السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَجَزَـٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (40)

{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة قال مقاتل : يعني القصاص وهي الجراحات والدماء ، وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله يقول : أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي ، قال سفيان بن عيينة : سألت سفيان الثوري عن ذلك فقال : إن شتمك رجل فتشتمه أو يفعل كذا فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً ، فسأل هشام بن حجر عن ذلك فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك وتشتمه وقد تكفلت هذه الجمل بأمهات الفضائل الثلاث ، العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه ، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم وبالنفقة إلى العفة وبالانتصار إلى الشجاعة حتى لا يظن أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل ، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل ، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث فإن من علم المماثلة كان عالماً ، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً ومن قسر نفسه على ذلك كان شجاعاً وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول : للعاجز ، والثاني : للمتغلب المتكبر بدليل البغي ، فإن قيل : هذه الآية مشكلة لوجهين ؛ الأول : أنه لما ذكر قبله { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } ، كيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو { الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } ، الثاني : أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن ، قال تعالى : { وأن تعفوا أقرب للتقوى } ( البقرة : 237 ) وقال تعالى : { وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً } ( الفرقان : 72 ) وقال تعالى : { خذ العفو وأمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين } ( الأعراف : 199 ) .

أجيب : بأن العفو على قسمين ؛ أحدهما : أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته ، والثاني : أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني وقوة غيظه وغضبه ، فآيات العفو محمولة على القسم الأول وهذه الآية محمولة على القسم الثاني ، وحينئذ يزول التناقض روي : «أن زينب أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها فلم تنته ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : سبيها » . وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب في الانتصار بل بين أنه مشروع فقط ، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة بقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى : { فمن عفا } أي : بإسقاط حقه كله أو بالنقص منه لتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة { وأصلح } أي : أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه { فأجره على الله } أي : المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم ، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى الله عليه وسلم : «ما زاد الله بعفو إلا عزاً » { إنه لا يحب الظالمين } أي : لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله فيترتب عليهم عقابه .