اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ} (2)

قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } . فيه وجهان :

أحدهما : أن الجملة اعتراضية على أحد معنيين ، إما على معنى : أنه - تعالى - أقسم بهذا البلد ، وما بعده ، على أن الإنسان في كبد ، واعترض بينهما بهذه الجملة ، يعني : ومن المكابدة ، أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد ، كما يستحل الصيد في غير المحرم .

وإما على معنى : أنه أقسم ببلدة ، على أنَّ الإنسان لا يخلُو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح «مكة » ، تتميماً للتَّسلية ، فقال تعالى : وأنت حلٌّ به فيما يستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل ، والأسر ، ف «حِلٌّ » بمعنى : حلال ، قال معناه الزّمخشري{[60197]} . ثم قال : فإن قلت : أين نظير قوله تعالى : { وَأَنتَ حِلٌّ } في معنى الاستقبال ؟ .

قلت : قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، ومثله واسع في كلام العبادِ ، تقول لمن تَعدُه الإكرام والحباء : أنت مكرم محبوٌّ ، وهو في كلام الله أوسع ؛ لأنَّ الأحوال المستقبلة عنده ، كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأنَّ تفسيره بالحال محال ؛ لأن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة وقت نزولها فما بال الفتح ؟ .

الثاني من الوجهين الأولين : أن الجملة حالية ، أي : لا أقسم بهذا البلد ، وأنت حالٌّ بها ، لعظم قدرك ، أي : لا نقسم بشيء ، وأنت أحق بالإقسام بك منه .

وقيل : المعنى : لا أقسم به ، وأنت مستحلّ فيه ، أي : مستحل إذ ذاك .

فصل في المراد بهذا البلد

أجمع المفسرون على أن ذلك البلد «مكة » ، وفضلها معروف ، فإنه تعالى ، جعله حرماً آمناً قال تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] ، وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وقال تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] ، وأمر النَّاس بحجِّ البيتِ ، فقال : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] وقال تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [ البقرة : 125 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت } [ الحج : 26 ] ، وقال تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } [ الحج : 27 ] ، وشرف مقام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وحرم صيده ، وجعل البيت المعمور بإزائه ، ودحيت الأرض من تحته ، فهذه الفضائل ، وأكثر منها ، لما اجتمعت في «مكة » لا جرم أقسم الله تعالى بها .

فصل في تفسير وأنت حلّ

روى منصورٌ عن مجاهدٍ : «وأنْتَ حِلٌّ » ، قال : ما صنعت فيه من شيء ، فأنت في حل{[60198]} .

وكذا قال ابن عبَّاسٍ : أحل له يوم دخل «مكة » ، أن يقتل من شاء ، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما ، ولم يحل لأحد من الناس ، أن يقتل بها أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم{[60199]} .

وقال السدي : أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله{[60200]} .

وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ ، قال : أحلت له ساعة من نهارٍ ، ثم أطبقت ، وحرمت إلى يوم القيامة ، وذلك يوم فتح «مكة »{[60201]} .

[ قال ابن زيد : ولم يكن بها أحد حلالاً غير النبي صلى الله عليه وسلم{[60202]} وقيل : معناه : وأنت مقيم فيه ، وهو محلك أي : من أهل «مكة » نشأت بينهم ، ويعرفون فضلك وطهارتك لقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] .

وقيل : أنت فيه محسن ، وأنا عنك فيه راضٍ ]{[60203]} .

وذكر أهل اللغة أنه يقال : رجل حلٌّ وحلالٌ ومحل ، ورجل حرم وحرام ومحرم .

وقال قتادة : «وأنت حل به » أي لست بآثم ، قيل : معناه أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليه ارتكابه معرفة منك بحق هذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه .

وقال شرحبيل بن سعد : { وأنْتَ حلٌّ بِهَذَا البَلدِ } أي : حلال ، أي هم يحرمون «مكة » أن يقتلوا بها صيداً ، أو يعضدوا بها شجرة ، ثم هم مع هذا يستحلُّون إخراجك وقتلك ، ففيه تعجُّب في جرأتهم وشدة عداوتهم له .


[60197]:ينظر: الكشاف 4/754.
[60198]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/585) وذكره السيوطي في "الدرالمنثور" (6/592) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[60199]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/585) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/591) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.
[60200]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/41).
[60201]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/592) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[60202]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/586) عن ابن زيد.
[60203]:سقط من: ب.