قوله تعالى : { و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير } . قرأ ابن كثير وكائن بالمد والهمزة على وزن كاعن ، وبتليين الهمزة أبو جعفر ، وقرأ الآخرون " و كأين " بالهمزة والتشديد على وزن كعين ، ومعناه : وكم ، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهامية ، ولم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة ، ويقف بعض القراء على وكأين بلا نون ، والأكثرون على الوقوف بالنون ، قوله قاتل : قرأ ابن كثير ، و نافع ، وأهل البصرة ، بضم القاف ، وقرأ الآخرون ( قاتل ) فمن قرأ ( قاتل ) فلقوله : فما وهنوا . ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعدما قتلوا ، لقول سعيد بن جبير :ما سمعنا أن نبياً قتل في القتال ، ولأن قاتل أعم . قال أبو عبيد : إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم ، فكان قاتل أعم . ومن قرأ قتل فله ثلاثة أوجه : أحدهما أن يكون القتل راجعاً إلى النبي وحده ، فيكون تمام الكلام عند قوله قتل ، ويكون في الآية إضمار معناه ومعه ربيون كثير ، كما يقال : قتل فلان معه جيش كثير ، أي ومعه . والوجه الثاني : أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين ، ويكون المراد : بعض من معه ، تقول العرب قتلنا بني فلان ، وإنما قتلوا بعضهم ، ويكون قوله ( فما وهنوا ) راجعاً إلى الباقين . والوجه الثالث : أن يكون القتل للربيين لا غير . وقوله ( ربيون كثير ) قال ابن عباس ومجاهد وقتاده : جموع كثيرة ، وقال ابن مسعود : الربيون الألوف وقال الكلبي : الربية الواحدة عشرة آلاف ، وقال الضحاك : الربية الواحدة : ألف ، وقال الحسن : فقهاء علماء وقيل :هم الأتباع ، والربانيون والربيون ولاة الرعية وقيل : منسوب إلى الرب ، وهم الذين يعبدون الرب .
قوله تعالى : { فما وهنوا } . أي فما جبنوا .
قوله تعالى : { لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا } . عن الجهاد بما نالهم من ألم الجراح ، وقتل الأصحاب . قوله تعالى : { وما استكانوا } . قال مقاتل : وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم ، وقال السدي : وما ذلوا ، وقال عطاء : وما تضرعوا ، وقال أبو العالية : وما جبنوا ولكن صبروا على أمر ربهم ، وطاعة نبيهم ، وجهاد عدوهم .
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه أتباع الأنبياء السابقين من إيمان عميق ، وعزم وثيق ، حتى يتأسى بهم كل ذى عقل سليم ، فقال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا } .
وكلمة { وَكَأَيِّن } مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على الكثير .
ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها وهى مبتدأ : وجملة { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } خبرها .
والربيون جمع ربى ، وهو العالم بربه ، الصادق فى إيمانه به ، الملخص له فى عبادته نسبة إلى الرب كالربانى .
قال القرطبى ما ملخصه : والربيون - بكسر الراء - قراءة الجمهور . وقرأها بعضهم بضم الراء وقرأها بعضهم بفتحها والربيون : الجماعة الكثيرة نسبة إلى الربة - بكسر الراء وضمها - وهى الجماعة . . ومنه يقال للخرقة التى تجمع فيها القداح : ربة . وربة والرباب : قبائل تجمعت .
وقال ابن عباس : ربيون - بفتح الراء - منسوب إلى الرب .
وقال الخليل : الربى - بكسر الراء - الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء ، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله - تعالى - . وقوله { فَمَا وَهَنُواْ } من الوهن وهو اضطراب نفسى ، وانزعاج قلبي ، يبتدىء من داخل الإنسان ، فإذا وصل إلى الخارج كان ضعفاً وتخاذلا .
والمعنى : وكثير من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأصيبوا وهم يقاتلون بما أصيبوا من جراح وآلام ، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } أى فما عجزوا أو جبنوا بسبب ما أصابهم من جراح ، أو ما أصاب أنبياءهم وإخوانهم من قتل واستشهاد . لأن الذى أصابهم إنما هو فى سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسله .
وقوله { وَمَا ضَعُفُواْ } أى : عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عن الذى آمنوا به وقوله { وَمَا استكانوا } أى ما خضعوا وذلوا لأعدائهم .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد نفى عن هؤلاء المؤمنين الصادقين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان .
نفى عنهم - أولا - الوهن وهو اضطراب نفسى ، وهلع قلبى ، يستولى على الإنسان فيفقده ثباته وعزيمته .
ونفى عنهم - ثانيا - الضعف الذى هو ضد القوة ، وهو ينتج عن الوهن .
ونفى عنهم - ثالثاً - الاستكانة وهى الرضا بالذل والخضوع للاعداء ليفعلوا بهم ما يريدون .
وقد نفى - سبحانه - هذه الأوصاف الثلاثة عن هؤلاء المؤمنين الصادقين مع أن واحداً منها يكفى نفيه لنفيها لأنها متلازمة - وذلك لبيان قبح ما يقعون فيه من أضرار فيما لو تمكن واحد من هذه الأوصاف من نفوسهم .
وجاء ترتيب هذه الأوصاف فى نهاية الدقة بحسب حصولها فى الخارج ، فإن الوهن الذى هو خور فى العزيمة إذا تمكن من النفس أنتج الضعف الذى هو لون من الاستسلام والفشل .
ثم تكون بعدهما الاستكانة التى يكون معها الخضوع لكل مطالب الأعداء وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة فى حياته كان الموت أكرم له من هذه الحياة .
وقوله { والله يُحِبُّ الصابرين } تذييل قصد به حض المؤمنين على تحمل المكاره وعلى مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره من أجل إعلاء دينهم حتى يفوزوا برضا الله ورعايته كما فاز أولئك الأنقياء الأوفياء .
أى والله - تعالى - يحب الصابرين على آلام القتال ، ومصاعب الجهاد ، ومشاق الطاعات ، وتبعات التكاليف التى كلف الله - تعالى - بها عباده .
ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم . من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق ، الضارب في جذور الزمان . . من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم ، وقاتلوا مع أنبيائهم ، فلم يجزعوا عند الابتلاء ؛ وتأدبوا - وهم مقدمون على الموت - بالأدب الإيماني في هذا المقام . . مقام الجهاد . . فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم ؛ وأن يجسموا أخطاءهم فيروها " إسرافا " في أمرهم . وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار . . وبذلك نالوا ثواب الدارين ، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء ، وإحسانهم في موقف الجهاد . وكانوا مثلا يضربه الله للمسلمين :
( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا . والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، وإسرافنا في أمرنا ؛ وثبت أقدامنا ؛ وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين ) . .
لقد كانت الهزيمة في " أحد " ، هي أول هزيمة تصدم المسلمين ، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل ؛ فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية . فلما أن صدمتهم أحد ، فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه !
ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم . واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة ، وبالاستنكار تارة ، وبالتقرير تارة ، وبالمثل تارة ، تربية لنفوسهم ، وتصحيحا لتصورهم ، وإعدادا لهم . فالطريق أمامهم طويل ، والتجارب أمامهم شاقة ، والتكاليف عليهم باهظة ، والأمر الذي يندبون له عظيم .
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام ، لا يحدد فيه نبيا ، ولا يحدد فيه قوما . إنما يربطهم بموكب الإيمان ؛ ويعلمهم أدب المؤمنين ؛ ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين ؛ ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء ؛ ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين ؛ ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد . وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير :
( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ) . .
. . وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة . فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح . وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح ، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء . . فهذا هو شأن المؤمنين ، المنافحين عن عقيدة ودين . .
الذين لا تضعف نفوسهم ، ولا تتضعضع قواهم ، ولا تلين عزائمهم ، ولا يستكينون أو يستسلمون . . والتعبير بالحب من الله للصابرين . له وقعه . وله إيحاؤه . فهو الحب الذي يأسو الجراح ، ويمسح على القرح ، ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير !
{ وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : { وكَأَيّنْ } بهمز الألف وتشديد الياء وقرأه آخرون : بمدّ الألف وتخفيف الياء . وهما قراءتان مشهورتان في قراءة المسلمين ، ولغتان معروفتان لا اختلاف في معناهما ، فبأيّ القراءتين قرأ ذلك قارىء فمصيب ، لاتفاق معنى ذلك وشهرتهما في كلام العرب . ومعناه : وكم من نبيّ .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ } .
اختلفت القراء في قراءة قوله : { قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ }¹ فقرأ ذلك جماعة من قراء الحجاز والبصرة : «قُتِل » بضم القاف ، وقرأه جماعة أخرى بفتح القاف وبالألف ، وهي قراءة جماعة من قراء الحجاز والكوفة . فأما من قرأ { قَاتَلَ } فإنه اختار ذلك لأنه قال : لو قتلوا لم يكن لقوله : { فمَا وهَنُوا } وجه معروف ، لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا . وأما الذين قرءوا ذلك : «قتل » ، فإنهم قالوا : إنما عنى بالقتل النبيّ وبعض من معه من الربيين دون جميعهم ، وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل .
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ بضمّ القاف : «قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ » لأن الله عزّ وجلّ إنما عاتبَ بهذه الاَية ، والاَيات التي قبلها من قوله : { أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّة ولمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِين جاهَدُوا مِنْكُمْ } الذين انهزموا يوم أُحد ، وتركوا القتال ، أو سمعوا الصائح يصيح : إن محمدا قد قتل ، فعذلهم الله عزّ وجلّ على فرارهم وتركهم القتال ، فقال : أفَئِنْ مات محمد أو قتل أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم ، وانقلبتم على أعقابكم ؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الأنبياء قبلهم وقال لهم : هلا فعلتم كما كان أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم من المضيّ على منهاج نبيهم والقتال على دينه أعداء دين الله على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم ، ولم تهنوا ولم تضعفوا كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الأنبياء إذا قتل نبيهم ، ولكنهم صبروا لأعدائهم حتى حكم الله بينهم وبينهم ! وبذلك من التأويل جاء تأويل المتأوّل .
وأما «الرّبّيّون » ، فإنهم مرفوعون بقوله : «معه » ، لا بقوله : «قتل » .
وإنما تأويل الكلام : وكائن من نبيّ قتل ومعه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله . وفي الكلام إضمار واو ، لأنها واو تدلّ على معنى حال قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام عليها من ذكرها ، وذلك كقول القائل في الكلام : قتل الأمير معه جيش عظيم ، بمعنى : قتل ومعه جيش عظيم .
وأما الرّبّيّون ، فإن أهل العربية اختلفوا في معناه ، فقال بعض نحويي البصرة : هم الذين يعبدون الربّ واحدهم رِبّيّ . وقال بعض نحويي الكوفة : لو كانوا منسوبين إلى عبادة الربّ لكانوا «رَبّيون » بفتح الراء ، ولكنه العلماء والألوف ، والرّبّيّونَ عندنا : الجماعة الكثيرة ، واحدهم رِبّي ، وهم جماعة .
واختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم مثل ما قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله : الربيون : الألوف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن الثوري ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو بن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : { رِبّيُون كَثِيرٌ } قال : جموع كثيرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { قاتَلَ مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ } قال : جموع .
حدثني حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله : «وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ » قال : الألوف .
حدثني به سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : «وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ » قال : علماء كثير .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن في قوله : «وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ » قال : فقهاء علماء .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية . عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : «وكأيّنْ مِنْ نَبيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ » قال : الجموع الكثيرة . قال يعقوب : وكذلك قرأها إسماعيل : «قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : «وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ » يقول : جموع كثيرة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : «قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ » قال : علماء كثيرة . وقال قتادة : جموع كثيرة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة في قوله : { رِبّيُون كَثِيرٌ } قال : جموع كثيرة .
« حدثني عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : «قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ » قال : جموع كثيرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : «قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ » يقول : جموع كثيرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : «وكأيّنْ مِنْ نَبَيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ » يقول : جموع كثيرة قتل نبيهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جعفر بن حبان ، والمبارك عن الحسن في قوله : «وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قاتَل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ » قال جعفر : علماء صبروا . وقال ابن المبارك : أتقياء صبروا .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : «قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ » يعني الجموع الكثيرة قتل نبيهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { قاتَلَ مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ } يقول : جموع كثيرة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : «وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ » قال : وكأين من بنيّ أصابه القتل ، ومعه جماعات .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : «وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ » الربيون : الجموع الكثيرة .
وقال آخرون : الربيون : الإتباع . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : «وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ » قال : الربيون : الأتباع ، والربانيون : الولاة ، والربّيون : الرعية . وبهذا عاتبهم الله حين انهزموا عنه ، حين صاح الشيطان إن محمدا قد قتل ، قال : كانت الهزيمة عند صياحه في سنينة صاح : أيها الناس إن محمدا رسول الله قد قتل ، فارجعوا إلى عشائركم يؤمنوكم .
القول في تأويل قوله : { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَما اسْتَكانُوا وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ } .
يعني بقوله تعالى ذكره : { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللّهِ } : فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله ، ولا لقتل من قتل منهم عن حرب أعداء الله ، ولا نكلوا عن جهادهم . { وَما ضَعُفُوا } يقول : وما ضعفت قواهم لقتل نبيهم . { وَما اسْتَكانُوا } يعني : وما ذلوا فيتخشعوا لعدوّهم بالدخول في دينهم ، ومداهنتهم فيه ، خيفة منهم ، ولكن مضوا قدما على بصائرهم ومنهاج نبيهم ، صبرا على أمر الله وأمر نبيهم وطاعة الله ، واتباعا لتنزيله ووحيه . { وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ } يقول : والله يحبّ هؤلاء وأمثالهم من الصابرين لأمره وطاعته ، وطاعة رسوله ، في جهاد عدوّه ، لا من فشل ففرّ عن عدوّه ، ولا من انقلب على عقبيه فذلّ لعدوّه لأن قتل نبيه أو مات ، ولا من دخله وهن عن عدوّه وضعف لفقد نبيه .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَما اسْتَكانُوا } يقول : ما عجزوا ، وما تضعضعوا لقتل نبيهم ، { وما اسْتَكَانُوا } يقول : ما ارتدّوا عن نصرتهم ولا عن دينهم ، بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّ الله حتى لحقوا بالله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا } يقول : ما عجزوا ، وما ضعفوا لقتل نبيهم ، { وَما اسْتَكانُوا } يقول : وما ارتدّوا عن نصرتهم ، قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بالله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَمَا وَهَنُوا } : فما وهن الربيون لما أصابهم في سبيل الله ، من قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم¹ { وَما ضَعُفُوا } يقول : ما ضعفوا في سبيل الله لقتل النبيّ¹ { وَما اسْتَكانُوا } يقول : ما ذلوا حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا » ، { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فَمَا وَهَنُوا } لفقد نبيهم ، { وَما ضَعُفُوا } عن عدوهم ، { وَما اسْتَكانُوا } لما أصابهم في الجهاد عن الله ، وعن دينهم ، وذلك الصبر { وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرين } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَما اسْتَكانُوا } قال : تخشعوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَما اسْتَكانُوا } قال : ما استكانوا لعدوّهم¹ { وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ } .
{ وكأين } أصله أي دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى كم والنون تنوين أثبت في الخط على غير قياس . وقرأ ابن كثير " وكائن " ككاعن ووجهه أنه قلب قلب الكلمة الواحدة كقولهم وعملي في لعمري ، فصار كأين ثم حذفت الياء الثانية للتخفيف ثم أبدلت الياء الأخرى ألفا كما أبدلت من طائي { من نبي } بيان له . { قاتل معه ربيون كثير } ربانيون علماء أتقياء ، أو عابدون لربهم . وقيل جماعات والربى منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب { قتل } ، وإسناده إلى { ربيون } أو ضمير النبي و{ معه ربيون } حال منه ويؤيد الأول أنه قرئ بالتشديد وقرئ { ربيون } بالفتح على الأصل وبالضم وهو من تغييرات النسب كالكسر . { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله } فما فتروا ولم ينكسر جدهم لما أصابهم من قتل النبي أو بعضهم . { وما ضعفوا } عن العدو أو في الدين . { وما استكانوا } وما خضعوا للعدو وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده ، والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون لأنه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له ، وهذا تعريف بما أصابهم عند الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام { والله يحب الصابرين } فينصرهم ويعظم قدرهم .
ثم ضرب تعالى المثل للمؤمنين بمن سلف من صالحي الأمم الذين لم يثنهم عن دينهم قتل الكفار لأنبيائهم فقال : { وكأين من نبي } الآية ، وفي { كأين } أربع لغات{[3586]} : «كأين » على وزن كعين يفتح العين ، و «كاين » ، على وزن كاعن و «كأين » على وزن كعين بسكون العين وكان على وزن كعن بكسر العين ، وأكثر ما استعملت العرب في أشعارها التي على وزن كاعن ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
وَكَائِنْ رَدَدْنا عَنْكُمُ مِنْ مُدْجَّجٍ . . . يجيءُ أمامَ القومِ يَرْدِي مُقَنَّعَا{[3587]}
وَكَائِنْ بِالأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ . . . يَرَاني لَوْ أُصِبْتُ هُوَ المُصَابَا{[3588]}
وقال آخر : [ زهير ] : [ الطويل ] :
وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِب . . . زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ في التَّكَلُّمِ{[3589]}
وقد جاء في اللغة التي ذكرتها أولاً قول الشاعر : [ الوافر ]
كَأَيِّنْ في المَعَاشِرِ مِنْ أُنَاسٍ . . . أَخْوهُمْ فَوْقَهُمْ وَهُمُ كِرَامُ{[3590]}
وهذه اللغة هي أصل هذه اللفظة ، لأنها كاف التشبيه دخلت على «أي » كما دخلت على «ذا » في قولك لفلان كذا وكذا ، وكما دخلت على «أن » في قولك كأن زيداً أسد ، لكن بقي لها معنى التشبيه في كأن وزال عنها ذلك في كذا وكذا ، وفي { كأين } ، وصرفت العرب { كأين } في معنى «كم » التي هي للتكثير ، وكثر استعمالهم للفظة حتى لعب فيها لسان العرب على اللغات الأربع التي ذكرت ، وهذا كما لعب في قولهم : لعمري حتى قالوا : وعملي ، وكما قالوا : أطيب وأيطب ، وكما قالوا : طبيخ في بطيخ ، فعوملت الكاف «وأي » معاملة ما هو شيء واحد ، فأما اعتلال لغة من قال : «كأين » على وزن فاعل ، فإنهم أخذوا الأصل الذي هو «كاين » فقلبوا الياء قبل الهمزة ونقلت حركة كل واحد منهما إلى أختها ، فجاء «كيا » على وزن كيع ، فحذفوا الياء الثانية المفتوحة تخفيفاً ، كما حذفوا الياء من ميت وهين ولين فقالوا : ميت وهين ولين ، وكما حذفوا الياء الثانية من «أي » تخفيفاً ومنه قول الفرزدق بن غالب التميمي :
تنظرت نصراً والسماكين أيهما . . . عليَّ من الغيث استهلت مواطره ؟
فجاء «كيا » على وزن كيع ، فأبدلت هذه الياء الساكنة ألفاً مراعاة للفتحة التي قبلها ، كما قالوا : في يوجل يأجل ، وكما أبدلوا الياء ألفاً في «طاى » وكما أبدلت في آية عند سيبويه ، إذا أصلها عنده أية على وزن فعلة بسكون العين ، فجاء «كاء » ثم كتب هذا التنوين نوناً في المصحف ، فأما قياس اللغة فحذفه في الوقف ، فكما يقولون : مررت بزيد فكذلك يقولون كأي ، ووقف عليه أبو عمرو بياء دون نون ، وكذلك روى سورة بن المبارك{[3591]} عن الكسائي ، ووقف سائر القراء بإثبات النون مراعاة لخط المصحف ، قال أبو علي : ولو قيل إنه لما تصرف في الكلمة بالقلب صارت بمنزلة النون التي من نفس الكلمة وصارت بمنزلة لام فاعل فأقرت في الوقف ، لكان قولاً ، ويقوي ذلك أنهم لما حذفوا الكلام من قولهم أما لا ، جعلوها بالحذف ككلمة واحدة ، فأجازوا الإمالة في ألف «لا » كما تجوز في التي من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال ، فيوقف على «كأين » بالنون ولا يتوقف على النون إذا لم تقلب ، كما لا تميل الألف من «لا » إذا لم يحذف فعلها .
قال الفقيه أبو محمد : وبهذه اللغة التي فيها هذا القلب قرأ ابن كثير وحده ، وقرأ سائر السبعة باللغة التي هي الأصل «كأين » ، وذهب يونس بن حبيب في «كأين » إلى أنه فاعل من الكون ، وقوله مردود ، إذ يلزم عنه إعراب الكلمة ولم يعربها أحد من العرب ، وأما اللغة التي هي «كأين » على وزن كعين فهي قراءة ابن محيصن والأشهب العقيلي ، وتعليل هذه اللغة أنه علل الأصل الذي هو «كأين » بالتعليل المتقدم ، فلما جاء «كيا » على وزن كيعن ، ترك هؤلاء إبدال الياء الساكنة ألفاً كما تقدم في التعليل الأول ، وقلبوا الكلمة فجعلوها «كأين » على وزن كعين ، وحسن هذا من وجهين : أحدهما أن التلعب والتصرف في هذه الكلمة مهيع ، والثاني أنهم راجعوا الأصل الذي هو تقديم الهمزة على الياء ، وأما اللغة التي هي كان على وزن كع فهي قراءة ابن محيصن أيضاً ، حكاها عنه أبو عمرو الداني ، وقرأها الحسن بن أبي الحسن ، إلا أنه سهل الهمزة ياء فقرأ كي في جميع القرآن ، وتعليل هذه اللغة أنهم حذفوا الألف من «كاء » الممدودة على وزن كاعن بعد ذلك التصرف كله تخفيفاً ، وهذا كما قالوا : أم والله ، يريدون : أما ، وكما قالوا على لسان الضب{[3592]} [ المجتث ] :
لا أشتهي أنْ أردّا . . . إلاّ عراداً عردّا
وصلياناً بردّا . . . وعنكثا ملتبدّا
أرادوا : عارداً وبادراً ، فحذفوا تخفيفاً ، وهذا كثير في كلامهم ، { وكأين } في هذه الآية في موضع رفع بالابتداء ، وهي بمنزلة «كم » وبمعناها تعطي في الأغلب التكثير ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «قُتِل » ، بضم القاف وكسر التاء مخففة ، وقرأ الباقون «قاتل معه » بألف بين القاف والتاء ، وقرأ قتادة «قُتل » بضم القاف وكسر التاء مشددة على التكثير ، وقوله تعالى : { قتل } قال فيه جماعة من المفسرين منهم الطبري : إنه مستند إلى ضمير { نبي } ، والمعنى عندهم أن النبي قتل ، قال ابن عباس في قوله : { وما كان لنبي أن يغل } [ آل عمران : 161 ] النبي يقتل ، فكيف لا يخان ، وإذا كان هذا ف { ربيون } مرتفع بالظرف بلا خلاف ، وقوله : { معه ربيون } على هذا التأويل يجوز أن يكون صفة ل { نبي } ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير الذي أسند إليه { قتل } فإن جعلته صفة أضمرت للمبتدأ الذي هو { كأين } خبراً تقديره في آخر الكلام : مضى أو ذهب أو فقد : { فما وهنوا } وإن جعلت { معه ربيون } حالاً من الضمير فخبر المبتدأ في قوله : { قتل } وإذا جعلته صفة فالضمير في { معه } عائد على { النبي } ، وإذا جعلته حالاً فالضمير في { معه } عائد على الضمير ذي الحال ، وعلى كلا الوجهين من الصفة أو الحال ف «معه ربيون » متعلق في الأصل بمحذوف ، وليس متعلقاً ب { قتل } وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة معه : إن { قتل } إنما هو مستند إلى قوله : { ربيون } وهم المقتولون قال الحسن وسعيد بن جبير : لم يقتل نبي في حرب قط .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا القول يتعلق قوله : { معه } ب { قتل } - وهذه الجملة- { قتل معه ربيون } ، هي الابتداء ويتصور في قراءة من قرأ «قاتل » جميع ما ذكرته من التقديرات في قراءة «قتل » وأما قراءة قتادة «قتل » فقال أبو الفتح{[3593]} : لا يحسن أن يسند الفعل إلا الربيين ، لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد ، فإن قيل : يستند إلى نبي مراعاة لمعنى «كم » فالجواب أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله { من نبي } ودل الضمير المفرد في { معه } على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، فخرج الكلام على معنى «كم » قال أبو الفتح : وهذه القراءة تقوي قول من قال من السبعة : إن «قتل » - بتخفيف التاء أو «قاتل » إنما يستند إلى الربيين ، ورجح الطبري استناد «قتل » إلى «النبي » بدلالة نازلة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن المؤمنين إنما تخاذلوا لما قيل قتل محمد - فضرب بالمثل بنبي قتل .
قال القاضي أبو محمد : وإذا لم يسند الفعل إلى «نبي » فإنما يجيء معنى الآية : تثبيت المؤمنين بعد من قتل منهم فقط ، وترجيح الطبري حسن ، ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله تعالى : { أفإن مات أو قتل } [ آل عمران : 144 ] وحجة من قرا «قاتل » أنها أعم في المدح لأنه يدخلها فيها من قتل ومن بقي{[3594]} .
قال الفقيه أبو محمد : ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة «قتل » إسناده إلى نبي . وأجمع السبعة وجماعة من الناس على كسر الراء من «رِبيون » وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبو رجاء وعمرو بن عبيد وعطاء بن السائب{[3595]} : «رُبيون » بضم الراء ، وروى قتادة عن ابن عباس «رَبيون » بفتح الراء ، قال ابن جني : الفتح في الراء لغة تميم{[3596]} وكلها لغات ، واختلف الناس في معنى { ربيون } فقال ابن مسعود : الربيون الألوف من الناس والجمع الكثير ، وقال ابن عباس : { ربيون } جموع كثيرة ، وقاله الحسن وقتادة وعكرمة ولقول عبد الله بن مسعود وابن عباس : إنهم الألوف ، قال بعض المفسرين : هم عشرة آلاف فصاعداً ، أخذ ذلك من بناء الجمع الكثير في قولهما : هم الألوف وهذا في الربيين أنهم الجماعات الكثيرة هو من الرِبة بكسر الراء وهي الجماعة الكثيرة ، قاله يونس بن حبيب ، وقال : إن قوله تعالى : { قتل معه ربيون } منسوبون إليها ، قال قطرب : جماعة العلماء على قول يونس ، وقال الزجّاج : يقال : إن الربة عشرة آلاف ، وروي عن ابن عباس وعن الحسن بن أبي الحسن وغيرهما أنهم قالوا : { ربيون } معناه علماء ، وقال الحسن : فقهاء علماء قال أيضاً : علماء صبر{[3597]} ، وهذا القول هو على النسبة إلى الرب ، إما لأنهم مطيعون له ، أو من حيث هم علماء بما شرع ، ويقوي هذا القول في قراءة من قرأ «رَبيون » بفتح الراء وأما في ضم الراء وكسرها فيجيء على تغيير النسب ، كما قالوا في النسبة إلى الحرم : حِرمي بكسر الحاء ، وإلى البصرة ، بصري بكسر الباء ، وفي هذا نظر ، وقال ابن زيد : «الربانيون » : الولاة ، والربيون الرعية الأتباع للولاة .
قال الفقيه أبو محمد : كان هذا من حيث هم مربوبون ، وقال النقاش : اشتقاق ربي من ربا الشي يربو إذا كثر ، فسمي بذلك الكثير العلم .
قال الفقيه أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقال مكي : رِبي بكسر الراء منسوب إلى الرب لكن كسرت راؤه إتباعاً للكسرة والياء اللتين بعد الراء ، وروي بضم الراء كذلك لكنهم ضموها كما قيل : دُهري بضم الدال في النسب إلى الدهر ، وقرأ جمهور الناس «فما وهَنوا » بفتح الهاء ، وقرأ الأعمش والحسن وأبو السمال «وهِنوا » بكسر الهاء ، وهما لغتان بمعنى ، يقال : وهن بكسر الهاء يوهن ووهن بفتح الهاء يهن ، وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضاً «وهْنوا » بإسكان الهاء ، وهذا الوهن في قوله آنفاً { ولا تهنوا } [ آل عمران : 139 ] والضمير في قوله : { فما وهنوا } عائد على جميع الربيين في قول من أسند قتل إلى نبي ، ومن أسنده إلى الربيين قال في الضمير إنه يعود على من بقي منهم ، إذا المعنى يفهم نفسه ، وقوله تعالى : { وما ضعفوا } معناه لم يكتسبوا من العجز والإلقاء باليد ما ينبيء عن ضعفهم ، وقوله تعالى : { وما استكانوا } ذهبت طائفة من النحاة إلى أنه من السكون فوزنه افتعلوا استكنوا ، فمطلت فتحة الكاف فحدث من مطلها ألف{[3598]} ، وذهب طائفة إلى أنه مأخوذ من كان يكون فوزنه على هذا الاشتقاق استفعلوا أصله استكونوا ، نقلت حركة الواو إلى الكاف ، وقلبت ألفاً ، كما فعلوا في قولك : استعانوا واستقاموا ، والمعنى : أنهم لم يضعفوا ولا كانوا قريباً من ذلك ، كما تقول : ما فعلت كذا ولا كدت ، فتحذف لأن الكلام يدل على أن المراد ، وما كدت أن أفعل ، ومحبة الله تعالى للصابرين ما يظهر عليهم من نصره وتنعيمه{[3599]} .
عطف على قوله : { ومن ينقلب على عقبيه } [ آل عمران : 144 ] الآية وما بينهما اعتراض ، وهو عطف العبرة على الموعظة فإنّ قوله : { ومن ينقلب عقبيه } موعظة لمن يَهِمّ بالانقلاب ، وقولَه : { وكأين من نبي قاتل } عبرة بما سلف من صبر أتباع الرسل والأنبياء عند إصابة أنبيائهم أو قتلهم ، في حرب أو غيره ، لمماثلة الحالين . فالكلام تعريض بتشبيه حال أصحاب أحُد بحال أصحاب الأنبياء السالفين لأنّ مَحَلّ المثل ليس هو خصوص الانهزام في الحرب بل ذلك هو الممثل . وأمَّا التَّشبيه فهو بصير الأتباع عند حلول المصائب أو موت المتبوع .
« وكأيّن » كلمة بمعنى التكثير ، قيل : هي بسيطة موضوعة للتكثير ، وقيل : هي مركّبة من كاف التَّشبيه وأي الاستفهامية وهو قول الخليل وسيبويه ، وليست ( أيّ ) هذه استفهاماً حقيقيّاً ، ولكنّ المراد منها تذكير المستفهم بالتكثير ، فاستفهامها مجازي ، ونونها في الأصل تنوين ، فلمّا ركّبت وصارت كلمة واحدة جعل تنوينها نوناً وبُنيت . والأظهر أنَّها بسيطة وفيها لغات أرْبع ، أشهرها في النثر كأيِّن بوزن كعَيِّن ( هكذا جرت عادة اللغويين والنحاة إذا وزنوا الكلمات المهموزة أن يعوّضوا عن حرف الهمزة بحرف العين لئلا تلتبس الهمزة بالألف أو الياء الَّتي تكتب في صورة إحداهما ) ، وأشهرها في الشِعْر كائن بوزن اسم فاعل كان ، وليست باسم فاعل خلافاً للمبرّد ، بل هي مخفّف كأيِّن .
ولهم في كيفية تخفيفها توجيهات أصلها قول الخليل لمّا كثر استعمالها تصرّف فيها العرب بالقلب والحذف في بعض الأحوال . قلت : وتفصيله يطول . وأنا أرى أنَّهم لمّا راموا التَّخفيف جعلوا الهمزة ألفاً ، ثمّ التقى ساكنان على غير حدّه ، فحذفوا الياء الساكنة فبقيت الياء المكسورة فشابهت اسم فاعل ( كان ) فجعلوها همزة كالياء الَّتي تقع بعد ألف زائدة ، وأكثر ما وقع في كلام العرب هو كاين لأنَّها أخف في النظم وأسعد بأكثر الموازين في أوائل الأبيات وأواسطها بخلاف كائن ، قال الزجاج : اللغتان الجيّدتان كايِّن وكائن . وحكى الشَّيخ ابن عرفة في تفسيره عن شيخه ابن الحباب قال : أخبرنا شيخنا أحمد بن يوسف السلمي الكناني ، قال : قلت لشيخنا ابن عصفور : لِم أكثرت في شرحك للإيضاح من الشواهد على كائن ؟ فقال : لأنِّي دخلت على السلطان الأمير المستنصر ( يعني محمد المستنصر ابن أبي زكرياء الحفصي والظاهر أنَّه حينئذ ولّي العهد ) فوجدت ابن هشام ( يعني محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي نزيل تونس ودفينها المتوفّى سنة 646 ) فأخبرني أنَّه سأله عمَّا يحفظ من الشواهد على قراءة كايِّن فلم يستحضر غير بيت الإيضاح :
وكائن بالأباطح من صديق *** يراني لو أُصِبت هو المصابا
قال ابن عصفور : فلمَّا سألني أنا قلت : أحفظ فيها خمسين بيتاً فلمَّا أنشدته نحو عشرة قال : حسبك ، وأعطاني خمسين ديناراً ، فخرجت فوجدت ابن هشام جالساً بالباب فأعطيته نصفها .
وقرأ الجمهور { وكأيِّن } بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء تحتية مشدّدة بعد الهمزة ، على وزن كلمة { كصَيِّب } وقرأه ابن كثير { كَائن } بألف بعد الكاف وهمزة مكسورة بعد الألف بوزن كَاهِن .
والتكثير المستفاد من { كأيّن } واقع على تمييزها وهو لفظ ( نبيء ) فيحتمل أن يكون تكثيراً بمعنى مطلق العدد ، فلا يتجاوز جمع القلّة ، ويحتمل أن يكون تكثيراً في معنى جمع الكثرة ، فمنهم من علمناه ومنهم من لم نعلمه ، كما قال تعالى : { ومنهم من لم نقصص عليك } ، ويحضرني أسماء ستة مِمَّن قتل من الأنبياء : أرمياء قتلته بنو إسرائيل ، وحزقيال قتلوه أيضاً لأنَّه وبّخهم على سوء أعمالهم ، وأشعياء قتله منسا بن حزقيال ملك إسرائيل لأنَّه وبّخه ووعظه على سوء فعله فنشره بمنشار ، وزكرياء ، ويحيى ، قتلتهما بنو إسرائيل لإيمانهما بالمسيح ، وقتل أهلُ الرسّ من العرب نبيئهم حنظلة بن صفوان في مدّة عدنان ، والحواريّون اعتقدوا أنّ المسيح قُتل ولم يهنوا في إقامة دينه بعده ، وليس مراداً هنا وإنَّما العبرة بثبات أتباعه على دينه مع مفارقته لهم إذ العبرة في خلوّ الرسول وبقاء أتباعه ، سواء كان بقتل أو غيره . وليس في هؤلاء رسول إلاّ حنظلة بن صفوان ، وليس فيهم أيضاً من قُتِل في جِهادٍ ، قال سعيد بن جبير : ما سمعنا بنبيء قتل في القتال .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو بكر عن عاصم : ( قُتل ) بصيغة المبنى للمجهول ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف ، وأبو جعفر : ( قَاتَلَ ) بصيغة المفاعلة فعلى قراءة ( قُتل ) بالبناء للمجهول فمرفوع الفعل هو ضمير نبيء ، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون مرفوع الفعلين ضميرَ نبيء فيكون قوله : { معه ربيون } جملة حاليَّة من ( نبيء ) ويجوز أن يكون مرفوع الفعلين لفظ ( ربّيّون ) فيكون قوله ( معه ) حالاً من ( ربّيّون ) مقدّماً .
وجاءت هذه الآية على هذا النظم البديع الصالح لحمل الكلام على تثبيت المسلمين في حال الهزيمة وفي حال الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الوجهين في موقع جملة { ومعه ربّيّون } يختلف حُسن الوقف على كلمة ( قتل ) أو على كلمة ( كثير ) .
و ( الرّبيُّون ) جمع ربيّ وهو المتّبع لشريعة الرّب مثل الربّاني ، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء . ويجوز في رَائه الفتح ، على القياس ، والكسر ، على أنَّه من تغييرات النسب وهو الذي قرىء به في المتواتر .
ومحلّ العبرة هو ثبات الربّانيّين على الدّين مع موت أنبيائهم ودعاتهم .
وقوله : { كثير } صفة { ربّيّون } وجيء به على صيغة الإفراد ، مع أنّ الموصوف جمع ، لأنّ لفظ كثير وقليل يعامل موصوفهما معاملة لفظ شيءٍ أو عدد ، قال تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ] وقال : { ود كثير من أهل الكتاب } [ البقرة : 109 ] وقال : { اذكروا إذ أنتم قليل } [ الأنفال : 26 ] وقال : { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً } [ الأنفال : 43 ] .
وقوله : { فما وهنوا } أي الربّيّون إذ من المعلوم أنّ الأنبياء لا يهنون فالقدوة المقصودة هنا ، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء ، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء ، أجدر بالعزم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم
وجمع بين الوهن والضّعف ، وهما متقاربان تقارباً قريباً من الترادف ؛ فالوهن قلَّة القدرة على العمل ، وعلى النُّهوض في الأمر ، وفعله كوعَد وورِث وكرُم . والضّعف بضم الضّاد وفتحها ضدّ القوّة في البدن ، وهما هنا مجازان ، فالأوّل أقرب إلى خور العزيمة ، ودبيب اليأس في النُّفوس والفكر ، والثَّاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة . وأمّا الاستكانة فهي الخضوع والمذلّة للعدوّ . ومن اللطائف ترتيبها في الذّكر على حسب ترتيبها في الحصول : فإنَّه إذا خارت العزيمة فَشِلت الأعضاء ، وجاء الاستسلام ، فتبعته المذلّة والخضوع للعدوّ .
واعلموا أنَّه إذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء ، وكانت النُّبوءة هدياً وتعليماً ، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم ، وأتباع الحقّ ، أن لا يوهنهم ، ولا يضعفهم ، ولا يخضعهم ، مقاومة مقاوم ، ولا أذى حاسد ، أو جاهل ، وفي الحديث الصّحيح ، في « البخاري » : أن خَبَّاباً قال للنَّبيء صلى الله عليه وسلم " لقد لقينا من المشركين شدّة ألاَ تدعُو الله " فقعد وهو محمّر وجهه فقال : " لقد كان مَن قبلكم لَيُمشَط بِمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضَع المنشار على مَفْرِق رأسه فيُشَقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه " الحديث .