المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

37- فتقبل الله مريم نذراً لأمها ، وأجاب دعاءها ، فأنبتها نباتاً حسناً ، وربَّاها في خيره ورزقه وعنايته تربية حسنة مقومة لجسدها ، وشأنه أن يرزق من يشاء من عباده رزقاً كثيراً ، كلما دخل عليها زكريا في معبدها وجد عندها رزقاً غير معهود في وقته . قال - متعجباً - : يا مريم من أين لك هذا الرزق ؟ قالت : هو من فضل الله ، وجعل زكريا - عليه السلام - كافلا لها . وكان رزقها بغير عدد ولا إحصاء .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

قوله تعالى : { فتقبلها ربها بقبول حسن } أي قبل الله مريم من حنة مكان المحرر ، وتقبل بمعنى قبل ورضي ، والقبول مصدر قبل يقبل قبولاً ، مثل الولوغ والوزوع ، ولم يأت غير هذه الثلاثة ، وقيل : معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها .

قوله تعالى : { وأنبتها نباتاً حسناً } معناه : وأنبتها فنبتت نباتاً حسناً ، وقيل : هذا مصدر على غير الصدر أي المصدر ، وكذلك قوله ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) ومثله سائغ ، كقولك تكلمت كلاماً ، وقال جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) أي سلك بها طريق السعداء ( وأنبتها نباتاً حسناً ) يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام .

قوله تعالى : { وكفلها زكريا } . قال أهل الأخبار :أخذت حنة مريم حين ولدتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ، عندي خالتها ، فقالت له الأحبار : لا نفعل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس لتركت لأمها التي ولدتها ، لكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه ، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلاً إلى نهر جار . قال السدي : هو نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء فصعد فهو أولى بها وقيل : كان على كل قلم اسم واحد منهم . وقيل : كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء فارتد قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر ، قاله محمد بن إسحاق وجماعة ، وقيل جرى قلم زكريا مصعداً إلى أعلى الماء ، وجرت أقلامهم بجري الماء ، وقال السدى وجماعة : بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامهم في جرية الماء ، فسهمهم وقرعهم زكريا ، وكان رأس الأحبار ونبيهم ، فذلك قوله تعالى : ( وكفلها زكريا ) . قرأ حمزة وعاصم والكسائي " كفلها " بتشديد الفاء ، فيكون زكريا في محل النصب ، أي ضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة ، وقرأ الآخرون بالتخفيف فيكون زكريا في محل الرفع ، أي ضمها زكريا إلى نفسه وقام بأمرها ، وهو زكريا بن أذن بن مسلم ، بن صدوق ، من أولاد سليمان ، بن داود عليهما السلام ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " زكريا " مقصوراً والآخرون يمدونه ، فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتاً واسترضع لها ، وقال محمد بن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بالسلم ، مثل باب الكعبة ، لا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم .

قوله تعالى : { كلما دخل عليها زكريا المحراب } . وأراد بالمحراب الغرفة ، والمحراب أشرف المجالس ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، ويقال للمسجد أيضاً محراب ، قال المبرد : لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرجة ، وقال الربيع ابن أنس : كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها فتحها .

قوله تعالى : { وجد عندها رزقاً }أي فاكهة في غير حينها ، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف .

قوله تعالى : { قال يا مريم أنى لك هذا } قال أبو عبيدة : معناه من أين لك هذا ؟ وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا ؟ لأن " آنى " للسؤال عن الجهة " وأين " لسؤال عن المكان .

قوله تعالى : { قالت هو من عند الله } أي من قطف الجنة ، وقال أبو الحسن : إن مريم من حين ولدت لم تلقم ثدياً قط ، كان يأتيها رزقها من الجنة فيقول لها زكريا : أنى لك هذا ؟ فتقول : هو من عند الله ، تكلمت وهي صغيرة .

قوله تعالى : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } . وقال محمد بن إسحاق : ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها فخرج على بني إسرائيل فقال : يا بني إسرائيل تعلمون والله لقد كبرت سني ، وضعفت عن حمل مريم بنت عمران ، فأيكم يكفلها بعدي ؟ قالوا : والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى ، فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بداً فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له : يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم فحملها فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه ، فقالت له : يا يوسف أحسن بالله الظن فإن الله سيرزقنا ، فجعل يوسف يزرق بمكانها منه فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها ، فإذا أدخله عليها في الكنيسة أنماه الله ، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلاً من الرزق ليس بقدر ما يأتيها به يوسف ، فيقول : ( يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) .

قال أهل الأخبار : فلما رأى ذلك زكريا قال : إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب لقادر على أن يصلح زوجتي ، ويهب لي ولداً في غير حينه على الكبر ، فطمع في الولد ، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

تلك هى بعض الكلمات الطيبات والدعوات الخاشعات ، التي توجهت بها امرأة عمران إلى ربها عندما أحست بالحمل في بطنها وعندما وضعت حملها حكاها القرآن بأسلوبه البليغ المؤثر ، فماذا كانت نتيجتها ؟

كانت نتيجتها أن أجاب الله دعاءها وقبل تضرعها ، وقد حكى - سبحانه - ذلك بقوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } .

والفاء في قوله : { فَتَقَبَّلَهَا } تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة ، والضمير يعود إلى مريم . والتقبل - كما يقول الراغب - قبول الشيء على وجه يقتضي ثوابا كالهداية ونحوها . وإنما قال - سبحانه - { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ } ولم يقل بتقبل : للجمع بين الأمرين : التقبل الذى هو الترقي فى القبول ، والقبول الذى يقتضى الرضا والإثابة " .

والمعنى : أن الله - تعالى - تقبل مريم قبولا مباركا وخرق بها عادة قومها ، فرضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته كالذكور ، مع كونها أنثى وفاء بنذر الأم التقية التى قالت { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } .

{ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أى رباها تربية حسنة ، وصانها من كل سوء ، فكان حالها كحال النبات الذى ينمو في الأرض الصالحة حتى يؤتي ثماره الطيبة .

وهكذا قيض الله - تعالى - لمريم كل ألوان السعادة الحقيقية ، فقد قبلها لخدمة بيته مع أنها أنثى ، وأنشأها حسنة بعيدة عن كل نقص خُلُقي أو خَلْقي ، وهيأ لها وسائل العيش الطيب من حيث لا تحتسب . فقد قال - تعالى - { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .

قوله { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أى ضمها إلى زكريا ، لأن الكفالة في أصل معناها الضم .

أي ضمها الله - تعالى - إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها .

وقرئ { وَكَفَّلَهَا } بتخفيف الفاء . وبرفع { زَكَرِيَّا } على أنه فاعل . وعلى هذه القراءة تنطق كلمة زكريا بالمد قبل الهمزة فقط أى " زكرياء " .

أما على القراءة الأولى فيجوز في زكريا المد والقصر .

وزكريا هو أحد أنبياء بنى إسرائيل وينتهى نسبة إلى سليمان بن داود - عليهما السلام - وكان متزوجا بخالة مريم ، وقيل كان متزوجا بأختها .

وكانت كافلته لها نتيجة اقتراع بينه وبين من رغبوا في كفالتها من سدنة بيت المقدس ، يدل على ذلك قوله - تعالى - { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } قال صاحب الكشاف : " روى أن " حنة " حين ولدت مريم ، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس ، فقال لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم " .

فقال لهم زكريا : أنا أحق بها عندى خالتها فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا إلى نهر وألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها " .

وقوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } بيان لكفالة الله - تعالى - لرزقها ورضاه عنها ، ورعايته لها .

والمحراب موضع العالي الشريف والمراد به الغرفة التي تتخذها مريم مكانا لعبادتها فى المسجد . سمى بذلك لأنه مكان محاربى الشيطان والهوى .

قال الألوسي ما مخلصه : " والمحراب - على ما روي عن ابن عباس - غرقة بنيت لها في بيت المقدس ، وكانت لا يصعد إليها إلا بسلم . وقيل المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب . وقيل المراد به أشرف مواضع المسجد ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد أصله مفعال : صيغة مبالغة - كمطعان - فسمى به المكان ، لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه و " كلما " ظرف على أن " ما " مصدرية ، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت ، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها .

والمعنى : كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه " وجد عندها رزقا " أى أصاب ولقى بحضرتها ذلك أو وجد ذلك كائنا بحضرتها . أخرجه بن جرير عن الربيع قال : " أنه كان لا يدخل أحد سوى زكريا فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف " والتنوين في { رِزْقاً } للتعظيم . . .

وهذا دليل على قدرة الله - سبحانه - على كل شىء ، وعلى رعايته لمريم ، فقد رزقها - سبحانه - من حين لا تحتسب ، ودليل على وقوع الكرامة أوليائه - تعالى - .

ولقد كان وجود هذا الرزق عند مريم دون أن يعرف زكريا - عليه السلام - مصدره مع أنه لا يدخل عليها أحد سواه كان ذلم محل عجبه ، لذا حكى القرآن عنه : { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } أى من أين لك هذا الرزق العظيم الذى لا أعرف سببه ومصدره . و { أنى } هنا بمعنى من أين .

والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال زكريا عند مشاهدة هذا الرزق ؟ فكان الجواب : قال يا مريم من أين لك هذا .

ولقد كانت إجابة مريم على زكريا تدل على قوة إيمانها ، وصفاء نفسها . فقد أجابته بقولها - كما حكى القرآن عنها - { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } أى : قالت له إن هذا الزرق من عند الله - تعالى - فهو الذى رزقني إياه وسافه إلى بقدرته النافذة .

وقوله - تعالى - { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } جملة تعليلية . أى : إن الله تعالى ، يرزق من يشاء أن يرزقه رزقا واسعا عظيما لا يحده حد ، ولا تجرى عليه الأعداد التي تنتهى ، فهو - سبحانه - لا يحاسبه محاسب ، ولا تنقص خزائنه من أى عطاء مهما كثر وعظم .

وهذه الجملة الكريمة يحتمل أنها من كلام الله - تعالى - فتكون مستأنفة ، ويحتمل أنها من كلامها الذى حكاه القرآن عنها ، فتكون تعليلية في محل نصب داخلة تحت القول .

هذا وفى تلك الآيات التى حكاها القرآن عن مريم وأمها نرى كيف يعمل الإيمان عمله في القلوب فينقيها ويصفيها ويحررها من رق العبودية لغير الله الواحد القهار وكيف أن الله تعالى ، يتقبل دعاء عباده الصالحين ، وينبتهم نباتا حسنا ، ويرعاهم برعايته ، يزرقهم من حيث لا يحتسبون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

33

( فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ) . .

جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم ، وهذا التجرد الكامل في النذر . . وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح ، وكلمة الله ، وأن تلد عيسى - عليه السلام - على غير مثال من ولادة البشر .

( وكفلها زكريا ) . .

أي جعل كفالتها له ، وجعله أمينا عليها . . وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي . من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل .

ونشأت مباركة مجدودة . يهيىء لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته :

( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .

ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة . فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقا . حتى ليعجب كافلها - وهو نبي - من فيض الرزق . فيسألها : كيف ومن أين هذا كله ؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله ، وتفويض الأمر إليه كله :

و من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . .

وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه ، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه . والتواضع في الحديث عن هذا السر ، لا التنفج به والمباهاة ! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا . هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى . .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

تقبل مريم من أمها بتحريرها إياها للكنيسة وخدمتها، وخدمة ربها بقبول حسن، والقبول: مصدر من قبلها ربها.

{وأنْبَتَها نَباتا حَسَنا}: وأنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتا حسنا حتى تمت فكملت امرأة بالغة تامة.

{وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا}: اختلفت القراء في قراءة قوله: {وَكَفّلَهَا}؛ فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة: «وكَفَلَها» مخففة الفاء بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارا بقول الله عزّ وجلّ: {يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم}. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: {وَكَفّلَها زَكَرِيّا} بمعنى: وكفّلها الله زكريا.

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ: {وكَفّلَها} مشددة الفاء بمعنى: وكفّلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه¹ لأن زكريا أيضا ضمها إليها بإيجاب الله له ضمها إليه بالقرعة التي أخرجها الله له، والآية التي أظهرها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قرع فيها من شاحّه فيها. وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكون عنده، تساهموا بقداحهم فرموا بها في نهر الأردن، فقال بعض أهل العلم: رتَب قِدْحُ زكريا، فقام فلم يجر به الماء وجرى بقداح الآخرين الماء، فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحقّ المتنازعين فيها. وقال آخرون: بل صعد قدح زكريا في النهر، وانحدرت قداح الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علما من الله في أنه أولى القوم بها. وأيّ الأمرين كان من ذلك فلا شكّ أن ذلك كان قضاء من الله بها لزكريا على خصومه بأنه أولاهم بها، وإذا كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضم الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تشاحهم فيها واختصامهم في أولاهم بها.

وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنا أن أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد «كفلّها». وأما ما اعتلّ به القارئون ذلك بتخفيف الفاء من قول الله: {أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم} وأن موجب صحة اختيارهم التخفيف في قوله: {وَكَفّلَهَا} فحجة دالة على ضعف احتيال المحتجّ بها. وذلك أنه غير ممتنع ذو عقل من أن يقول قائل: كفل فلان فلانا فكفله فلان، فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم أيهم يكفل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.

فتأويل الكلام: وضمها الله إلى زكريا.

وقال آخرون: بل كان زكريا كفلها بغير اقتراعٍ ولا استهامٍ عليها ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها... فضمها إلى خالتها أمّ يحيى، فكانت إليهم ومعهم، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها التي نذرت فيها. قالوا: والاقتراع فيها بالأقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة إصابتهم ضعف زكريا عن حمل مؤنتها، فتدافعوا حمل مؤنتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسا عليها وعلى احتمال مؤنتها.

فعلى هذا التأويل تصحّ قراءة من قرأ: «وَكَفَلَها زَكَرِيّا» بتخفيف الفاء لو صحّ التأويل. غير أن القول متظاهر من أهل التأويل بالقول الأول إن استهام القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سهمه منها فالجا على سهام خصومه فيها، فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف.

{كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا}: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحراب بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقا من الله لغذائها. فقيل: إن ذلك الرزق الذي كان يجده زكريا عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء... كان يجد عندها العنب في غير حينه... كان زكريا إذا دخل عليها يعني على مريم المحراب وجد عندها رزقا من السماء من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلاً عما كان يأتيها به الذي كان يمونها في تلك الأيام. وأما المحراب: فهو مقدم كل مجلس ومصلى، وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها، وكذلك هو من المساجد.

{قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى لَكَ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}: قال زكريا يا مريم: أنى لك هذا؟ من أيّ وجه لك هذا الذي أرى عندك من الرزق، قالت مريم مجيبة له: هو من عند الله، تعني أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها...

وأما قوله: {إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِساب}: فخبر من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقه بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبده، لأنه جل ثناؤه لا ينقص سوقه ذلك إليه، كذلك خزائنه، ولا يزيد إعطاؤه إياه، ومحاسبته عليه في ملكه، وفيما لديه شيئا، ولا يعزب عنه علم ما يرزقه، وإنما يحاسب من يعطي ما يعطيه من يخشى النقصان من ملكه، بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف ومن كان جاهلاً بما يعطى على غير حساب.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فتقبلها ربها بقبول حسن} يحتمل قوله: {فتقبلها ربها بقبول حسن} إذ أعاذها {وذريتها من الشيطان الرجيم} على ما سألت. ويحتمل أن جعلها تصلح للتحرير، ولما جعلت، وإن كانت أنثى...

{وأنبتها نباتا حسنا} يحتمل أن لم يجعل الشيطان إليها سبيلا، ويحتمل أن رباها تربية حسنة أن لم يجعل رزقها وكفايتها بيد أحد من الخلق، بل هو الذي تولى ذلك، لما يبعث إليها من ألوان الرزق... كقوله: {وجد عندها رزقا} وكقوله: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} [مريم: 25]...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}؛ حتى استقامت على الطاعة، وآثرت رضاه -سبحانه- في جميع الأوقات، وحتى كانت الثمرة منها مثل عيسى عليه السلام، وهذا هو النبات الحسن. "وكفلها زكريا"؛ ومن القبول الحسن والنبات الحسن أَنْ جعل كافِلَها والقَيَّمَ بأمرها وحفظها نبياً من الأنبياء مثل زكريا عليه السلام،... {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هّذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}...

مِنْ إمارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا في المحراب، ومن كان مسكنه وموضعه الذي يتعبَّدُ فيه وهناك يوجد المحراب -فذلك عَبْدٌ عزيز...

كان زكريا عليه السلام يقول: {أَنَّى لَكِ هَذَا}؟ لأنه لم يكن يعتقد فيها استحقاق تلك المنزلة، وكان يخاف أن غيره يغلبه وينتهز فرصة تعهدها ويسبقه بكفاية شُغْلها، فكان يسأل ويقول: {أَنَّى لَكِ هَذَا} ومن أتاكِ به؟... وكانت مريم تقول: هو من عند الله لا من عند مخلوق، فيكون لزكريا فيه راحتان: إحداهما شهود مقامها وكرامتها عند الله تعالى، والثانية أنه لم يغلبه أحد على تعهدها، ولم يسبق به...

{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ}؛ فلفظة "كلَّما" للتكرار، وفي هذا إشارة: وهو أن زكريا عليه السلام لم يَذَرْ تَعهُّدَها- وإنْ وجد عندها رزقًا -بل كل يومٍ وكل وقتٍ كان يتفقد حالها...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها، ولذلك جعلوها كما نذرت،... وقوله {وأنبتها نباتاً حسناً}، عبارة عن حسن وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق،... وقوله تعالى: {وكفلها زكريا} معناه: ضمها إلى إنفاقه وحضنه، والكافل هو المربي الحاضن،... وقال السدي وغيره: إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى: ابنا الخالة،...، و {المحراب} المبنى الحسن كالغرف والعلالي ونحوه، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب،... وقوله {أنى} معناه كيف ومن أين؟ وقولها: {هو من عند الله}، دليل على أنه ليس من جلب بشر،... وقولها: {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{فتقبلها ربها بقبول حسن} أي تقبل مريم من أمها ورضي أن تكون محررة للانقطاع لعبادته وخدمة بيته وهو أبلغ من قبلها وزاده مبالغة وتأكيدا وصفه بالحسن كأنه قال فقبلها ربها أبلغ قبول حسن: {وأنبتها نباتا حسنا} أي رباها ونماها في خيره ورزقه وعنايته وتوفيقه تربية حسنة شاملة للروح والجسد كما تربى الشجرة في الأرض الصالحة حتى تنمو وتثمر الثمرة الصالحة لا يفسد طبيعتها شيء ولعله عبر عن التربية بالإنبات لبيان أن التربية فطرية لا شائبة فيها. ومن مباحث اللفظ أن القبول مصدر "قبل "لا "تقبل" والنبات مصدر لنبت لا لأنبت، ولكن العرب تخرج المصدر أحيانا على غير صفة الفعل والشواهد على هذا كثيرة.

{وكفلها زكريا} شدد الكوفيون من القراء الفاء وخففها الباقون. والمعنى على الأولى: وجعل زكريا كافلا لها وعلى الثانية ظاهر. {كلما دخل عليها زكريا المحراب} وهو مقدم المصلى ويطلق على مقدم المجلس، كما قال ابن جرير وقيل لا يسمى محرابا إلا إذا كان يصعد إليه بالسلاليم. وأقول: المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة ويكون من فيه محجوبا عمن في المعبد. {وجد عندها رزقا} قالوا كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. والله لم يقل ذلك ولا قاله رسوله صلى الله عليه وسلم ولا هو مما يعرف بالرأي ولم يثبته تاريخ يعتد به والروايات عن مفسري السلف متعارضة. وفي أسانيدها ما فيها. ومما قال ابن جرير في ذلك: إن بني إسرائيل أصابتهم أزمة حتى ضعف زكريا عن حملها وإنهم اقترعوا على حملها فخرج السهم على نجار منهم، فكان يأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فينميه الله ويكثره فيدخل عليها زكريا فيجد عندها فضلا من الرزق فإذا وجد ذلك: {قال يا مريم أنى لك هذا} أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط: {قالت هو من عند الله} رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض: {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} ولا توقع من المرزوق، أو رزقا واسعا (راجع آية 27) وأنت ترى أنه لا دليل في الآية على أن الرزق كان من خوارق العادات وإسناد المؤمنين الأمر إلى الله في هذا المقام معهود في القديم والحديث.

قال الأستاذ الإمام ما مثاله مبسوطا: إن القرآن نزل سائغا يسهل على كل أحد فهمه من غير حاجة إلى عناء ولا ذهاب في الدفاع عن شيء خلاف الظاهر، فعلينا أن لا نخرج عن سنته ولا نضيف إليه حكايات إسرائيلية أو غير إسرائيلية لجعل هذه القصة من خوارق العادات والبحث عن ذلك الرزق ما هو، ومن أين جاء؟ فضول لا يحتاج إليه لفهم المعنى ولا لمزيد العبرة. ولو علم الله أن في بيانه خيرا لنا لبينه.

أما ما سيقت القصة لأجله وهو الذي يجب أن نبحث فيه، ونستخرج العبر من قوادمه وخوافيه، فهو تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل وشبهة المشركين الذين كانوا ينكرون نبوته لأنه بشر. وبيان ذلك: أن المقصد الأول من مقاصد الوحي هو تقرير عقيدة الألوهية وأهم مسائلها مسألة الوحدانية، وتقرير عقيدة البعث والجزاء وعقيدة الوحي والأنبياء. وقد افتتحت السورة بذكر التوحيد وإنزال الكتاب ثم كانت الآيات من أولها إلى هذه القصة أو قبيل هذه القصة في الألوهية والجزاء بعد البعث بالتفصيل وإزالة الشبهات والأوهام في ذلك، ثم بين أن الإيمان بالله وادعاء حبه ورجاء النجاة في الآخرة والفوز بالسعادة فيها إنما تكون باتباع رسوله، وقفى على ذلك بهذه القصة التي تزيل شبه المشركين وأهل الكتاب في رسالته وتردها على وجوههم.

رد عليهم بما يعرفونه من أن آدم أبو البشر وأن الله اصطفاه بجعله أفضل من كل أنواع الحيوان وتمكينه هو وذريته من تسخيرها وهذا متفق عليه بين المشركين وأهل الكتاب، ومن اصطفاء نوح وجعله أبا البشر الثاني وجعل ذريته هم الباقين، ومن اصطفاء إبراهيم وآله على البشر. فإن العرب وأهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك فالأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم كما يفخر الآخرون باصطفاء آل عمران من بني إسرائيل حفيد إبراهيم. فالله سبحانه وتعالى يرشد هؤلاء وأولئك وجميع البشر إلى أنه هو الذي اصطفى هؤلاء بغير مزية سبقت منهم تقتضي ذلك وتوجبه عليه. فإذا كان الأمر له في اصطفاء من يشاء من عباده وبذلك اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم. فما المانع له من اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى أولئك؟ لا مانع يمنع ذلك عند من يعقل.

فإن قيل إنه لم يعهد أن بعث نبيا من غير بني إسرائيل بعد وجودهم. قلنا ولم اصطفى بني إسرائيل عند وجودهم؟ أليس ذلك بمحض مشيئته؟ بلى. وبمحض مشيئته اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم. فهذه المثل مسوقة لبيان أنه تعالى يصطفي من خلقه من يشاء. أما الدليل على كونه شاء اصطفاءه فاصطفاه بالفعل فهو أنه اصطفاه بالفعل إذ جعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل والفساد، إلى نور الحق الجامع للتوحيد والعلم والصلاح، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية بأظهر من أثره، بل أثره أظهر، ونوره أسطع، صلى الله عليه وعلى كل عبد مصطفى وهذا بيان لوجه اتصال القصة بما قبلها من أول السورة.

ومن هذه المثل قصة مريم فإن أمها إذا كانت قد ولدتها وهي عاقر على خلاف المعهود كما نقل، أو يقال إذا كان قبول الأنثى محررة لخدمة بيت الله على خلاف المعهود عندهم وقد تقبله الله، فلماذا لا يجوز ان يرسل الله محمدا من غير بني إسرائيل على خلاف المعهود عندهم؟ ومثل هذا يقال في قصة زكريا عليه السلام الآتية، ومن ذلك كله يعلم أن أعماله لا تأتي دائما على ما يعهد الناس ويألفون.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وكفلها} إياه، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء، وانقطعت لعبادة ربها، ولزمت محرابها أي: مصلاها... {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} أي: من غير حسبان من العبد ولا كسب، قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك،...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتا حسنا).. جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم، وهذا التجرد الكامل في النذر.. وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح، وكلمة الله، وأن تلد عيسى -عليه السلام- على غير مثال من ولادة البشر...

(وكفلها زكريا).. أي جعل كفالتها له، وجعله أمينا عليها.. وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي. من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل. ونشأت مباركة مجدودة. يهيىء لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته... (فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتا حسنا).. جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم، وهذا التجرد الكامل في النذر.. وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح، وكلمة الله، وأن تلد عيسى -عليه السلام- على غير مثال من ولادة البشر...

(وكفلها زكريا).. أي جعل كفالتها له، وجعله أمينا عليها.. وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي. من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل. ونشأت مباركة مجدودة. يهيئ لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته...