللاتي يأتين الفاحشة } جميع النساء اللائي يأتين الفاحشة من محصنات وغيرهنّ .