قوله تعالى : { إياك نعبد } . ( إيا ) كلمة ضمير خصت بالإضافة إلى المضمر ، ويستعمل مقدماً على الفعل ، فيقال : إياك أعني ، وإياك أسأل ، ولا يستعمل مؤخراً إلا منفصلاً . فيقال : ما عنيت إلا إياك .
قوله : { نعبد } أي نوحدك ونطيعك خاضعين ، والعبادة الطاعة مع التذلل والخضوع ؛ وسمي العبد عبداً لذلته وانقياده ، يقال : طريق معبد أي مذلل .
قوله تعالى : { وإياك نستعين } . نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا . فإن قيل : لم قدم ذكر العبادة على الاستعانة والاستعانة تكون قبل العبادة ؟ فلهذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل . ونحن نحمد الله نجعل التوفيق والاستعانة مع الفعل ، فلا فرق بين التقديم والتأخير ، ويقال : الاستعانة نوع تعبد ، فكأنه ذكر جملة العبادة أولاً ثم ذكر ما هو من تفاصيلها .
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
كانت الآيات الثلاث التي تقدمت هذه الآية تقريرًا للحقيقة فى جانب الربوبية وعظمتها وعموم سلطانها وسعة رحمتها تقريرا جمع أمور الدنيا والآخرة ثم جاءت هذه الآية لتقرر أن الذي يجدر بنا أن نعبده وأن نسعتين به إنما هو الله الذى تجلت أوصافه ، ووضحت عظمته ، وثبتت هيمنته على هذا الكون .
ولفظ " إيا " ضمير منفصل ، و " الكاف " الملحقة به للخطاب . والعبارة تفيد أن الطاعة البالغة حد النهاية فى الخضوع والخشوع والتعظيم ، والعبادة الصحيحة تتأتى للمسلم بتحقق أمرين : إخلاصها لله ، وموافقتها لما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم . قال ابن جرير : " لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة ، وأنها تسمى الطريق المذلل الذى وطئته الأقدام وذللته السابلة معبدًا " .
والاستعانة : طلب المعونة ، من أجل الاقتدار على الشئ والتمكن من فعله . والمعنى : لك يا ربنا وحدك نخشع ونذل ونستكين ، فقد توليتنا برعايتك وغمرتنا برحمتك ، فنحن نخصك بطلب الاستعانة على طاعتك وعلى أمورنا كلها ، ولا نتوجه بهذا الطلب إلى أحد سواك ، فأنت المستحق للعبادة ، وأنت القدير على كل شئ ، والعليم ببواطن الأمور وظواهرها ، لا تخفى عليك طوية ، ولا تتوارى عنك نية . وقدم - سبحانه - المعبود على العبادة فقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، لإِفادة قصر العبادة عليه ، وهو ما يقتضيه التوحيد الخالص .
وقال : " نعبد " بنون الجماعة ولم يقل أعبد ، ليدل على أن العبادة أحسن ما تكون فى جماعة المؤمنين ، وللإِشعار بأن المؤمنين المخلصين يكنون فى اتحادهم وإخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم فى الحديث عن شئونهم الظاهرة وغير الظاهرة مقام جميعهم ، فهم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم " . وقدمت العبادة على الاستعانة ، لكون الأولى وسيلة إلى الثانية . وتقديم الوسائل سبب فى تحصيل المطالب ، وليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات ، بل إن عون الله هو الذى ييسر لهم أداءهم .
ولم يذكر المستعان عليه من الأعمال ، ليشمل الطلب كل ما تتجه إليه نفس الإِنسان من الأعمال الصالحة . وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الخطاب على طريقة الالتفات ، تلوينا لنظم الكلام من أسلوب إلى أسلوب . وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " فإن قلت : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ؟ قلت : هذا يسمى الالتفات فى علم البيان . وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم . . . وذلك على عادة العرب فى افتنانهم فى الكلام وتصرفهم فيه . لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظًا للإِصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد : وقد تختص مواضعه بفوائد . ومما اختص به هذا الموضع : أنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه تلك الصفات العظام ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن ، حقيق بالثناء وغاية للخضوع والاستعانة فى المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل : إياك يا من هذه صفاته نخصك بالعبادة والاستعانة ، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه . . . " . هذا ، وقد جاءت فى فضل هذه الآية الكريمة آثار متعددة ، ومن ذلك قول بعض العلماء : الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالأول تبرؤ من الشرك ، والثانى تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله " .
( إياك نعبد وإياك نستعين ) . . وهذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة . فلا عبادة إلا لله ، ولا استعانة إلا بالله .
وهنا كذلك مفرق طريق . . مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية ، وبين العبودية المطلقة للعبيد ! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل . التحرر من عبودية الأوهام . والتحرر من عبودية النظم ، والتحرر من عبودية الأوضاع . وإذا كان الله وحده هو الذي يعبد ، والله وحده هو الذي يستعان ، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص ، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات . .
وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية ، ومن القوى الطبيعية . .
فأما القوى الإنسانية - بالقياس إلى المسلم - فهي نوعان : قوة مهتدية ، تؤمن بالله ، وتتبع منهج الله . . . وهذه يجب أن يؤازرها ، ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح . . وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه . وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها .
ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية . فهي بضلالها عن مصدرها الأول - قوة الله - تفقد قوتها الحقيقة . تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها . وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب ، فما يلبث أن ينطفيء ويبرد ويفقد ناره ونوره ، مهما كانت كتلته من الضخامة . على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) . . غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول ، وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعا .
وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة ، لا موقف التخوف والعداء . ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة الله ومشيئته ، محكومتان بإرادة الله ومشيئته ، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه .
إن عقيدة المسلم توحي إليه أن الله ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا ؛ وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها . ويتعرف إليها ، ويتعاون وإياها ، ويتجه معها إلى الله ربه وربها . وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا ، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها ، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها .
ولقد درج الغربيون - ورثة الجاهلية الرومانية - على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم : " قهر الطبيعة " . . ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة بالله ، وبروح الكون المستجيب لله . فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم ، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة لله رب العالمين .
فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة . أنه يعتقد أن الله هو مبدع هذه القوى جميعا . خلقها كلها وفق ناموس واحد ، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس . وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها . وأن على الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها . فالله هو الذي يسخرها له ، وليس هو الذي يقهرها : سخر لكم ما في الأرض جميعا . .
وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة ؛ ولن تقوم بينه وبينها المخاوف . . إنه يؤمن بالله وحده ، ويعبد الله وحده ، ويستعين بالله وحده . وهذه القوى من خلق ربه . وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها ، فتبذل له معونتها ، وتكشف له عن أسرارها . فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود . . وما أروع قول الرسول [ ص ] وهو ينظر إلى جبل أحد : " هذا جبل يحبنا ونحبه " . . ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد [ ص ] من ود وألفة وتجاوب بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( 5 )
نطق المؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله ، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك ، وقدم المفعول على الفعل اهتماماً( {[66]} ) ، وشأن العرب تقديم الأهم .
ويذكر أن أعرابياً سبّ آخر فأعرضَ المسبوبُ عنهُ ، فقال له السابُّ : «إياك أعني » فقال الآخر : «وعنكَ أُعرِضُ » فقدَّما الأهم .
وقرأ الفضل الرقاشي( {[67]} ) : «أياك » بفتح الهمزة ، وهي لغة مشهورة وقرأ عمرو بن فائد : «إيَاك » بكسر الهمزة وتخفيف الياء ، وذاك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها ، وهذا كتخفيف «ربْ » و «إنْ »( {[68]} ) . وقرأ أبو السوار الغنوي( {[69]} ) : «هيّاك نعبد وهيّاك نستعين » بالهاء ، وهي لغة( {[70]} ) . واختلف النحويون في { إيّاك } فقال الخليل : إيّا اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف ، وحكي عن العرب : «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب »( {[71]} ) . وقال المبرد : إيّا اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف ، وحكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أنّ { إيّاك } بكماله اسم مضمر ، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره ، وحكي عن بعضهم أنه قال : الكاف والهاء والياء هي الاسم المضمر ، لكنها لا تقوم بأنفسها ولا تكون إلا متصلات ، فإذا تقدمت الأفعال جعل «إيّا » عماداً لها . فيقال «إياك » و «إياه » و «إيّاي » ، وإذا تأخرت اتصلت بالأفعال واستغني عن «إيا » .
وحكي عن بعضهم أن أيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب ، وزيدت الكاف والياء والهاء تفرقة بين المخاطب والغائب والمتكلم ، ولا موضع لها من الإعراب فهي كالكاف في ذلك وفي أرايتك زيداً ما فعل .
و { نعبد } معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة ، والطريق المذلل يقال له معبد ، وكذلك البعير . وقال طرفة : [ الطويل ] .
تباري عتاق الناجيات وأتبعت . . . وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد( {[72]} )
وتكررت { إياك } بحسب اختلاف الفعلين ، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام .
و { نستعين } معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا ، وهذا كله تبرؤ( {[73]} ) من الأصنام . وقرأ الأعمش وابن وثاب والنخعي : «ونستعين » بكسر النون ، وهي لغة لبعض قريش في النون والتاء والهمزة ولا يقولونها في ياء الغائب وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو فيما يأتي من الثلاثي على فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل نحوعلم وشرب ، وكذلك فيما جاء معتل العين نحو خال يخال ، فإنهم يقولون تخال وأخال .
و { نستعين } أصله نستعون نقلت حركة الواو إلى العين وقلبت ياء لانكسار ما قبلها ، والمصدر استعانة أصله استعواناً نقلت حركة الواو إلى العين فلما انفتح ما قبلها وهي في نية الحركة انقلبت ألفاً ، فوجب حذف أحد الألفين الساكنين ، فقيل حذفت الأولى لأن الثانية مجلوبة لمعنى ، فهي أولى بالبقاء ، وقيل حذفت الثانية لأن الأولى أصلية فهي أولى بالبقاء ، ثم لزمت الهاء عوضاً من المحذوف ،