103- لم يأذن الله لكم أن تحرِّموا ما أحلَّه لكم ، فتشقوا أذن الناقة ، وتمتنعوا عن الانتفاع بها ، وتسموها «بَحِيرة » ، وتتركوها بناء على نذر ، وتسموها «سائبة » ، وتُحَرِّموا الذكر من الشاة ، وتهبوه للأصنام ، حتى إذا أنتجت الشاة ذكراً وأنثى سميتموها «وَصِيلة » ، ولم تذبحوا الذكر منها . ولم يشرع لكم أن تحرِّموا الانتفاع بالذكر من الإبل إذا ولد منه عشرة أبطن ، وتطلقوا عليه اسم «حَام » ، لم يشرع الله لكم شيئاً من ذلك ، ولكن الذين كفروا يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله ، وأكثرهم لا يعقلون{[58]} .
قوله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة } أي : ما أنزل الله ، ولا أمر به .
قوله تعالى : { ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، قال ابن عباس في بيان هذه الأوضاع : البحيرة ، هي الناقة التي كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها ، أي : شقوها ، وتركوا الحمل عليها ، ولم يركبوها ، ولم يجزوا وبرها ، ولم يمنعوها الماء والكلأ ، ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه وأكله الرجال والنساء ، وإن كان أنثى بحروا أذنها ، أي : شقوها ، وتركوها ، وحرم على النساء لبنها ، ومنافعها ، وكانت منافعها خاصة للرجال ، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء . وقيل : كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت ، فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ، ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل ، فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما فعل بأمها ، فهي البحيرة بنت السائبة . وقال أبو عبيدة : السائبة : البعير الذي يسيب ، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض وغاب له قريب نذر فقال : إن شفاني الله تعالى أو شفى مريضي ، أو عاد غائبي ، فناقتي هذه سائبة . ثم يسيبها فلا تحبس عن رعي ، ولا ماء ، ولا يركبها أحد ، فكانت بمنزلة البحيرة . وقال علقمة : هو العبد يسيب على أن لا ولاء عليه ، ولا عقل ، ولا ميراث . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما الولاء لمن أعتق ) .
والسائبة فاعلة ، بمعنى المفعولة . وهي المسيبة ، كقوله تعالى : { ماء دافق } أي : مدفوق ، وعيشة راضية ، وأما الوصيلة : فمن الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا ، فإن كان السابع ذكرا ذبحوه ، فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى تركوها في الغنم ، وإن كان ذكراً وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى ، وقالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه . وكان لبن الأنثى حراماً على النساء ، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا .
وأما الحام : فهو الفحل إذا ركب ولده ، ويقال : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمي ظهره ، فلا يركب ، ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من كلأ ، ولا ماء ، فإذا مات أكله الرجال والنساء .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس . والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء . قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيب السوائب ) .
روى محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي صالح السمان . عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكتم بن جون الخزاعي : ( يا أكتم ، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار ، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ، ولا به منك ، وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ، ونصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه ، فقال أكتم : أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال : لا إنك مؤمن وهو كافر .
قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } ، في قولهم : الله أمرنا بها .
ثم حكى - سبحانه - بعض الأوهام والخرافات التي كان أهل الجاهلية يتمسكون بها ، ويعتبرونها من العادات الدينية الراسخة في نفوسهم ، مع أنها لا أصل لها ، وإنما هم الذين ابتدعوها ونسبوها إلى دين الله بدون دليل أو برهان فقال - تعالى - :
{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها . ولما كان الكفار يحرمون على انفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات - وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها - بين تعالى - أن ذلك باطل فقال : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ }
وجعل هنا بمعنى شرع ووضع ، و { من } زائد لتأكيد النفي والبحيرة بزنة فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق .
وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها ، وتركوها لآلهتهم وامتنعوا عن نحرها وركوبها . وسموها " البحيرة " أي : مشقوقة الأذن .
وعن قتادة أنهم كانوا إذا أنجبت خمسة أبطن نظروا في الخامس فإن ذكر ذبحوه وأكلوه ، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى دون أن يستعملها أحد في حلب أو ركوب .
والسائبة بزنة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض . يقال ساب الماء إذا ترك يجري .
قال أبو عبيدة : كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر أو شفى من مرض . سيب ناقته وخلاها وجعلها كالبحيرة وتسمى السائبة .
وقال محمد بن إسحاق : السائبة هي الناقة تلد عشرة أبطن إناث ، فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ، ولا يشرب لبنها إلا ضيف .
وعن ابن عباس : هي التي تسيب للأصنام ، فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم .
والوصيلة بزنة فعيلة بمعنى فاعله . قال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين - أي اثنين اثنين - وإذا ولدت في آخرها انثى وذكرا . قيل : وصلت أخاها . فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء ، وتجري مجرى السائبة في تركها دون أن يجز وبرها .
وقال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت انثى كانت لهم وإذا ولدت ذكرا وانثى قالوا : وصلت أخاها فلا تذبح ويكون الذكر لآلهتهم .
وقيل : هي الناقة تبكر بأنثى ثم تثنى بأنثى ، فكانوا يتركونها للطواغيت ، ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر .
والحام اسم فاعل من حمى يحمي أي منع .
قال الفراء : هو الفحل إذا لقح ولد ولده قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء أو مرعى .
وقال أبو عبيدة : هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء أو مرعى .
هذه بعض الأقوال التي ذكرها العلماء في تفسير هذه الألفاظ الأربعة ، وهناك أقوال أخرى سواها تختلف عنها .
ويبدو أن الخلاف في حقيقة هذه الأربعة مرجعه إلى اختلاف القبائل في بلاد العرب واختلاف الأماكن التي يقيمون فيها ، والعادات الباطلة التي شبوا عليها وألفوها .
هذا ، وقد ذكر ابن كثير بعض الروايات التي وردت في تفسيره هذه الألفاظ ، كما ذكر أول من أدخل هذه العادات الباطلة في بلاد العرب فقال ما ملخصه : " روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعيد بن المسيب قال . البحيرة : هي التي تكون درها للطواغيت . والسائبة : هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر . والحام : فحل الإِبل يضرب الضرائب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت ولا يحملون عليه شيئا .
وروى الإِمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أول من سيب السوائب وعبد الإِصنام أبو خزاعة عمرو بن لحي وإني رأيته يجر أمعاءه في النار " .
والمعنى : ما شرع الله - تعالى - شيئاً مما حرمه أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهذه الحيوانات إنما حرم أهل الجاهلية أكلها والانتفاع بها من عند أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح القاطع بسبب كفرهم وضلالهم وأكثرهم لا يفقهون الحق ولا يستجيبون له انقيادا لأهوائهم ورؤسائهم .
والمراد بالذين كفروا في قوله { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب } رؤساؤهم وزعماؤهم الذين يأتون لعوامهم الفاسدة والمزاعم الباطلة ، وينسبونها إلى دين الله كذبا وزورا .
والمراد بأكثرهم في قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } عوامهم ودهماؤهم الذين يسيرون خلف كل ناعق بدون تفكير أو تدبر .
وقد عبر - سبحانه - بقوله { وَأَكْثَرُهُمْ } إنصافاً للقلة العاقلة التي خالفت هذه الأوهام الباطلة ، وإستجابت للحق عند ظهوره .
ويبدو - بالاستناد إلى رواية مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنه - ومن قول سعيد بن جبير كذلك في أسباب نزول الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . . . ) أن من بين ما كانوا يسألون عنه أشياء كانت في الجاهلية . ولم نقف على معين للسؤال ماذا كان . ولكن مجيء الحديث في السياق عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي بعد آية النهي عن السؤال يوحي بأن هناك اتصالا ما . . فنكتفي بهذا لنواجه النص القرآني عن هذه العادات الجاهلية :
( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام . ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ، وأكثرهم لا يعقلون . وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا . أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ؟ )
إن القلب البشري إما أن يستقيم على فطرته التي فطره الله عليها ؛ فيعرف إلهه الواحد ، ويتخذه ربا ، ويعترف له وحده بالعبودية ويستسلم لشرعه وحده ؛ ويرفض ربوبية من عداه فيرفض إذن أن يتلقى شريعة من سواه . . إما أن يستقيم القلب البشري على فطرته هذه فيجد اليسر في الاتصال بربه ، ويجد البساطة في عبادته ، ويجد الوضوح في علاقاته به . . وإما أن يتيه في دروب الجاهلية والوثنية ومنعرجاتها ، تتلقاه في كل درب ظلمة ، ويصادفه في كل ثنية وهم . تطلب إليه طواغيت الجاهلية والوثنية شتى الطقوس لعبادتها ، وشتى التضحيات لإرضائها ؛ ثم تتعدد الطقوس في العبادات والتضحيات ، حتى ينسى الوثني أصولها ، ويؤديها وهو لا يعرف حكمتها ، ويعاني من العبودية لشتى الأرباب ما يقضي على كرامة الإنسان التي منحها الله للإنسان .
ولقد جاء الإسلام بالتوحيد ليوحد السلطة التي تدين العباد ؛ ثم ليحرر الناس بذلك من العبودية بعضهم لبعض ؛ ومن عبوديتهم لشتى الآلهة والأرباب . . وجاء ليحرر الضمير البشري من أوهام الوثنية وأوهاقها ؛ وليرد إلى العقل البشري كرامته ويطلقه من ربقة الآلهة وطقوسها . ومن ثم حارب الوثنية في كل صورها وأشكالها ؛ وتتبعها في دروبها ومنحنياتها . سواء في أعماق الضمير ، أم في شعائر العبادة ، أم في أوضاع الحياة وشرائع الحكم والنظام .
وهذا منعرج من منعرجات الوثنية في الجاهلية العربية ، يعالجه ليقومه ويسلط عليه النور ليبطل ما حوله من أساطير . ويقرر أصول التفكير والنظر ؛ وأصول الشرع والنظام في آن :
( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام . ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ، وأكثرهم لا يعقلون ) . .
هذه الصنوف من الأنعام التي كانوا يطلقونها لآلهتهم بشروط خاصة ، منتزعة من الأوهام المتراكمة في ظلمات العقل والضمير . البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ! ! !
هذه الصنوف من الأنعام ما هي ؟ ومن الذي شرع لهم هذه الأحكام فيها ؟
لقد تشعبت الروايات في تعريفها ، فنعرض نحن طرفا من هذه التعريفات :
" روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيب [ أي يحجز لبنها ويخصص للآلهة فلا يطعمها الناس وكهنة الآلهة هم الذين يأخذونه طبعًا ! ] والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم . والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى ، ثم تثني بالأنثى فيسمونها الوصيلة ، يقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يذبحونها لطواغيتهم . والحامي الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود [ أي يقوم بتلقيح عدد من النوق ] فإذا بلغ ذلك يقال : حمى ظهره ، فيترك ، فيسمونه الحامي .
" وقال أهل اللغة : البحيرة الناقة التي تشق أذنها ، يقال : بحرت أذن الناقة أبحرها بحرا ، والناقة مبحورة وبحيرة ، إذا شققتها واسعا . ومنه البحر لسعته . وكان أهل الجاهلية يحرمون البحيرة ، وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكرا ، بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولم تطرد عن ماء ، ولم تمنع عن مرعى ، وإذا لقيها المعيي لم يركبها . قالوا : والسائبة المخلاة وهي المسيبة ، وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر ، أو برء من مرض ، أو ما أشبه ذلك ، قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية . . فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوها : وقال بعضهم : كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم . وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم . وقالوا : الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمى ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى "
وهناك روايات أخرى عن تعريف هذه الأنواع من الطقوس لا ترتفع على هذا المستوى من التصور ، ولا تزيد الأسباب فيها معقولية على هذه الأسباب . . وهي كما ترى أوهام من ظلام الوثنية المخيم . وحين تكون الأوهام والأهواء هي الحكم ، لا يكون هناك حد ولا فاصل ، ولا ميزان ولا منطق . وسرعان ما تتفرع الطقوس ويضاف إليها وينقص منها بلا ضابط . وهذا هو الذي كان في جاهلية العرب ، والذي يمكن أن يحدث في كل مكان وفي كل زمان ، حين ينحرف الضمير البشري عن التوحيد المطلق ، الذي لا منعرجات فيه ولا ظلام . وقد تتغير الأشكال الخارجية ولكن لباب الجاهلية يبقى ، وهو التلقي من غير الله في أي شأن من شؤون الحياة !
إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ؛ ولكنها حالة ووضع يتكرر - في ِأشكال شتى - على مدار الزمان . فإما ألوهية واحدة تقابلها عبودية شاملة ؛ وتتجمع فيها كل ألوان السلطة ، وتتجه إليها المشاعر والأفكار ، والنوايا والأعمال ، والتنظيمات والأوضاع ، وتتلقى منها القيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والتصورات والتوجيهات . . وإما جاهلية - في صورة من الصور - تتمثل فيها عبودية البشر للبشرأو لغيرهم من خلق الله . . لا ضابط لها ولا حدود . لأن العقل البشري لا يصلح وحده أن يكون ضابطا موزونا ما لم ينضبط هو على ميزان العقيدة الصحيحة . فالعقل يتأثر بالهوى كما نشهد في كل حين ؛ ويفقد قدرته على المقاومة في وجه الضغوط المختلفة ما لم يقم إلى جانبة ذلك الضابط الموزون .
وإننا لنشهد اليوم - بعد أربعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن بهذا البيان - أنه حيثما انفك رباط القلب البشري بالإله الواحد ، تاه في منحنيات ودروب لا عداد لها ، وخضع لربوبيات شتى ، وفقد حريته وكرامته ومقاومته . . ولقد شهدت في هذا الجانب الخرافي وحده في صعيد مصر وريفها عشرات من الأوهام تطلق لها بعض صنوف الحيوان ، للأولياء والقديسين ، في ذات الصورة التي كانت تطلق بها للآلهة في الزمان القديم !
على أن المسألة في تلك الطقوس الجاهلية - وفي كل جاهلية - هي القاعدة الكلية . هي نقطة الانطلاق في طريق الإسلام أو في طريق الجاهلية . هي . . لمن الحكم في حياة الناس . . لله وحده كما قرر في شريعته ؟ أم لغير الله فيما يقرره البشر لأنفسهم من أحكام وأوضاع وشرائع وطقوس وقيم وموازين ؟ أو بتعبير آخر : لمن الألوهية على الناس ؟ لله ؟ أم لخلق من خلقة ؟ أيا كان هذا الخلق الذي يزاول حقوق الألوهية على الناس !
ومن ثم يبدأ النص القرآني بتقرير أن الله لم يشرع هذه الطقوس . لم يشرع البحيرة ولا السائبة ولا الوصيلة ولا الحامي . . فمن ذا الذي شرعها إذن لهؤلاء الكفار ؟ !
( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) . .
والذين يتبعون ما شرعه غير الله هم كفار . كفار يفترون على الله الكذب . مرة يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة الله . . ومرة يقولون : إننا نشرع لأنفسنا ولا ندخل شريعة الله في أوضاعنا . . ونحن مع هذا لا نعصي الله . وكله كذب على الله :
( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) . .
ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم الذي جاء به من عند الله . فهم لم يكونوا يجحدون الله البتة . بل كانوا يعترفون بوجوده وبقدرته وبتصريفه للكون كله . ولكنهم مع ذلك كانوا يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون أن هذا شرع الله ! وهم بهذا كانوا كفارا . ومثلهم كل أهل جاهلية في أي زمان وفي أي مكان يشرعون لأنفسهم من عند الله أنفسهم ثم يزعمون - أو لا يزعمون - أن هذا شرع الله !
إن شرع الله هو الذي قرره في كتابه ، وهو الذي بينه رسوله [ ص ] وهو ليس مبهما ولا غامضا ولا قابلا لأن يفتري عليه أحد من عنده ما يفتري ، ويزعم أنه منه ، كما يتصور أهل الجاهلية في أي زمان وفي أي مكان !
ولذلك يصم الله الذين ادعوا هذا الادعاء بالكفر . ثم يصمهم كذلك بأنهم لا يعقلون ! ولو كانوا يعقلون ما افتروا على الله . ولو كانوا يعقلون ما حسبوا أن يمر هذا الافتراء !
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كَيْسان ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيَّب قال : " البحيرة " : التي يُمْنَعُ درّها للطواغيت ، فلا يَحْلبها{[10456]} أحد من الناس . و " السائبة " : كانوا يسيبونَها لآلهتهم ، لا يحمل عليها شيء - قال : وقال{[10457]} أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت عمْرَو بن عامر الخزاعي يجُرّ قُصْبَه في النار ، كان أول من سيب السوائب " - و " الوصيلة " : الناقة البكر ، تُبَكّر في أول نتاج الإبل ، ثم تُثَنّي بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم ، إن وصلت إحْدَاهما بالأخرى ليس بينهما ذكَر . و " الحام " : فحل الإبل يَضربُ الضرّابَ المعدود ، فإذا قضى ضرابه وَدَعُوه للطواغيت ، وأعفوه عن الحَمْل ، فلم يُحْمَل عليه شيء ، وسَمّوه{[10458]} الحامي .
وكذا رواه مسلم والنسائي ، من حديث إبراهيم بن سعد ، به . {[10459]}
ثم قال البخاري : وقال لي أبو اليمان : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : سمعت سعيدًا يخبر بهذا . وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه . ورواه ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . {[10460]}
قال الحاكم : أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بُخْت ، عن الزهري . كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزني في " الأطراف " وسكت ولم ينبه عليه . وفيما قاله الحاكم نظر ، فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد ، عن ابن الهاد ، عن الزهري نفسه . {[10461]} والله أعلم .
ثم قال البخاري : حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكِرْماني ، حدثنا حسان بن إبراهيم ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ؛ أن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت جَهَنَّم يَحْطِمُ بعضها بعضًا ، ورأيت عَمْرًا يجر قُصْبه ، وهو أول من سيب السوائب " . تفرد به البخاري . {[10462]}
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا يونس بن بُكَير ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن : " يا أكثم ، رأيت عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمعَةَ بن خِنْدف يجر قُصْبه في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ، ولا به منك " . فقال أكثم : تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال{[10463]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا إنك مؤمن وهو كافر ، إنه أول من غَيّر دين إبراهيم ، وبحر البحيرة ، وسيّب السائبة ، وحمى الحامي " . ثم رواه عن هناد ، عن عبدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه أو مثله . {[10464]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عمرو بن مُجَمِّع ، حدثنا إبراهيم الهَجَري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول من سَيَّب السوائب ، وعبد الأصنام ، أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار " . تفرد به أحمد من هذا الوجه . {[10465]}
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف أول من سيب السوائب ، وأول من غير دين إبراهيم عليه السلام " . قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : " عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب ، لقد رأيته يجر قُصْبه في النار ، يُؤذي ريحه أهل النار . وإني لأعرف أول من بحر البحائر " . قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : " رجل من بني مُدْلج ، كانت له ناقتان ، فجدع آذانهما ، وحرم ألبانهما ، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك ، فلقد رأيته في النار وهما يعضّانه بأفواههما ويخبطانه{[10466]} بأخفافهما " . {[10467]}
فعمرو هذا هو ابن لحي بن قَمَعَة ، أحد رؤساء خزاعة ، الذين ولَوا البيت بعد جَرْهم . وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل ، فأدخل الأصنام إلى الحجاز ، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها ، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها ، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام ، عند قوله تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } [ الأنعام : 136 ] إلى آخر الآيات في ذلك .
فأما البحيرة ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبْطُن نظروا إلى الخامس ، فإن كان ذكرًا ذبحوه ، فأكله الرجال دون النساء . وإن كان{[10468]} أنثى جدعوا آذانها ، فقالوا : هذه بحيرة .
وذكر السُّدِّي وغيره قريبًا من هذا .
وأما السائبة ، فقال مجاهد : هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة ، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها ، فإذا ولدت السابع ذكرًا أو ذكرين ، ذبحوه ، فأكله رجالهم دون نسائهم .
وقال محمد بن إسحاق : السائبة : هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر ، سُيّبت فلم تركب ، ولم يُجَزّ وبرها ، ولم يحلب لبنها إلا الضيف .
وقال أبو روق : السائبة : كان الرجل إذا خرج فَقُضيت حاجته ، سَيَّب من ماله ناقة أو غيرها ، فجعلها للطواغيت . فما ولدت من شيء كان لها .
وقال السُّدِّي : كان الرجل منهم إذا قُضيت حاجته أو عُوفي من مرض أو كثر ماله سَيَّب شيئًا من ماله للأوثان ، فمن عرض له من الناس عُوقب بعقوبة{[10469]} في الدنيا .
وأما الوصيلة ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع ، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء ، وإن كان أنثى استحيوها ، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطن استحيوهما وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا . رواه ابن أبي حاتم .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : { وَلا وَصِيلَةٍ } قال : فالوصيلة من الإبل ، كانت الناقة تبتكر بأنثى ، ثم تثنى بأنثى ، فسموها الوصيلة ، ويقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم .
وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله .
وقال محمد بن إسحاق : الوصيلة من الغنم : إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن ، توأمين توأمين في كل بطن ، سميت الوصيلة وتركت ، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى ، جعلت للذكور دون الإناث . وإن كانت ميتة اشتركوا فيها .
وأما الحام ، فقال العَوْفي ، عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا لقح فحله عشرًا ، قيل حام ، فاتركوه .
وكذا قال أبو روق ، وقتادة . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وأما الحام فالفحل من الإبل ، إذا وُلد لولده قالوا : حَمى هذا ظهره ، فلا يحملون عليه شيئًا ، ولا يجزون له وبرًا ، ولا يمنعونه من حمى رعي ، ومن حوض يشرب منه ، وإن كان الحوض لغير صاحبه .
وقال ابن وَهْب : سمعت مالكًا يقول : أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل ، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيّبوه .
وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية . وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم ، من طريق أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي الأحوص الجُشَمي ، عن أبيه مالك بن نَضْلَة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقان من الثياب ، فقال لي : " هل لك من مال ؟ " قلت{[10470]} نعم . قال : " من أيّ المال ؟ " قال : فقلت : من كل المال ، من الإبل والغنم والخيل والرقيق . قال : " فإذا آتاك الله مالا فلْيُرَ عليك " . ثم قال : " تنتج إبلك وافية آذانها ؟ " قال : قلت : نعم . قال : " وهل تنتج الإبل إلا كذلك ؟ " قال : " فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحيرة ، وتشق آذان طائفة منها ، وتقول : هذه حرم ؟ " قلت : نعم . قال : " فلا تفعل ، إن كل ما آتاك الله لك حل " ، ثم قال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } أما البحيرة : فهي التي يجدعون آذانها ، فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها ، فإذا ماتت اشتركوا فيها . وأما السائبة : فهي التي يسيبون لآلهتهم ، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها ، وأما الوصيلة : فالشاة تلد ستة أبطن ، فإذا ولدت السابع{[10471]} جدعت وقطع قرنها ، فيقولون : قد وصلت ، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض . هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجًا في الحديث . وقد روي من وجه آخر عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك ، من قوله ، وهو أشبه . {[10472]}
وقد روى هذا الحديث{[10473]} الإمام أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو ، عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، عن أبيه ، به . وليس فيه تفسير هذه{[10474]} والله أعلم .
وقوله : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي : ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة ، ولكن المشركين افتروا ذلك{[10475]} وجعلوه شرعًا لهم وقربة يتقربون بها إليه . وليس ذلك بحاصل لهم ، بل هو وبال عليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلََكِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ما بحر الله بحيرة ، ولا سيب سائبة ، ولا وصل وصيلة ، ولا حمى حاميا ، ولكنكم الذين فعلتم ذلك أيها الكفرة ، فحرّمتموه افتراء على ربكم . كالذي :
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن ابن الهاد : وحدثني يونس ، قال : حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : ثني الليث ، قال : ثني ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «رأيْتُ عَمْرَو بْنَ عامِرٍ الخزَاعِيّ يَجُرّ قصبَهُ فِي النّارِ ، وكانَ أوّلَ مَنْ سَيّبَ السّائِبَةَ » .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن إبراهيم بن الحرث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون : «يا أكْثَمُ ، رأيْتُ عَمْرَو بنَ لُحَيّ بْنِ قَمَعَةَ بنِ خِنْدَفٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، فَمَا رأيْتُ رَجْلاً أشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلا بِهِ مِنْكَ » فقال أكثم : أخشى أن يضرّني شبهه يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ، إنّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كافِرٌ ، إنّهُ أوّلُ مَنْ غير دين إسماعيل وبحّر البحيرة ، وسيب السائبة ، وحمى الحامي » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس ، قال : ثني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قَدْ عَرَفْتُ أوّلَ مَنْ بَحّرَ البَحائِر رَجُلٌ مِنْ مُدْلِجٍ ، كانَتْ لَهُ ناقَتانِ ، فَجَدَعَ آذَانَهُما وَحَرّمَ ألْبانَهُما وظُهُورَهُما وقال : هاتانِ لِلّهِ ، ثُمّ احْتاجَ إلَيْهما فَشَرِبَ ألْبانَهُما وَرَكِبَ ظُهُورَهُما » قالَ : «فَلَقَدْ رأيْتُهُ فِي النّارِ يُؤْذِي أهْلَ النّارِ رِيحُ قُصْبِهِ » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبيدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عُرِضَتْ عليّ النّارُ فَرأيْتُ فِيها عَمْرَو بْنَ فُلان ابْنِ فُلان ابْنِ خِنْدَفٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، وَهُوَ أوّلُ مَنْ غَيّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ وَسَيّبَ السّائِبَةَ ، وأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ أكْثَمُ بْنُ الجون » . فقال أكثم : يا رسول الله ، أيضرّني شبههه ؟ قال : «لا ، لأنّكَ مُسْلِمٌ ، وَإنّهُ كافِرٌ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرّ قصبه في النار ، وهو أوّل من سيب السوائب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لأَعْرِفُ أوّلَ مَنْ سَيّبَ السّوَائبَ وأوّلَ مَنْ غَيّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ » قالُوا : مَنْ هُوَ يا رَسُولَ اللّهِ ؟ قال : «عَمْرُو بْنُ لُحَي أخُو بَنِي كَعْبٍ ، لَقَدْ رأيْتُهُ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، يُؤْذِي رِيحُهُ أهْلَ النّارِ . وإنّي لأَعْرِفُ أوّلَ مَنْ بَحّرَ البَحائِرَ » . قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : «رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ كانَتْ لَهُ ناقَتانِ ، فَجَدَعَ آذَانَهُما وَحَرّمَ ألْبانَهُما ، ثُمّ شَرِبَ ألْبانَهُما بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَقَدْ رأيْتُهُ فِي النّارِ هُوَ وهُمَا يَعضّانِهِ بأفْوَاهِهِما ، ويَخْبِطانِهِ بأخفْافِهِما » .
والبحيرة : الفَعيلة ، من قول القائل : بَحرتُ أذنَ هذه الناقة : إذا شقها ، أبْحَرُها بحرا ، والناقة مبحورة ، ثم تصرف المفعولة إلى فعَيلة ، فيقال : هي بحيرة . وأما البَحِرُ من الإبل : فهو الذي قد أصابه داء من كثرة شرب الماء ، يقال منه : بَحِرَ البعير يبحرُ بَحَرا ، ومنه قول الشاعر :
لأَعْلِطَنّكَ وَسَما لا تُفارِقُهُ ***كما يُحَزّ بحُمّى المِيسَمِ البَحِرُ
وبنحو الذي قلنا في معنى البحيرة ، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن زيزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن أبيه ، قال : دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أرأيْتَ إبِلَكَ ألَسْتَ تُنْتِجُها مُسَلّمَةً آذَانُها ، فَتأْخُذُ المُوسَى فَتَجْدَعُها تَقُولُ هَذِهِ بَحِيرَةٌ ، وَتَشُقّ آذَانَها تَقُولُ هَذِهِ حُرُمٌ ؟ » قال : نعم ، قال : «فإنّ ساعِدَ اللّهِ أشَدّ ، وَمُوسَى اللّهِ أحَدّ ، كُلّ مالِكَ لَكَ حَلالٌ لا يُحَرّمُ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا الأحوص ، عن أبيه ، قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقال : «هَلْ تُنْتِجُ إبِلُ قَوْمِكَ صِحَاحا آذَانُها فَتَعمِدُ إلى المُوسَى فَتَقْطَعُ آذَانَها فَتَقُولُ هَذِهِ بُحْرٌ ، وَتَشُقّها أوْ تَشُقّ جُلُودَها فَتَقُولُ هَذِهِ حُرُمٌ ، فَتُحَرّمُها عَلَيْكَ وَعلى أهْلِكَ ؟ » قال : نعم . قال : «فإنّ ما آتاكَ اللّهُ لَكَ حِلّ ، وَساعِدُ اللّهُ أشَدّ ، ومُوسَى اللّهِ أحَدّ » وربما قال : «سَاعِدُ الله أشَدّ مِنْ سَاعِدِكَ ، ومُوسَى الله أحَدّ مِنْ مُوسَاكَ » .
وأما السائبة : فإنها المسيبة المخلاة ، وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه ، فيحرم الانتفاع به على نفسه ، كما كان بعض أهل الإسلام يعتق عبده سائبة فلا ينتفع به ولا بولائه . وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة ، كما قيل : «عِيشَة رَاضِيَة » ، بمعنى : مرضية .
وأما الوصيلة ، فإن الأنثى من نعمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنا بذكر وأنثى ، قيل : قد وصلت الأنثى أخاها ، بدفعها عنه الذبح ، فسموها وصيلة .
وأما الحامي : فإنه الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب ، والانتفاع بسبب تتابع أولاد تحدث من فِحْلَته .
وقد اختلف أهل التأويل في صفات المسميات بهذه الأسماء وما السبب الذي من أجله كانت تفعل ذلك . ذكر الرواية بما قيل في ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن أبا صالح السمان ، حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخواعي : «يا أكْثَمُ رأيْتُ عَمْرَ بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدَفٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، فَمَا رأيْتُ مِنْ رَجُلٍ أشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلا بِهِ مِنْكَ » فقال أكثم : أيضرّني شبهه يا نبيّ الله ؟ قال : «لا ، لأنك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كافِرٌ ، وإنّهُ كانَ أوّلَ مَنْ غَيّرَ دِينَ إسْماعِيلَ وَنَصَبَ الأوْثانَ ، وَسَيّبَ السّوَائِب فِيهِمْ » .
وذلك أن الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثا ليس فيها ذكر سيبت ، فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف . فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقّ أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل ، فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما فُعِل بأمها فهي البحيرة ابنة السائبة . والوصيلة : أن الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهنّ ذكر جعلت وصيلة ، قالوا : وصلت ، فكان ما ولدت بعد ذلك لذكورهم دون إناثهم ، إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم . والحامي : أن الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهنّ ذكر حُمِي ظهره ، ولم يركب ، ولم يجزّ وبره ، ويخلى في إبله يضرب فيها ، لا ينتفع به بغير ذلك . يقول الله تعالى ذكره : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ . . . . " إلى قوله : " وَلاَ يهْتَدُونَ " .
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق في هذه الاية : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " قال أبو جعفر : سقط عليّ فيما أظنّ كلام منه قال : فأتيت علقمة فسألته ، فقال : ما تريد إلى شيء كانت تصنعه أهل الجاهلية ؟
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : أتيت علقمة ، فسألته عن قول الله تعالى : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " فقال : وما تصنع بهذا ؟ إنما هذا شيء من فعل الجاهلية ، قال : فأتيت مسروقا ، فسألته ، فقال : البحيرة : كانت الناقة إذا ولدت بطنا خمسا أو سبعا ، شقوا أذنها وقالوا : هذه بحيرة . قال : وَلا سائبَةٍ قال : كان الرجل يأخذ بعض ماله ، فيقول : هذه سائبة . قال : وَلا وَصِيلَةٍ قال : كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الإناث ، وإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن قالوا : وصلت أخاها ، فلا يأكلونهما قال : فإذا مات الذكر ، أكله الذكور دون الإناث . قال : ولا حام ، قال : كان البعير إذا ولد وولد ولده ، قالوا : قد قضى هذا الذي عليه ، فلم ينتفعوا بظهره ، قالوا : هذا حام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، عن الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، قال : سألت علقمة ، عن قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ " قال : ما تصنع بهذا ؟ هذا شيء كان يفعله أهل الجاهلية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ويحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ " قال : البحيرة : التي قد ولت خمسة أبطن ثم تركت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة ، عن الشعبي : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ " قال : البحيرة : المخضرمة . وَلا سائِبَةٍ والسائبة : ما سيب للهدي . والوصيلة : إذا ولدت بعد أربعة أبطن فيما يرى جرير ثم ولدت الخامس ذكرا وأنثى وصلت أخاها . والحام : الذي قد ضرب أولاد أولاده في الإبل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ بنحوه ، إلا أنه قال : والوصيلة : التي ولدت بعد أربعة أبطن ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها . وسائر الحديث مثل حديث ابن حميد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن زكريا ، عن الشعبي ، أنه سئل عن البحيرة ، فقال : هي التي تجدع آذانها . وسئل عن السائبة ، فقال : كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم فيتركونها عند آلهتهم لتذبح ، فتخلط بغنم الناس ، فلا يشرب ألبانها إلا الرجال ، فإذا مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ " وما معها : البحيرة من الإبل ، يحرّم أهل الجاهلية وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال ، فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها ، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها ، فإذا ضَرَب الجمل من ولد البحيرة فهو الحامي ، والسائبة من الغنم على نحو ذلك ، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها ، فإذا ولدت في السابع ذكرا أو أنثى أو ذكرين ، ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم ، وإن توأمت أنثى وذكرا فهي وصيلة ، ترك ذبح الذكر بالأنثى ، وإن كانتا أنثيين تركتا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ فالبحيرة " : الناقة ، كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن ، فيعمد إلى الخامسة ، فما لم يكن سَقْبا ، فيبتك آذانها ، ولا يجزّ لها وبرا ، ولا يذوق لها لبنا ، فتلك البحيرة . وَلا سائِبَةٍ كان الرجل يسيب من ماله ما شاء . وَلا وَصِيلَةٍ فهي الشاة إذا ولدت سبعا ، عمد إلى السابع ، فإن كان ذكرا ذبح ، وإن كانت أنثى تركت ، وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما ، قالوا : وصلت أخاها ، فيتركان جميعا لا يذبحان ، فتلك الوصيلة . وقوله : وَلا حامٍ كان الرجل يكون له الفحل فإذا لقح عشرا قيل : حام ، فاتركوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ " ليسيبوها لأصنامهم . وَلا وَصِيلَةٍ يقول : الشاة . وَلا حامٍ يقول : الفحل من الإبل .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ " وَلا حامٍ تشديد شدّده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم ، وتغليظ عليهم ، فكانت البحيرة مثل الإبل إذا نتج الرجل خمسا من إبله نظر البطن الخامس ، فإن كانت سقبا ذبح فأكله الرجال دون النساء ، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم ، وإن كانت حائلاً وهي الأنثى تركت فبتكت أذنها ، فلم يجزّ لها وبر ولم يشرب لها لبن ولم يركب لها ظهر ولم يذكر لله عليها اسم . وكانت السائبة : يسيبون ما بدا لهم من أموالهم ، فلا تمتنع من حوض أن تشرع فيه ولا من حمى أن ترتع فيه . وكانت الوصيلة من الشاء : من البطن السابع ، إذا كان جديا ذبح فأكله الرجال دون النساء ، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم ، وإن جاءت بذكر وأنثى قيل وصلت أخاها فمنعته الذبح . والحام : كان الفحل إذا ركب من بني بنيه عشرة أو ولد ولده ، قيل حام ، حمى ظهره ، فلم يزم ولم يخطم ولم يركب .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " فالبحيرة من الإبل : كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، إن كان الخامس سقبا ذبحوه فأهدوه إلى آلهتهم وكانت أمه من عرض الإبل ، وإن كانت رُبَعة استحيوها ، وشقوا أذن أمها ، وجزّوا وبرها ، وخلوها في البطحاء ، فلم تَجُزْ لهم في دية ، ولم يحلبوا لها لبنا ، ولم يجزّوا لها وبرا ، ولم يحملوا على ظهرها ، وهي من الأنعام التي حرّمت ظهورها . وأما السائبة : فهو الرجل يسيب من ماله ما شاء على وجه الشكر إن كثر ماله ، أو برأ من وجع ، أو ركب ناقة فأنجح ، فإنه يسمي السائبة يرسلها فلا يعرض لها أحد من العرب إلا أصابته عقوبة في الدنيا . وأما الوصيلة ، فمن الغنم ، هي الشاة إذا ولدت ثلاثة أبطن أو خمسة ، فكان آخر ذلك جديا ذبحوه وأهدوه لبيت الآلهة ، وإن كانت عَناقا استحيوها ، وإن كانت جديا وعناقا استحيوا الجدي من أجل العناق ، فإنها وصيلة وصلت أخاها . وأما لحام : فالفحل يضرب في الإبل عشر سنين ، ويقال : إذا ضرب ولد ولده قيل : قد حمي ظهره ، فيتركونه لا يمسّ ، ولا ينحر أبدا ، ولا يمنع من كلإ يريده ، وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، في قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " قال : البحيرة من الإبل التي يمنع درّها للطواغيت . والسائبة من الإبل : كانوا يسيبونها لطواغيتهم . والوصيلة من الإبل كانت الناقة تبكر بأنثى ، ثم تثني بأنثى ، فيسمونها الوصيلة ، يقولون : وصلت اثنتين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم ، أو يذبحونها ، الشكّ من أبي جعفر . والحام : الفحل من الإبل ، كان يضرب الضراب المعدود ، فإذا بلغ ذلك ، قالوا : هذا حام ، قد حمى ظهره فترك ، فسموه الحام . قال معمر ، قال قتادة : إذا ضرب عشرة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : البحيرة من الإبل : كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، فإن كان الخامس ذكرا كان للرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى بتكوا آذانها ، ثم أرسلوها ، فلم ينحروا لها ولدا ، ولم يشربوا لها لبنا ، ولم يركبوا لها ظهرا . وأما السائبة ، فإنهم كانوا يسيبون بعض إبلهم ، فلا تمنع حوضا أن تشرع فيه ، ولا مرعى أن ترتع فيه . والوصيلة : الشاة : كانت إذا ولدت سبعة أبطن ، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكله الرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركت .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، عن الضحاك : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " أما البحيرة : فكانت الناقة إذا نتجوها خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبا ، وإن كان رُبَعة شقوا أذنها واستحيوها ، وهي بحيرة . وأما السقب فلا يأكل نساؤهم منه ، وهو خالص لرجالهم ، فإن ماتت الناقة أو نتجوها ميتا فرجالهم ونساؤهم فيه سواء يأكلون منه . وأما السائبة : فكان يسيب الرجل من ماله من الأنعام ، فيهمل في الحمى فلا ينتفع بظهره ولا بولده ، ولا بلبنه ، ولا بشعره ، ولا بصوفه . وأما الوصيلة ، فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحوا السابع إذا كان جديا ، وإن كان عناقا استحيوه ، وإن كان جديا وعناقا استحيوهما كليهما ، وقالوا : إن الجدي وصلته أخته ، فحرمته علينا . وأما الحامي : فالفحل إذا ركبوا أولاد ولده ، قالوا : قد حمى هذا ظهره ، وأحرز أولاد ولده ، فلا يركبونه ، ولا يمنعونه من حمى شجر ، ولا حوض مّا شرع فيه ، وإن لم يكن الحوض لصاحبه ، وكانت من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء من شأنهم ، لا إن ركبوا ، ولا إن حملوا ، ولا إن حلبوا ، ولا إن نتجوا ، ولا إن باعوا ، ففي ذلك أنزل الله تعالى : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ . . . " إلى قوله : " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " قال : هذا شيء كانت تعمل به أهل الجاهلية ، وقد ذهب . قال : البحيرة : كان الرجل يجدع أذنى ناقته ثم يعتقها ، كما يعتق جاريته وغلامه ، لا تحلب ، ولا تركب . والسائبة : يسيبها بغير تجديع . والحام : إذا نتج له سبع إناث متواليات حمت لحمها أن يؤكل .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، قال : ثني ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، قال : قال سعيد بن المسيب : السائبة : التي كانت تسيب فلا يحمل عليها شيء . والبحيرة : التي يمنع درّها للطواغيت فلا يحلبها أحد . والوصيلة : الناقة البكر تبكر أوّل نتاج الإبل بأنثى ، ثم تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسمونها للطواغيت ، يدعونها الوصيلة ، إن وصلت إحداهما بالأخرى . والحامي : فحل الإبل يضرب العشر من الإبل ، فإذا نقص ضرابه يدعونه للطواغيت ، وأعفوه من الحمل ، فلم يحملوا عليه شيئا ، وسموه الحامي .
وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام ، فلا نعرف قوما يعملون بها اليوم . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه إذ لم يكن له في الإسلام اليوم أثر ، ولا في الشرك نعرفه إلا بخبر ، وكانت الأخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلاف الذي ذكرنا فالصواب من القول في ذلك أن يقال : أما معاني هذه الأسماء ، فما بينا في ابتداء القول في تأويل هذه الاية . وأما كيفية عمل القوم في ذلك ، فما لا علم لنا به . وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا ، وغير ضائر الجهل بذلك إذا كان المراد من علمه المحتاج إليه ، موصلاً إلى حقيقته ، وهو أن القوم كانوا محرمين من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله اتباعا منهم خطوات الشيطان ، فوبخهم الله تعالى بذلك ، وأخبرهم أن كلّ ذلك حلال ، فالحرام من كلّ شيء عندنا ، ما حرّم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بنصّ أو دليل . والحلال منه : ما أحلّه الله ورسوله كذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " .
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالذين كفروا في هذا الموضع والمراد بقوله : " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " . فقال بعضهم : المعنيّ بالذين كفروا : اليهود ، وبالذين لا يعقلون : أهل الأوثان .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن دواد بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ " قال : أهل الكتاب . " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " قال : أهل الأوثان .
وقال آخرون : بل هم أهل ملة واحدة ، ولكن «المفترين » المتبوعون ، و«الذين لا يعقلون » : الأتباع .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا خارجة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ في قوله : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " هم الأتباع . وأما «الذين افتروا » ، يعقلون أنهم افتروا .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن المعنيين بقوله : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ " الذين بحروا البحائر ، وسيبوا السوائب ، ووصلوا الوصائل ، وحموا الحوامي مثل عمرو بن لحي وأشكاله ، ممن سنوا لأهل الشرك السنن الرديئة وغيروا دين الله دين الحقّ وأضافوا إلى الله تعالى أنه هو الذي حرّم ما حرّموا وأحلّ ما أحلوا ، افتراء على الله الكذب وهم يعلمون ، واختلاقا عليه الإفك وهم يعمهون . فكذّبهم الله تعالى في قيلهم ذلك ، وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا ، فقال تعالى ذكره : ما جعلت من بحيرة ولا سائبة ، ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك ويفترون على الله الكذب . وأن يقال : إن المعنيين بقوله " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " هم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين ، فهم لا شكّ أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون ، لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن ، وأخبروهم أنها من عند الله كذبة في إخبارهم أفكة ، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقون في إخبارهم صادقون . وإنما معنى الكلام : وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرّمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى كذب وباطل . وهذا القول الذي قلنا في ذلك نظير قول الشعبيّ الذي ذكرناه ، ولا معنى لقول من قال : عنى بالذي كفروا : أهل الكتاب ، وذلك أن النكير في ابتداء الاية من الله تعالى على مشركي العرب ، فالختم بهم أولى من غيرهم ، إذ لم يكن عرض في الكلام ما يصرف من أجله عنهم إلى غيرهم . وبنحو ذلك كان يقول قتادة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " يقول : لا يعقلون تحريم الشيطان الذي يحرّم عليهم ، إنما كان من الشيطان ولا يعقلون .
استئناف ابتدائي جاء فارقاً بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما نوّه الله به ممّا كانوا عليه من شعائر الحج ، فإنّه لمّا بيّن أنّه جعل الكعبة قياماً للناس وجعل الهدْي والقلائد قياماً لهم ، بيّن هنا أنّ أموراً ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيّب ، فيكون كالبيان لآية { قل لا يستوي الخبيث والطيّب } [ المائدة : 100 ] ، فإنّ البَحيرة وما عطف عليها هنا تشبهُ الهدي في أنّها تحرّر منافعها وذواتها حيّة لأصنامهم كما تهدي الهدايا للكعبة مذكّاة ، فكانوا في الجاهلية يزعمون أنّ الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا ، ولذلك قال الله تعالى : { قل هلمَّ شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا وقال في هذه الآية : { ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب } . فالتصدّي للتفرقة بين الهدي وبين البحيرة والسائبة ونحوهما ، كالتصدّي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله : { إنّ الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 158 ] كما تقدّم هنالك . وقد قدّمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس : أنّ ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية .
وممّا يزيدك ثقة بما ذكرته أنّ الله افتتح هذه الآية بقوله : { ما جعل الله } لتكون مقابلاً لقوله في الآية الأخرى { جعل الله الكعبة } [ المائدة : 97 ] . ولولا ما توسّط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلاّ أنّ الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمّنه .
والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع ، لأنّ أصل ( جعل ) إذَا تعدّى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين ، ثم يستعار إلى التقدير والكتْب كما في قولهم : فرض عليه جعالة ، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } [ المائدة : 97 ] . فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنّها موجودة في الواقع . فنفي جعلها مُتعيّن لأن يكون المراد منه نفيَ الأمر والتشريع ، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضببِ على من جعله ، كما يقول الرجل لمن فعل شيئاً : ما أمرتك بهذا . فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام ، وذلك مثل قوله : { قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا } [ الأنعام : 150 ] فإنّه كناية عن الغضب على من حرّموه ، وليس المراد أنّ لهم أن يجتنبوه .
وأدخلت ( مِن ) الزائدة بعد النفي للتنصيص على أنّ النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معيّنة ، فقد ساوى أن يقال : لاَ بحيرة ولاَ سائبةَ مع قضاء حقّ المقام من بيان أنّ هذا ليس من جعل الله وأنّه لا يَرضى به فهو حرام .
والبَحيرة بفتح الباء الموحّدة وكسر الحاء المهملة فَعِيلة بمعنى مفعولة ، أي مبحورة ، والبَحْر الشقّ . يقال : بحرَشقّ . وفي حديث حفر زمزم أنّ عبد المطلب بَحَرَها بَحْراً ، أي شقّها ووسّعها . فالبحيرة هي الناقة ، كانوا يشقّون أذنها بنصفين طولاً علامة على تخليتها ، أي أنّها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يَجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم ، أي أصنامهم ، ولا يشرب لبنها إلاّ ضيف ، والظاهر أنّه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه ، فكلّ حيّ من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم . وقد كانت للقبائل أصنام تدين كلّ قبيلة لصنم أو أكثر .
وإنّما يجعلونها بحيرة إذا نُتجت{[226]} عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة . وقيل : إذا نُتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكراً . وإذا ماتت حتف أنفها حلّ أكل لحمها للرجال وحرم على النساء .
والسائبة : البعير أو الناقة يجعل نَذراً عن شفاء من مرض أو قدوم من سفر ، فيقول : أجعله لله سائبة . فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسّابة ، ولذلك يقال : عبد سائبة ، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال ، وقيل : فاعل بمعنى مفعول ، أي مسيّب .
وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع ، فيكون ذلك كالعتق وكانوا يدفعونها إلى السدنة ليُطعموا من ألبانها أبناء السبيل . وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فَقار الظهر ، فيقال لها : صَريم وجمعه صُرُم ، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلّهنّ إناث متتابعة سيّبوها أيضاً فهي سائبة ، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم . والظاهر أنّه يكون مثلها سائبة .
والوصيلة من الغنم هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى ، فتسمّى الأمّ وصيلة لأنّها وصلت أنثى بأنثى ، كذا فسّرها مالك في رواية ابن وهب عنه ، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المتقرّب بها ، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهراً . وقال الجمهور : الوصيلة أن تلد الشاة خمسة أبطن أو سبعة ( على اختلاف مصطَلَح القبائل ) فالأخير إذا كان ذكراً ذبحوه لبيوت الطواغيت وإن كانت أنثى استحيوها ، أي للطواغيت ، وإن أتأمت استحيوهما جميعاً وقالوا : وَصَلت الأنثى أخاها فمنعته من الذبح ، فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم ، وهي التي أبطلها الله تعالى ، ولم يتعرّضوا لبقية أحوال الشاة . والأظهر أنّ الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثاً ، جمعاً بين تفسير مالك وتفسير غيره ، فالشاة تسيّب للطواغيت ، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها لتكون الآية شاملة لأحوالها كلّها . وعن ابن إسحاق : الوصيلة الشاة تتئم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلاّ أن يموت شيء منها فيشترك في أكله الرجال والنساء .
وفي « صحيح البخاري » عن سعيد بن المسيّب : أنّ الوصيلة من الإبل إذا بكّرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى ثم تثنّي بعد بأنثى في آخر العام فكانوا يجعلونها لطواغيتهم .
وهذا قاله سعيد من نفسه ولم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في سياق البخاري إيهام اغترّ به بعض الشارحين ونبّه عليه في « فتح الباري » . وعلى الوجوه كلّها فالوصيلة فعيلة بمعنى فاعلة .
والحامي هو فحل الإبل إذا نُتجت من صلبه عشرة أبطن فيمنع من أن يركب أو يحمل عليه ولا يمنع من مرعًى ولا ماء . ويقولون : إنّه حمى ظهره ، أي كان سبباً في حمايته ، فهو حام . قال ابن وهب عن مالك ، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس ويسيّبونه ، فالظاهر أنّه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت وينتفع بوبره للأصنام .
وقوله : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } الاستدراك لرفع ما يتوهّمه المشركون من اعتقاد أنّها من شرع الله لتقادم العمل بها منذ قرون . والمراد بالذين كفروا هنا جميع المشركين فإنّهم يكذّبون في نسبة هذه الأشياء إلى شعائر الله لأنّهم جميعاً يخبرون بما هو مخالف لما في الواقع . والكذب هو الخبر المخالف للواقع .
والكفّار فريقان خاصّة وعامّة : فأمّا الخاصّة فهم الذين ابتدعوا هذه الضلالات لمقاصد مختلفة ونسبوها إلى الله ، وأشهر هؤلاء وأكذبهم هو عَمْرُو بنُ عامر بن لُحَيّ بضم اللام وفتح الحاء المهملة وياء مشدّدة الخزاعي ، ففي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بنَ عامر بن لُحَي الخزاعي يجُرّ قُصْبَه بضم القاف وسكون الصاد المهملة أي إمعاءه في النار ، وكان أولَ من سيّب السوائب . ومنهم جنادة بن عوف{[227]} . وعن مالك أنّ منهم رجلاً من بني مُدْلِج هو أول من بحَّر البَحيرة وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رأيته مع عَمرو في النار . رواه ابن العربي . وفي رواية أنّ عَمرو بن لحي أول من بحّر البحيرة وسيّب السائبة . وأصحّ الروايات وأشهرها عن رسول الله : أنّ عمرو بن لحي أول من سيّب السوائب ولم يذكر البحيرة .
وأمّا العامّة فهم الذين اتّبعوا هؤلاء المضلّين عن غير بصيرة ، وهم الذين أريدوا بقول : { وأكثرهم لا يعقلون } . فلمّا وصف الأكثر بعدم الفهم تعيّن أنّ الأقلّ هم الذين دبّروا هذه الضلالات وزيّنوها للناس .
والافتراء : الكذب . وتقدّم عند قوله تعالى : { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } في سورة آل عمران ( 94 ) .
وفي تسمية ما فعله الكفّار من هذه الأشياء افتراء وكذباً ونفي أن يكون الله أمر به ما يدلّ على أنّ تلك الأحداث لا تمتّ إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتين : إحداهما : أنّها تنتسب إلى الآلهة والأصنام ، وذلك إشراك وكفر عظيم . الثانية : أنّ ما يجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضرّه أكثر من نفعه ، لأنّ في تسييب الحيوان إضرار به إذ ربما لا يجد مرعى ولا مأوى ، وربما عدت عليه السباع ، وفيه تعطيل منفعته حتى يموت حتف أنفه . وما يحصل من درّ بعضها للضيف وابن السبيل إنّما هو منفعة ضئيلة في جانب المفاسد الحافّة به .