والمراد بالغيب في قوله - سبحانه - : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض . . . } ، ما لا تدركه الحواس ، ولا تحيط بكنهه العقول ؛ لأنه غائب عن مدارك الخلائق .
والكلام على حذف مضاف ، والتقدير : لله - تعالى - وحده ، علم جميع الأمور الغائبة عن مدارك المخلوقين ، والتي لا سبيل لهم إلى معرفتها لا عن طريق الحس ، ولا عن طريق العقل . ومن كانت هذه صفته ، كان مستحقا للعبادة والطاعة ، لا تلك المعبودات الباطلة التي لا تعلم من أمرها أو من أمر غيرها شيئا .
وقوله - سبحانه - : { وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } ، بيان لسرعة نفاذ أمره بدون مهلة .
والساعة في الأصل : اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين . والمراد بها هنا : يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال .
وسمي يوم القيامة بالساعة : لوقوعه بغتة ، أو لسرعة ما يقع فيه من حساب أو لأنه على طوله زمنه يسير عند الله - تعالى - .
واللمح : النظر الذي هو في غاية السرعة . يقال لمحه لمحا ولمحانا ، إذا رآه بسرعة فائقة ، ولمح البصر : التحرك السريع لطرف العين من جهة الى جهة ، أو من أعلى إلى أسفل .
و " أو " هنا ، للتخيير بالنسبة لقدرة الله - تعالى - أو للإِضراب .
أي : ولله - سبحانه - وحده علم جميع ما غاب في السموات والأرض من أشياء ، وما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته ، وما يترتب عليه من إماتة وإحياء ، وحساب ، وثواب وعقاب . . . ما أمر ذلك كله إلا كتحرك طرف العين من جهة إلى جهة ، أو هو - أي أمر قيامها - أقرب من ذلك وأسرع ، بحيث يكون في نصف هذا الزمان أو أقل من ذلك ، لأن قدرته لا يعجزها شيء ، قال - تعالى - : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . والمقصود من هذه الجملة الكريمة : بيان سرعة تأثير قدرة الله - عز وجل - متى توجهت إلى شيء من الأشياء .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يؤكد شمول قدرته فقال - تعالى - : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، أي : إن الله - تعالى - لا يعجز قدرته شيء ، سواء أكان هذا الشيء يتعلق بأمر قيام الساعة في أسرع من لمح البصر . . أم بغير ذلك من الأشياء .
( ولله غيب السماوات والأرض . وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب . إن الله على كل شيء قدير ) . وقضية البعث إحدى قضايا العقيدة التي لقيت جدلا شديدا في كل عصر ، ومع كل رسول . وهي غيب من غيب الله الذي يختص بعلمه . ( ولله غيب السماوات والأرض )وإن البشر ليقفون أمام أستار الغيب عاجزين قاصرين ، مهما يبلغ علمهم الأرضي ، ومهما تتفتح لهم كنوز الأرض وقواها المذخورة . وإن أعلم العلماء من بني البشر ليقف مكانه لا يدري ماذا سيكون اللحظة التالية في ذات نفسه . أيرتد نفسه الذي خرج أم يذهب فلا يعود ! وتذهب الآمال بالإنسان كل مذهب ، وقدره كامن خلف ستار الغيب لا يدري متى يفجؤه ، وقد يفجؤه اللحظة . وإنه لمن رحمة الله بالناس أن يجهلوا ما وراء اللحظة الحاضرة ليؤملوا ويعملوا وينتجوا وينشئوا ، ويخلفوا وراءهم ما بدؤوه يتمه الخلف حتى يأتيهم ما خبى ء لهم خلف الستار الرهيب .
والساعة من هذا الغيب المستور . ولو علم الناس موعدها لتوقفت عجلة الحياة ، أو اختلت ، ولما سارت الحياة وفق الخط الذي رسمته لها القدرة ، والناس يعدون السنين والأيام والشهور والساعات واللحظات لليوم الموعود ! ( وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ) . . فهي قريب . ولكن في حساب غير حساب البشر المعلوم . وتدبير أمرها لا يحتاج إلى وقت . طرفة عين . فإذا هي حاضرة مهيأة بكل أسبابها ( إن الله على كل شيء قدير )وبعث هذه الحشود التي يخطئها الحصر والعد من الخلق ، وانتفاضها ، وجمعها ، وحسابها ، وجزاؤها . . كله هين على تلك القدرة التي تقول للشيء : كن . فيكون . إنما يستهول الأمر ويستصعبه من يحسبون بحساب البشر ، وينظرون بعين البشر ، ويقيسون بمقاييس البشر . . ومن هنا يخطئون التصور والتقدير !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلّهِ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَآ أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولله أيها الناس مِلك ما غاب عن أبصاركم في السموات والأرض ، دون آلهتكم التي تدعون من دونه ، ودون كلّ ما سواه ، لا يملك ذلك أحد سواه . { وَما أمْرُ السّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ } ، يقول : وما أمر قيام القيامة والساعة التي تنشر فيها الخلق للوقوف في موقف القيامة ، إلا كنظرة من البصر ؛ لأن ذلك إنما هو أن يقال له : كن فيكون . كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { إلاّ كَلَمْحٍ البَصَرِ أوْ هُوَ أقْرَبُ } : والساعة : كلمح البصر ، أو أقرب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَما أمْرُ السّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ قال : هو أن يقول : كن ، فهو كلمح البصر ، فأمر الساعة كلمح البصر أو أقرب ، يعني يقول : أو هو أقرب من لمح البصر .
وقوله : { إنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، يقول : إن الله على إقامة الساعة في أقرب من لمح البصر قادر ، وعلى ما يشاء من الأشياء كلها ، لا يمتنع عليه شيء أراده .
وقوله : { ولله غيب السماوات والأرض } الآية ، أخبر الله تعالى أن الغيب له يملكه ويعلمه ، وقوله : { وما أمر الساعة } ، آية إخبار بالقدرة ، وحجة على الكفار ، والمعنى على ما قال قتادة وغيره : ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن ، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك ، ف { أو } على هذا ، على بابها في الشك ، وقيل : هي للتخيير{[7386]} ، و «لمح البصر » ، هو وقوعه على المرئي ، وقوى هذا الإخبار بقوله ، { إن الله على كل شيء قدير } . ومن قال : { وما أمر الساعة } له وما إتيانها ووقوعها بكم ، على جهة التخويف من حصولها ، ففيه بعد تجوز كثير ، وبُعْد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين »{[7387]} ، ومن ذكره ما ذكر من أشراط الساعة ومهلتها ، ووجه التأويل : أن القيامة لما كانت آتية ولا بد ، جعلت من القرب { كلمح البصر } ، كما يقال : ما السنة إلا لحظة ، إلا أن قوله : { أو هو أقرب } ، يرد أيضاً هذه المقالة .