التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَجَزَـٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (40)

قوله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 40 ) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ( 41 ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 42 ) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } .

شرع الله القصاص لعباده وهو عدل . فمن وقع عليه اعتداء مُتَعَمَّد من غيره ، كان للمعتدى عليه أن يقتص من الجاني بمثل جنايته لا أنْقَص ولا أزْيَد . وقد نَدَب الله لفعل ما هو أفضل وهو العفو والصفح عن مساءات المسيئين . وبذلك فإن الفضل خير وأحب إلى الله من العدل . فالفضل وهو العفو مندوب إليه شرعا ، وبذلك فإن فاعله مأجور . أما الاقتصاص من أجل التشفي والانتقام للنفس من المعتدي فهو في حق المعتدى عليه مباح . والمباح قسم من أقسام الحكم لا يؤجر فاعله ولا يأثم تاركه . وعلى هذا يجدر القول إن العفو عن المسيء خير وأفضل من أخذ الحق منه بالانتقام . وهو قوله سبحانه : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } فيكتب الله الأجر وحسن المثوبة للعافين عن المسيئين إليهم ، شريطة أن يكون عفوهم عن مقدرة ، وهو أنهم قادرون على الانتقام .

وذلك يكشف عن حقيقة ساطعة ظاهرة وهي أن شريعة الإسلام أكمل الشرائع كافة ؛ فهي الشريعة المثلى التي تناسب البشر على اختلاف طبائعهم وتفاوت أهوائهم وفِطَرِهم . لا جرم أن هذه سمة هامة من سمات الصلوح في الإسلام ؛ أي صلوحه للإنسانية في كل زمان ومكان . وقد بينا فيما مضى أن الشرائع والملل السابقة كانت تتأرجح بين الإفراط والتفريط ، أو بين المغالاة والتنطُّع بعيدا عن ظاهرة الوسط الذي تصلح عليه البشرية على الدوام . فتلكم شرائع بني إسرائيل لا تُقرُّ العفو عن الجاني بل توجب القصاص دون غيره ، خلافا لأناجيل النصارى الأربعة فإنها توجب العفو وحده وتأبى لمقلديها أن يقتصوا من الظالمين المعتدين . وكِلا السبيلين مخالف للسداد والاعتدال ؛ فإن التشريع السديد هو الذي يأخذ في الاعتبار طبائع الناس جميعا . وهي طبائع كثيرة ومختلفة ومتفاوتة . فمن الناس من يجنح للاقتصاص والانتقام وإشفاء الغليل عقب الاعتداء عليه . وذلك حق . ومنهم من يجنح للصفح والإحسان مترفعا عن شهوة الانتقام ، فله ذلك وهو عند الله خير وأفضل .

قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أي المعتدين المبتدئين بالسيئة . فإنه ليس المبتدئ بالظلم والعدوان بمحمود .