سمى الجزاء سيئة ، وإن لم تكن سيئة لتشابههما في الصورة . قال مقاتل : يعني القصاص في الجراحات والدماء . قال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال له أحد : أخزاك الله تقول : أخزاك الله ، وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي . قال سفيان بن عيينة : قلت لسفيان الثوري ما قوله عز وجل : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } قال : أن يشتمك رجل فتشتمه ، أو أن يفعل بك فتفعل به ، فلم أجد عنده شيئاً ، فسألت هشام بن حجيرة عن هذه الآية ، فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه ، وليس هو أن يشتمك فتشتمه . ثم ذكر العفو فقال :{ فمن عفا } عمن ظلمه . { وأصلح } بالعفو بينه وبين ظالمه ، { فأجره على الله } قال الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له على الله أجر فليقم . فلا يقوم إلا من عفا ، ثم قرأ هذه الآية . { إنه لا يحب الظالمين } قال ابن عباس : الذين يبدؤون بالظلم .
وقوله - تعالى - : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . } بيان لوجوب عدم تجاوز الحد عنه دفع الظلم .
أى : أن الله - تعالى - يأمركم أنكم إذا أردتم الانتصار من الباغى فعليكم أن تقابلوا بغيه وظلمه وعدوانه بمثله بدون زيادة منكم على ذلك ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } قال الشوكانى : " ذكر - سبحانه - المغفرة عند الغضب فى معرض المدح فقال : " وإذا ما غضبوا هم يفغرون " كما ذكر الانتصار على الباغى فى معرض المدح - أيضا - لأنه التذلل لمن بغى ، ليس من صفات من جعل الله له العزة ، حيث قال - سبحانه - { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين } فالانتصار عند البغى فضيلة ، كما أن العفو عند الغضب فضيلة .
قال النخعى : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء .
ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله - تعالى - له ، وعدم مجاوزته ، كما بينه - سبحانه - عقب ذلك بقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } فبين - سبحانه - أن العدل فى الانتصار ، هو الاقتصار على المساواة . .
ثم بين - سبحانه - ما هو أسمى من مقابلة السيئة بمثلها فقال : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } .
أى : فمن عفا عمن أساء إليه ، وأصلح فيما بينه وبين غيره فأجره كائن على الله - تعالى - وحده ، وسيعطيه - سبحانه - من الثواب ما لا يعلمه إلا هو - عز وجل - .
إنه - تعالى - لا يحب الظالمين بأى لون من ألوان الظلم .
وفى الحديث القدسى : " يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محركما فلا تظالموا " .
ويؤكد هذه القاعدة بوصفها قاعدة عامة في الحياة :
فهذا هو الأصل في الجزاء . مقابلة السيئة بالسيئة ، كي لا يتبجح الشر ويطغى ، حين لا يجد رادعاً يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن !
ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله وإصلاح النفس من الغيظ ، وإصلاح الجماعة من الأحقاد . وهو استثناء من تلك القاعدة . والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة . فهنا يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء . فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة ولم يجيء ضعفا يخجل ويستحيي ، ويحس بأن خصمه الذي عفا هو الأعلى . والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو . فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا . ولا كذلك عند الضعف والعجز . وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز . فليس له ثمة وجود . وهو شر يطمع المعتدي ويذل المعتدى عليه ، وينشر في الأرض الفساد !
وهذا توكيد للقاعدة الأولى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها )من ناحية . وإيحاء بالوقوف عند رد المساءة أو العفو عنها . وعدم تجاوز الحد في الاعتداء ، من ناحية أخرى .
وقوله : وَجَزاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها وقد بيّنا فيما مضى معنى ذلك ، وأن معناه : وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه ، فهي وإن كانت عقوبة من الله أوجبها عليه ، فهي مَساءة له . والسيئة : إنما هي الفعلة من السوء ، وذلك نظير قول الله عزّ وجلّ وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ فَلا يُجْزَى إلاّ مِثْلَها وقد قيل : إن معنى ذلك : أن يجاب القائل الكلمة القزعة بمثلها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : قال لي أبو بشر : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله : وَجَزاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها قال : يقول أخزاه الله ، فيقول : أخزاه الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها قال : إذا شتمك بشتيمة فاشتمه مثلها من غير أن تعتدي . وكان ابن زيد يقول في ذلك بما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في : وَالّذِينَ إذَا أصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ من المشركين وَجَزاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها ، فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ . . . الاَية ، ليس أمركم أن تعفوا عنهم لأنه أحبهم وَلَمَنِ انْتَصَر بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ، ثم نسخ هذا كله وأمره بالجهاد ، فعلى قول ابن زيد هذا تأويل الكلام : وجزاء سيئة من المشركين إليكم ، سيئة مثلها منكم إليهم ، وإن عفوتم وأصلحتم في العفو ، فأجركم في عفوكم عنهم إلى الله ، إنه لا يحبّ الكافرين وهذا على قوله كقول الله عزّ وجلّ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ، وَاتّقُوا اللّهَ ، وللذي قال من ذلك وجه . غير أن الصواب عندنا : أن تحمل الاَية على الظاهر ما لم ينقله إلى الباطن ما يجب التسليم له ، وأن لا يحكم لحكم في آية بالنسخ إلا بخبر يقطع العذر ، أو حجة يجب التسليم لها ، ولم تثبت حجة في قوله : وَجَزاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها أنه مراد به المشركون دون المسلمين ، ولا بأن هذه الاَية منسوخة ، فنسلم لها بأن ذلك كذلك .
وقوله : فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ على اللّهِ يقول جلّ ثناؤه : فمن عفا عمن أساء إليه إساءته إليه ، فغفرها له ، ولم يعاقبه بها ، وهو على عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله ، فأجر عفوه ذلك على الله ، والله مثيبه عليه ثوابه إنّهُ لا يُحِبّ الظّالِمِينَ يقول : إن الله لا يحبّ أهل الظلم الذين يتعدّون على الناس ، فيسيئون إليهم بغير ما أذن الله لهم فيه .
وقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة } قال الزجاج : سمى العقوبة باسم الذنب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إذا أخذنا السيئة في حق الله تعالى بمعنى المعصية ، وذلك أن المجازاة من الله تعالى ليست سيئة إلا بأن سميت باسم موجبتها ، وأما إن أخذنا السيئة بمعنى المعصية{[10163]} في حق البشر ، أي يسوء هذا هذا ويسوء الآخر ، فلسنا نحتاج إلى أن نقول سمى العقوبة باسم الذنب ، بل الفعل الأول والآخر { سيئة } وقال ابن أبي نجيح والسدي معنى الآية : أن الرجل إذا شتم بشتمة فله أن يردها بعينها دون أن يتعدى .