التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ} (2)

وجملة : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } معترضة بين القسم وجوابه .

وقوله - تعالى - { حل } اسم مصدر أحل بمعنى أباح ، فيكون المعنى : وأنت - أيها الرسول الكريم - قد استحل كفار مكة إيذاءك ومحاربتك . . مع أنهم يحرمون ذلك النسبة لغيرك ، فى هذا البلد الأمين .

ويصح أن يكون لفظ " حل " هنا بمعنى اللحال الذى هو ضد الحرام يقال : هو حل وحلال ، وحِرْمٌ وحرام . . فيكون المعنى : وأنت أيها الرسول الكريم - قد أحل الله - تعالى - لك أن تفعل بهؤلاء المشركين ما شئت من القتل أو العفو .

وتكون الجملة الكريمة ، بشارة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن الله - تعالى - سينصره على مشركى قريش ، ويمكنه من رقابهم . . وقد أنجز له - سبحانه - ذلك يوم الفتح الأكبر .

قال صاحب الكشاف : أقسم الله - تعالى - بالبلد الحرام وما بعده ، على أن الإِنسان خلق مغمورا فى مكابدة المشاق والشدائد ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } يعنى : زمن المكابدة أن مثلك - يا محمد - على عظم حرمتك ، يُسْتَحلُّ بهذا البلد الحرام ، كما يستحل الصيد فى غير الحرم

وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم فى عداوته . أو سلى صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده ، على أن الإِنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عليه فقال : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } .

يعنى : وأنت حل به فى المستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر .

فإن قلت : أين نظير قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ } فى معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله - تعالى - { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال ، أن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ؟ فما بال الفتح ؟

ويرى بعضهم أن معنى قوله - تعالى - : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } : وأنت مقيم بهذا البلد ، ونازل فيه ، وحالّ به ، وكفى فخراً لمكة أن تنزل فيها - أيها الرسول الكريم - فإن الأمكنة الشريفة تزداد شرفا بنزول رسل الله - تعالى - فيها ، فكيف وأنت خاتمهم وإمامهم ؟

قال بعض العلماء : وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين : أن معنى { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } وأنت ساكن بهذا البلد ، حال فيه . . وهو يقتضى أن تكون هذه الآية موضع الحال من ضمير " أقسم " فيكون القسم بالبلد مقيدا باعتبار بلد محمد صلى الله عليه وسلم وهو تأويل جميل ، لو ساعد عليه ثبوت استعمال " حل " بمعنى حالٍّ ، أى : مقيم فى مكان ، فإن هذا لم يرد فى كتب اللغة . . ولذا لم يذكر هذا المعنى صاحب الكشاف . .

ويبدو لنا أن هذه الأقوال لا تعارض بينها ، بل يؤيد بعضها بعضا ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد آذاه أهل مكة ، بينما حرموا إيذاء غيره ، وأن الله - تعالى - قد مكن رسوله صلى الله عليه وسلم منهم . كما حدث فى غزوة الفتح ، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أقام معهم فى مكة أكثر من خمسين سنة ، وكان يلقب عندهم بالصادق الأمين . .