{ وأنت حل } أي حلال ، { بهذا البلد } تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم ، أحل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح ، حتى قاتل وقتل وأمر بقتل ابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة وغيرهما ، فأحل دماء قوم وحرم دماء قوم ، فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ثم قال : إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . والمعنى : أن الله تعالى لما أقسم بمكة دل ذلك على عظيم قدرها مع حرمتها ، فوعد نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يحلها له حتى يقاتل فيها ، وأن يفتحها على يده ، فهذا وعد من الله عز وجل بأن يحلها له . قال شرحبيل بن سعد : ومعنى قوله : { وأنت حل بهذا البلد } قال : يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويستحلون إخراجك وقتلك ؟
وجملة : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } معترضة بين القسم وجوابه .
وقوله - تعالى - { حل } اسم مصدر أحل بمعنى أباح ، فيكون المعنى : وأنت - أيها الرسول الكريم - قد استحل كفار مكة إيذاءك ومحاربتك . . مع أنهم يحرمون ذلك النسبة لغيرك ، فى هذا البلد الأمين .
ويصح أن يكون لفظ " حل " هنا بمعنى اللحال الذى هو ضد الحرام يقال : هو حل وحلال ، وحِرْمٌ وحرام . . فيكون المعنى : وأنت أيها الرسول الكريم - قد أحل الله - تعالى - لك أن تفعل بهؤلاء المشركين ما شئت من القتل أو العفو .
وتكون الجملة الكريمة ، بشارة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن الله - تعالى - سينصره على مشركى قريش ، ويمكنه من رقابهم . . وقد أنجز له - سبحانه - ذلك يوم الفتح الأكبر .
قال صاحب الكشاف : أقسم الله - تعالى - بالبلد الحرام وما بعده ، على أن الإِنسان خلق مغمورا فى مكابدة المشاق والشدائد ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } يعنى : زمن المكابدة أن مثلك - يا محمد - على عظم حرمتك ، يُسْتَحلُّ بهذا البلد الحرام ، كما يستحل الصيد فى غير الحرم
وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم فى عداوته . أو سلى صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده ، على أن الإِنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عليه فقال : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } .
يعنى : وأنت حل به فى المستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر .
فإن قلت : أين نظير قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ } فى معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله - تعالى - { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال ، أن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ؟ فما بال الفتح ؟
ويرى بعضهم أن معنى قوله - تعالى - : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } : وأنت مقيم بهذا البلد ، ونازل فيه ، وحالّ به ، وكفى فخراً لمكة أن تنزل فيها - أيها الرسول الكريم - فإن الأمكنة الشريفة تزداد شرفا بنزول رسل الله - تعالى - فيها ، فكيف وأنت خاتمهم وإمامهم ؟
قال بعض العلماء : وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين : أن معنى { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } وأنت ساكن بهذا البلد ، حال فيه . . وهو يقتضى أن تكون هذه الآية موضع الحال من ضمير " أقسم " فيكون القسم بالبلد مقيدا باعتبار بلد محمد صلى الله عليه وسلم وهو تأويل جميل ، لو ساعد عليه ثبوت استعمال " حل " بمعنى حالٍّ ، أى : مقيم فى مكان ، فإن هذا لم يرد فى كتب اللغة . . ولذا لم يذكر هذا المعنى صاحب الكشاف . .
ويبدو لنا أن هذه الأقوال لا تعارض بينها ، بل يؤيد بعضها بعضا ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد آذاه أهل مكة ، بينما حرموا إيذاء غيره ، وأن الله - تعالى - قد مكن رسوله صلى الله عليه وسلم منهم . كما حدث فى غزوة الفتح ، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أقام معهم فى مكة أكثر من خمسين سنة ، وكان يلقب عندهم بالصادق الأمين . .
ويكرم الله نبيه محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته ، بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة ، وتزيده شرفا ، وتزيده عظمة . وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام . والمشركون يستحلون
حرمة البيت ، فيؤذون النبي والمسلمين فيه ، والبيت كريم ، يزيده كرما أن النبي صلى الله عليه وسلم حل فيه مقيم . وحين يقسم الله - سبحانه - بالبلد والمقيم فيه ، فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته ، فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى ملة إبراهيم ، موقفا منكرا قبيحا من جميع الوجوه .
وقوله : وأنْتَ حِلّ بِهَذَا البَلَدِ يعني : بمكة يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وأنت يا محمد حِلّ بهذا البلد ، يعني بمكة يقول : أنت به حلال تصنع فيه مِن قَتْلِ من أردت قتلَه ، وأَسْرِ من أردت أسره ، مُطْلَقٌ ذلك لك يقال منه : هو حِلّ ، وهو حلال ، وهو حِرْم ، وهو حرام ، وهو مُحلّ ، وهو محرم ، وأحللنا ، وأحرمنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني بذلك : نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، أحلّ الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ، ويستحْيِي من شاء فقتل يومئذٍ ابن خَطَل صَبْرا وهو آخذ بأستار الكعبة ، فلم تحلّ لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل فيها حراما حرّمه الله ، فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة ، ألم تسمع أن الله قال في تحريم الحرم : ولِلّهِ عَلى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً يعني بالناس أهل القبلة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وأنتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : ما صنعت فأنت في حِلّ من أمر القتال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أَحَلّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع فيه ساعة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أحلّ له أن يصنع فيه ما شاء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أُحِلّت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : اصنع فيها ما شئت .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا حسين الجُعْفِيّ ، عن زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أنت حِلّ مما صنعت فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أحلّ الله لك يا محمد ما صنعت في هذا البلد من شيء ، يعني مكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : لا تؤاخَذَ بما عملت فيه ، وليس عليك فيه ما على الناس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ يقول : بريء عن الحرج والإثم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ يقول : أنت به حلّ لست بآثم .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدَ قال : لم يكن بها أحد حلاً غير النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كلّ من كان بها حراما ، لم يحلّ لهم أن يقاتلوا فيها ، ولا يستحلوا حرمه ، فأحله الله لرسوله ، فقاتل المشركين فيه .
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الملك ، عن عطاء وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الّبَلَدِ قال : إن الله حرّم مكة ، لم تحلّ لنبيّ إلا نبيكم ساعة من نهار .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وأنْتَ حِلّ بهَذَا الْبَلَدِ يعني محمدا ، يقول : أنت حلّ بالحرم ، فاقتل إن شئت ، أو دع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
لم أحلها لأحد من قبلك ولا من بعدك ، وإنما أحللتها لك ساعة من النهار ، وذلك أن الله عز وجل لم يفتح مكة على أحد غيره ، ولم يحل بها القتل لأحد ، غير ما قتل النبي صلى الله عليه وسلم مقيس بن صبابة الكناني وغيره ، حين فتح مكة ،...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأنت يا محمد "حِلّ بهذا البلد" ، يعني بمكة يقول : أنت به حلال تصنع فيه مِن قَتْلِ من أردت قتلَه ، وأَسْرِ من أردت أسره ، مُطْلَقٌ ذلك لك يقال منه : هو حِلّ ، وهو حلال ، وهو حِرْم ، وهو حرام ، وهو مُحلّ ، وهو محرم ، وأحللنا ، وأحرمنا . ... عن ابن عباس "وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ" يعني بذلك : نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، أحلّ الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ، ويستحْيِي من شاء، فقتل يومئذٍ ابن خَطَل صَبْرا وهو آخذ بأستار الكعبة ، فلم تحلّ لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل فيها حراما حرّمه الله ، فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة... عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أَحَلّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع فيه ساعة ...
عن مجاهد "وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ" قال : لا تؤاخَذَ بما عملت فيه ، وليس عليك فيه ما على الناس ...
عن قتادة "وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ" يقول : بريء عن الحرج والإثم .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم : وأنت نازل بها ، من الحلول ، وقال بعضهم : وأنت حلال بهذا البلد ، والحل والحلال لغتان ؛ فإن كان على هذا فالحل غير منصرف إلى نفسه ، وإنما انصرف إلى ما أحل له ، لأنه لا يجوز أن يكون بنفسه حلالا أو حراما ، فالحل والحرمة إذا أضيفا إلى من له الحلال والحرام فإنما يراد بالحل والحرمة الشيء الذي أحل له والشيء الذي حرم عليه ، لا أن يكون الوصف راجعا إلى المضاف إليه .... وروي عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : ] ( ( إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الجبلين ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، وهي ساعتي هذه ،.....{ وأنت حل بهذا البلدِ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون القسم منصرفا إلى نفسه ، فأقسم به لما عظم من أمره وشأنه ، كأنه قال عز وجل : لا أقسم بهذا البلد وبالذي ، هو حل بهذا البلد . الثاني : أن يكون منصرفا إلى مكة ، ويكون قوله : { وأنت حل بهذا البلد } خرج مخرج التعريف لمكة لكونه فيها ، أي البلد الذي أنت نازل به وحال به أو حلاّل فيه . ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ وأنت حل بهذا البلد }: وأنت حالٌّ أي نازل في هذا البلد ، لأنها نزلت عليه وهو بمكة لم يفرض عليه الإحرام ولم يؤْذن له في القتال ، وكانت حرمة مكة فيها أعظم ، والقسم بها أفخم . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقيل : معناه أنت حل بهذا البلد أي انت فيه مقيم ، وهو محلل . والمعنى بذلك التنبيه على شرف البلد بشرف من حل فيه من الرسول الداعي إلى تعظيم الله وإخلاص عبادته المبشر بالثواب والمنذر بالعقاب ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } يعني : ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم . عن شرحبيل : يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ، ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم ببلده ، على أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ؛ واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه . فقال : وأنت حلّ بهذا البلد ، يعني : وأنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر . وذلك أنّ الله فتح عليه مكة وأحلّها له ، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلّت له، فأحلّ ما شاء وحرّم ما شاء . قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة . ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرّم دار أبي سفيان ، ثم قال : « إنّ الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلاّ ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ، ولا يختلي خلاها ، ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد » فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : « إلاّ الإذخر »
فإن قلت : أين نظير قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ } في معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله عزّ وجل : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ومثله واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ؛ لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة . وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال : أن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة عن وقت نزولها ، فما بال الفتح ؟
( أحدها ) : وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به ، كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها.
( وثانيها ) : الحل بمعنى الحلال ، أي أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات ، ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام الله تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك ، فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك ....
( وثالثها ) : قال قتادة : { وأنت حل } أي لست بآثم ، وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت ، ...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وقيل : هو ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم ، أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه ، معرفة منك بحق هذا البيت ، لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه . أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته ، فأنت مقيم فيه معظم له ، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما عظم البلد بالإقسام به ، زاده عظماً بالحال به إشعاراً بأن شرف المكان بشرف السكان ، وذلك في جملة حالية فقال : { وأنت } يعني وأنت خير كل حاضر وباد... وكرر إظهاره ولم يضمره زيادة في تعظيمه تقبيحاً لما يستحلونه من أذى المؤمنين فيه ، وإشارة إلى أنه يتلذذ بذكره ، فقد وقع القسم بسيد البلاد وسيد العباد ، ولكل جنس سيد ، وهو انتهاؤه في الشرف ، ...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
عناية بالنبي صلوات الله عليه فكأنه إقسام به لأجله مع تعريض بعدم شرف أهل مكة ، وأنهم جهلوا جهلا عظيما لهمهم بإخراج من هو حقيق به وبه يتم شرفه . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويكرم الله نبيه محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته ، بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة ، وتزيده شرفا ، وتزيده عظمة . وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام . والمشركون يستحلون
حرمة البيت ، فيؤذون النبي والمسلمين فيه ، والبيت كريم ، يزيده كرما أن النبي صلى الله عليه وسلم حل فيه مقيم . وحين يقسم الله - سبحانه - بالبلد والمقيم فيه ، فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته ، فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى ملة إبراهيم ، موقفا منكرا قبيحا من جميع الوجوه .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة : { وأنت حل بهذا البلد } معترضة بين المتعاطفات المقسم بها والواو اعتراضية . والمقصود من الاعتراض يختلف باختلاف محمل معنى { وأنت حل } فيجوز أن يكون { حل } اسم مصدرِ أحَلّ ، أي أباح ، فالمعنى وقد جعلَك أهلُ مكة حلالاً بهذا البلد الذي يحرم أذى صيده وعَضْدُ شجره ، وهم مع ذلك يُحلون قتلك وإخراجَك ، قال هذا شُرَحْبيل بن سعد فيكون المقصود من هذا الاعتراض التعجيب من مضمون الجملة وعليه فالإِخبار عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف { حِلّ } يقدر فيه مضاف يعيِّنه ما يصلح للمقام ، أي وأنت حلال منك ما حُرِّم من حقِّ ساكن هذا البلد من الحُرمة والأمن . والمعنى التعريض بالمشركين في عدوانهم وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد لا يظلمون فيه أحداً . والمناسبة ابتداء القسم بمكة الذي هو إشعار بحرمتها المقتضية حرمة من يحل بها ، أي فهم يحرِّمون أن يتعرضوا بأذى للدواب ، ويعتدون على رسول جاءهم برسالة من الله .
ويجوز أن يكون { حِل } اسماً مشتقاً من الحِلّ وهو ضد المنع ، أي الذي لا تَبعة عليه فيما يفعله . قال مجاهد والسدي ، أي ما صنعت فيه من شيء فأنت في حلّ أو أنت في حِل مِمن قَاتلك أن تقاتله . وقريب منه عن ابن عباس ، أي مهما تمكنتَ من ذلك . فيصدق بالحال والاستقبال . وقال في « الكشاف » : « يعني وأنت حل به في المستقبل ونظيره في الاستقبال قوله عز وجل : { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] ، تقول لمن تَعِدُه بالإِكرام والحباء أنت مكرم محبُوّاً اه .
فهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم قُدمت له قبل ذكر إعراض المشركين عن الإِسلام ، ووعد بأنه سيمكنه منهم .
وعلى كلا الوجهين في محمل صفة { حِل } هو خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد خصصه النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الفتح فقال : " وإنما أحلت لي ساعة من نهار " الحديث ، وفي « الموطأ » : « قال مالك : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ( أي يوم الفتح ) مُحْرِماً » .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أي حالٌّ مقيمٌ فيه ، لتطلق منه حركة الرسالة ، وتعاني الكثير من الجهد والمشقة في سبيلها ، وتنطلق به إلى الناس ...