152- ولا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بأحسن تصرف يحفظه وينمّيه ، واسْتَمِروا على ذلك حتى يصل اليتيم إلى حالة من الرشد يستطيع معها أن يستقل بالتصرف السليم ، وحينئذ ادفعوا إليه ماله . ولا تمسوا الكيل والميزان بالنقص إذا أعطيتم ، أو بالزيادة إذا أخذتم ، بل أوفوها بالعدل ما وسعكم ذلك ، فالله لا يكلف نفساً إلا ما تستطيعه دون حرج . وإذا قلتم قولا في حكم أو شهادة أو خبر أو نحو ذلك ، فلا تميلوا عن العدل والصدق ، بل تحروا ذلك دون مراعاة لصلة من صلات الجنس أو اللون أو القرابة أو المصاهرة ، ولا تنقضوا عهد الله الذي أخذه عليكم بالتكاليف ، ولا العهود التي تأخذونها بينكم ، فيما يتعلق بالمصالح المشروعة ، بل أوفوا بهذه العهود . أمركم الله أمراً مؤكداً باجتناب هذه المنهيات ، لتتذكروا أن التشريع لمصلحتكم .
قوله تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ، يعني : بما فيه صلاحه وتثميره . وقال مجاهد : هو التجارة فيه . وقال الضحاك : هو أن يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئاً .
قوله تعالى : { حتى يبلغ أشده } ، قال الشعبي ومالك : الأشد : الحلم ، حتى يكتب له الحسنات ، وتكتب عليه السيئات . قال أبو العالية : حتى يعقل وتجتمع قوته ، وقال الكلبي : الأشد ما بين الثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة . وقيل : إلى أربعين سنة . وقيل : إلى ستين سنة . وقال الضحاك : عشرون سنة . وقال السدي : ثلاثون سنة . وقال مجاهد : الأشد ثلاث وثلاثون سنة . والأشد جمع شد ، مثل قد وأقد ، وهو استحكام قوة شبابه وسنه ، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه . وقيل : بلوغ الأشد أن يؤنس رشده بعد البلوغ . وتقدير الآية : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } على الأبد حتى يبلغ أشده ، فادفعوا إليه ماله إن كان رشيداً .
قوله تعالى : { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } ، بالعدل .
قوله تعالى : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } ، أي : طاقتها في إيفاء الكيل والميزان ، لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه ، ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه ، حتى لا تضيق نفسه عنه ، بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه . قوله تعالى : { وإذا قلتم فاعدلوا } ، فاصدقوا في الحكم والشهادة .
قوله تعالى : { ولو كان ذا قربى } ، ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قرابة .
قوله تعالى : { وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } ، تتعظون ، قرأ حمزة والكسائي وحفص تذكرون خفيفة الذال ، كل القرآن ، والآخرون بتشديدها . قال ابن عباس : هذه الآيات محكمات في جميع الكتب ، لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم ، وهن أم الكتاب ، من عمل بهن دخل الجنة ، ومن تركهن دخل النار .
والوصية السادسة تأتى فى مطلع الآية الثانية فتقول : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } .
أى : لا تقربوا مال اليتيم الذى فقد الأب الحانى ، ولا تتعرضوا لما هو من حقه بوجه من الوجوه إلا بالوجه الذى ينفعه فى الحال أو المآل ، كتربيته وتعليمه ، وحفظ ماله واستثماره .
وإذن ، فكل تصرف مع اليتيم أو فى ماله لا يقع فى تلك الدائرة - دائرة الأنفع والأحسن - محظور ، ومنهى عنه .
قال بعض العلماء : وكثيرا ما يتعلق النهى فى القرآن بالقربان من الشىء ، وضابطه بالاستقراء : أن كل منهى عنه كان من شأنه أن تميل إليه النفوس وتدفع إليه الأهواء النهى فيه عن " القربان " ويكون القصد التحذير من أن يأخذ ذلك الميل فى النفس مكانة تصل بها إلى اقتراف المحرم ، وكان من ذلك فى الوصايا السابقة النهى عن الفواحش ، ومن هذا الباب { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } إلخ .
أما المحرمات التى لم يؤلف ميل النفوس إليها ولا إقتضاء الشهوات لها ، فإن الغالب فيها أن يتعلق النهى عنها بنفس الفعل لا بالقربان منه . ومن ذلك فى الوصايا السابقة الشرك بالله ، وقتل الأولاد ، وقتل النفس التى حرم الله قتلها ، فإنها وإن كان الفعل المنهى عنه فيها أشد قبحا وأعظم جرما عند الله من أكل مال اليتيم وفعل الفواحش ، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية يميل إليها الإنسان بشهوته ، وإنما هى فى نظر العقل على المقابل من ذلك ، يجد الإنسان فى نفسه مرارة من ارتكابها ، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها أو فى حكم الكاره .
وقوله : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ليس غاية للنهى ، إذ ليس المعنى فإذا بلغ أشده فاقربوه لأن هذا يقتضى إباحة أكل الولى له بعد بلوغ الصبى ، بل هو غاية لما يفهم من النهى كأنه قيل : احفظوه حتى يصير بالغا رشيداً فحينئذ سلموا إليه ماله .
والخطاب للأولياء والأوصياء . أى : احفظوا ماله حتى يبلغ الحلم فإذا بلغه فادفعوه إليه .
والأشد : قوة الإنسان واشتعال حرارته : من الشدة بمعنى القوة والارتفاع . يقال : شد النهار إذا ارتفع . وهو مفرد جاء بصيغة الجمع . ولا واحد له .
والوصية السابعة : { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .
أى : أتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون .
فالجملة الكريمة أمر من الله - تعالى - لعباده بإقامة العدل فى التعامل : بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ولا بخس ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة .
والكيل والوزن : مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن ، كالعيش بمعنى ما يعاش به . وبالقسط حال من فاعل أوفوا أى : أوفوهما مقسطين أى : متلبسين بالقسط . ويجوز أن يكون حالا من الفعول أى : أوفوا الكيل والميزان بالقسط أى : تامّين .
وهذه الوصية هى مبدأ العدل والتعادل ، وكل مجتمع محتاج إليها ، فالناس لا بد لهم من التعامل ، ولا بد لهم من التبادل ، والكيل والوزن هما وسيلة ذلك ، فلا بد من أن يكونا منضبطين بالقسط .
والمجتمعات الأمينة التى لا تجد فيها أحدا يغبن عن جهل أو غفلة ، وهى أيضاً المجتمعات الأمينة التى لا تجد فيها من يحاول أن يأخذ أكثر من حقه . أو يعطى أقل مما يبج عليه .
وقوله { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أى : لا نكلف نفسها إلا ما يسعها ولا يعسر عليها . والجملة مستأنفة جىء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل ، للترخيص فيما خرج عن الطاقة ، ولبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج وذلك لأن التبادل التجاري لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة أو التعادل ، فلا بد من تقبل اليسير من الغبن فى هذا الجانب أو ذاك .
والوصية الثامنة تقول : { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } .
أى : وإذا قلتم قولا فاعدلوا فيه ولو كان المقول له أو عليه صاحب قرابة منكم .
إذ العدل هو أساس الحكم السليم : العدل فى القول ، والعدل فى الحكم ، والعدل فى كل فعل .
وإنما خصصت الآية العدل فى القول مع أن العدل مطلوب فى الأقوال والأفعال وفى كل شىء ، لأن أكثر ما يكون فيه العدل أقوال كالشهادة ، والحكم ، ثم الأقوال هى التى تراود النفوس فى كل حال . فالإنسان حين تصادفه قضية من القضايا القولية أو العملية يحدث نفسه فى شأنها ، ويراوده معنى العدل وكأنه يطالبه بأن ينطق به ويؤيده ، فيقول فى نفسه سأفعل كذا لأنه العدل ، فإذا لم يكن صادقا فى هذا القول فقد جافى العدل وقال زوراً وكذبا .
أما قوله { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } فهو أخذ بالإنسان عما جرت به عادته من التأثر بصلات القربى فى المحاباة للأقرباء والظلم لغيرهم .
فالقرآن يرتفع بالضمير البشرى إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة فى الله ، بأن يكلفه بتحرى العدل فى كل أحواله ولو إزاء أقرب المقربين إليه .
أما الوصية التاسعة والأخيرة فى هذه الآية فهى قوله - تعالى - { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } أى : كونوا أوفياء مع الله فى كل ما عهد إليكم به من العبادات والمعاملات وغيرها .
إذ الوفاء أصل من الأصول التى يتحقق بها الخير والصلاح ، وتستقر عليها أمور الناس .
وقوله : { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } يفيد الحصر لتقديم المعمول ، وفى هذا إشعار بأن هناك عهوداً غير جديرة بأن تنسب إلى الله ، وهى العهود القائمة على الظلم أو الباطل ، أو الفساد ، فمثل هذه العهود غير جديرة بالاحترام ، ويجب العمل على التخلص منها .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أى : ذلكم المتلو عليكم فى هذه الآية من الأوامر والنواهى وصاكم الله به فى كتابه رجاء أن تتذكروا وتعتبروا وتعملوا بما أمرتم به وتجتنبوا ما نهيتم عنه أو رجاء أن يذكِّر بعضكم بعضا فإن التناصح واجب بين المسلمين .
( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) . .
واليتيم ضعيف في الجماعة ، بفقده الوالد الحامي والمربي . ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة - على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي - وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية . وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشيا في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه ؛ حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه ؛ فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود . حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة ، وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه :
( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) .
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم . فيصونه وينميه ، حتى يسلمه له كاملاً ناميا عند بلوغه أشده . أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية . ليحمي ماله ، ويحسن القيام عليه . وبذلك تكون الجماعة قد أضافت إليها عضواً نافعاً ؛ وسلمته حقه كاملا .
وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد . . عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك ، بلوغ الحلم . وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما . وعند السدي ثلاثون ، وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معاً بدون تحديد .
( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - ) .
وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف . والسياق يربطها بالعقيدة ؛ لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة . والذي يوصي بها ويأمر هو الله . ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية ، وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة ، وعلاقتها بكل جوانب الحياة . .
ولقد كانت الجاهليات - كما هي اليوم - تفصل بين العقيدة والعبادات ، وبين الشرائع والمعاملات . . من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب : ( قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ؟ !
ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء ، وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة ، للدلالة على طبيعة هذا الدين ، وتسويته بين العقيدة والشريعة ، وبين العبادة والمعاملة ، في أنها كلها من مقومات هذا الدين ، المرتبطة كلها في كيانه الأصيل .
( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) . .
وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداء - إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري . الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد ؛ بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل ؛ وفي قوة القرابة سند لضعفه ؛ وفي سعة رقعتها كمال لوجوده ، وفي امتدادها جيلاً بعد جيل ضمان لامتداده ! ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم ، أو القضاء بينهم وبين الناس . . وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل ، على هدى من الاعتصام بالله وحده ، ومراقبة الله وحده ، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى ، وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه ؛ وهو - سبحانه - أقرب إلى المرء من حبل الوريد . .
لذلك يعقب على هذا الأمر - وعلى الوصايا التي قبله - مذكراً بعهد الله :
ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى . ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط . ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق . . وقبل ذلك كله . . من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً . فهذا هو العهد الأكبر ، المأخوذ على فطرة البشر ، بحكم خلقتها متصلة بمبدعها ، شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها .
ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف :
( ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) . .
والذكر ضد الغفلة . والقلب الذاكر غير الغافل ، وهو يذكر عهد الله كله ، ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها .
قال عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } الآية [ النساء : 10 ] ، فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله ويفسد . فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله [ عَزَّ وجل ]{[11377]} : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] ، قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم . رواه أبو داود .
وقوله : { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قال الشعبي ، ومالك ، وغير واحد من السلف : يعني : حتى يحتلم .
وقال السُّدِّي : حتى يبلغ ثلاثين سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ستون سنة . قال : وهذا كله بعيد هاهنا ، والله أعلم .
وقوله : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء ، كما توعد على تركه في قوله تعالى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ المطففين : 1 - 6 ] . وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان .
وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي ، من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرّحَبي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان : " إنكم وُلّيتم أمرًا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم " . ثم قال : لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحُسين ، وهو ضعيف في الحديث ، وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا{[11378]} .
قلت : وقد رواه ابن مَرْدُوَيه في تفسيره ، من حديث شَرِيك ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم مَعْشَر الموالي قد بَشَّرَكم الله بخصلتين بها هلكت القرون المتقدمة : المكيال والميزان " {[11379]} .
وقوله تعالى : { لا نُكَلِّفُ{[11380]} نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي : من اجتهد في أداء الحق وأخذه ، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه .
وقد روى ابن مَرْدُوَيه من حديث بَقِيَّة ، عن مُبَشر{[11381]} بن عبيد ، عن عمرو بن ميمون بن مهْران ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسَيَّب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } فقال : " من أوفى على يده في الكيل والميزان ، والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما ، لم يؤاخذ " . وذلك تأويل { وُسْعَهَا } هذا مرسل غريب{[11382]} .
وقوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ] }{[11383]} [ المائدة : 8 ] ، وكذا التي تشبهها في سورة النساء [ الآية : 135 ] ، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال ، على القريب والبعيد ، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد ، في كل وقت ، وفي كل حال .
وقوله : { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } قال ابن جرير : يقول وَبِوَصِيَّة الله التي أوصاكم بها فأوفوا . وإيفاء ذلك : أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم ، وتعملوا بكتابه وسنة رسوله ، وذلك هو الوفاء بعهد الله .
{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يقول تعالى : هذا وصاكم به ، وأمركم به ، وأكد عليكم فيه { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون وتنتهون عما{[11384]} كنتم فيه قبل هذا ، وقرأ بعضهم بتشديد " الذال " ، وآخرون بتخفيفها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّىَ يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ولاَ تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيم إلاّ بالتي هي أحْسَن ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتيمِ إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ قال : التجارة فيه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ فليثمّر ماله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق العنزي ، عن سليط بن بلال ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيم إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ قال : يبتغي له فيه ، ولا يأخذ من ربحه شيئا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلاّ بالتي هيَ أحْسَنُ قال : التي هي أحسن : أن يأكل بالمعروف إن افتقر ، وإن استغنى فلا يأكل قال الله : وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَليْأْكُلْ بالمَعْرُوف . قال : وسئل عن الكسوة فقال : لم يذكر الله الكسوة إنما ذكر الأكل .
وأما قوله : حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ فإن الأشدّ جمع شدّ ، كما الأضرّ جمع ضرّ ، وكما الأشرّ جمع شرّ . والشدّ : القوّة ، وهو استحكام قوّة شبابه وسنه ، كما شدّ النهار ارتفاعه وامتداده ، يقال : أتيته شدّ النهار ومدّ النهار ، وذلك حين امتداده وارتفاعه وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة :
عَهْدِي بِه شَدّ النّهار كأنّمَا ***خُضِبَ اللّبانُ ورأسُهُ بالعِظْلِم
يُطِيفُ بِهِ شَدّ النّهار ظَعِينَةٌ ***طَويلَةُ أنْقاء اليَدَيْن سَحُوقُ
وكان بعص البصريين يزعم أن الأشدّ اسم مثل الاَنك . فأما أهل التأويل فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل بلغ أشدّه ، فقال بعضهم : يقال ذلك له إذا بلغ الحلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عمرو بن الحرث ، عن ربيعة ، في قوله : حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ قال : الحلم .
حدثني أحمد بن عبد الرحن ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، مثله . قال ابن وهب : وقال لي مالك مثله .
حُدثت عن الحماني ، قال : حدثنا هشيم ، عن مجاهد ، عن عامر : حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ قال : الأشدّ : الحلم ، حيث تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات .
وقال آخرون : إنما يقال ذلك له إذا بلغ ثلاثين سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ قال : أما أشدّه : فثلاثون سنة ، ثم جاء بعدها : حتى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ .
وفي الكلام محذوف ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر عما حذف . وذلك أن معنى الكلام : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، حتى يبلغ أشدّه ، فإذا بلغ أشده فآنستم منه رشدا فادفعوا إليه ماله . لأنه جلّ ثناؤه لم ينه أن يُقرَب مال اليتيم في حال يتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه ويحلّ لوليه بعد بلوغه أشدّه أن يرقبه بالتي هي أسوأ ، ولكنه نهاهم أن يقربوا حياطة منه له وحفظا عليه ليسلموه إليه إذا بلغ أشدّه .
القول في تأويل قوله تعالى : وأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزَانَ بالقِسْطِ لا نُكَلّفُ نَفْسا إلاّ وُسعَها .
يقول تعالى ذكره : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ، وأن أوفوا الكيل والميزان ، يقول : لا تبخسوا الناس الكيل إذا كلتوهم والوزن إذا وزنتموهم ، ولكن أوفوهم حقوقهم وإيفاؤهم ذلك : إعطاوهم حقوقهم تامّة بالقسط ، يعني : بالعدل . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بالقِسْطِ بالعدل .
وقد بيّنا معنى القسط بشواهده فيما مضى وكرهنا إعادته .
وأما قوله : لا نُكَلّفُ نَفْسا إلا وُسْعَها فإنه يقول : لا نكلف نفسا من إيفاء الكيل والوزن إلا ما يسعها ، فيحلّ لها ، ولا تحرَج فيه . وذلك أن الله جلّ ثناؤه علم من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجب عليها له ، فأمر المعطى بإيفاء ربّ الحقّ حقه الذي هو له ولم يكلفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها ، وأمر الذي له الحقّ بأخد حقه ولم يكلفه الرضا بأقلّ منه ، لما في النقصان عنه من ضيق نفسه ، فلم يكلف نفسا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق ، فلذلك قال : لا نُكَلّفُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها . وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أوْفُوا ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا : وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم ، فقولوا الحقّ بينهم ، واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا ولو كان الذي يتوجه الحقّ عليه والحكم ذا قرابة لكم ، ولا يحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره ، أن تقولوا غير الحقّ فيما احتكم إليكم فيه . وَبِعَهْدِ اللّهِ أوْفُوا يقول : وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا وإيفاء ذلك أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم ، وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك هو الوفاء بعهد الله .
وأما قوله : ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك : هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الاَيتين ، هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا ووصاكم بها ربكم وأمركم بالعمل بها ، لا بالبحائر والسوائب والوصائل والحام وقتل الأولاد ووأد البنات واتباع خطوات الشيطان . لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول : أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الاَيتين ووصاكم بها وعهد إليكم فيها ، لتتذكروا عواقب أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الاَيتين ، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها ، لتتذكروا عواقب أمركم وخطأ ما أنتم عليه مقيمون ، فتنزجروا عنها وترتدعوا وتنيبوا إلى طاعة ربكم . وكان ابن عباس يقول : هذه الاَيات هنّ الاَيات المحكمات .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عليّ بن صالح ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن قيس ، عن ابن عباس ، قال : هنّ الاَيات المحمات ، قوله : قُلْ تَعالُوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئْا .
حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت يحيى بن أيوب ، يحدّث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد بن عبد الله ، عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار ، قال : سمع كعب الأحبار رجلاً يقرأ : قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ فقال : والذي نفس كعب بيده ، إن هذا لأوّل شيء في التوراة «بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن رجل ، عن الربيع بن خيثم أنه قال لرجل : هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد ؟ ثم قرأ هؤلاء الاَيات : قُلْ تَعَالُوا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرّة ، قال : قال الربيع : ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لم يقل خاتمها . فقرأ هذه الاَيات : قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : جاء إليه نفر فقالوا : قد جالست أصحاب محمد فحدّثنا عن الوحي فقرأ عليهم هذه الاَيات من الأنعام : قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فما عندنا وحي غيره .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال : هؤلاء الاَيات التي أوصى بها من محكم القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا قال : قولوا الحقّ .