قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } . فيه وجهان :
أحدهما : أن الجملة اعتراضية على أحد معنيين ، إما على معنى : أنه - تعالى - أقسم بهذا البلد ، وما بعده ، على أن الإنسان في كبد ، واعترض بينهما بهذه الجملة ، يعني : ومن المكابدة ، أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد ، كما يستحل الصيد في غير المحرم .
وإما على معنى : أنه أقسم ببلدة ، على أنَّ الإنسان لا يخلُو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح «مكة » ، تتميماً للتَّسلية ، فقال تعالى : وأنت حلٌّ به فيما يستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل ، والأسر ، ف «حِلٌّ » بمعنى : حلال ، قال معناه الزّمخشري{[60197]} . ثم قال : فإن قلت : أين نظير قوله تعالى : { وَأَنتَ حِلٌّ } في معنى الاستقبال ؟ .
قلت : قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، ومثله واسع في كلام العبادِ ، تقول لمن تَعدُه الإكرام والحباء : أنت مكرم محبوٌّ ، وهو في كلام الله أوسع ؛ لأنَّ الأحوال المستقبلة عنده ، كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأنَّ تفسيره بالحال محال ؛ لأن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة وقت نزولها فما بال الفتح ؟ .
الثاني من الوجهين الأولين : أن الجملة حالية ، أي : لا أقسم بهذا البلد ، وأنت حالٌّ بها ، لعظم قدرك ، أي : لا نقسم بشيء ، وأنت أحق بالإقسام بك منه .
وقيل : المعنى : لا أقسم به ، وأنت مستحلّ فيه ، أي : مستحل إذ ذاك .
أجمع المفسرون على أن ذلك البلد «مكة » ، وفضلها معروف ، فإنه تعالى ، جعله حرماً آمناً قال تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] ، وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وقال تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] ، وأمر النَّاس بحجِّ البيتِ ، فقال : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] وقال تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [ البقرة : 125 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت } [ الحج : 26 ] ، وقال تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } [ الحج : 27 ] ، وشرف مقام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وحرم صيده ، وجعل البيت المعمور بإزائه ، ودحيت الأرض من تحته ، فهذه الفضائل ، وأكثر منها ، لما اجتمعت في «مكة » لا جرم أقسم الله تعالى بها .
روى منصورٌ عن مجاهدٍ : «وأنْتَ حِلٌّ » ، قال : ما صنعت فيه من شيء ، فأنت في حل{[60198]} .
وكذا قال ابن عبَّاسٍ : أحل له يوم دخل «مكة » ، أن يقتل من شاء ، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما ، ولم يحل لأحد من الناس ، أن يقتل بها أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم{[60199]} .
وقال السدي : أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله{[60200]} .
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ ، قال : أحلت له ساعة من نهارٍ ، ثم أطبقت ، وحرمت إلى يوم القيامة ، وذلك يوم فتح «مكة »{[60201]} .
[ قال ابن زيد : ولم يكن بها أحد حلالاً غير النبي صلى الله عليه وسلم{[60202]} وقيل : معناه : وأنت مقيم فيه ، وهو محلك أي : من أهل «مكة » نشأت بينهم ، ويعرفون فضلك وطهارتك لقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] .
وقيل : أنت فيه محسن ، وأنا عنك فيه راضٍ ]{[60203]} .
وذكر أهل اللغة أنه يقال : رجل حلٌّ وحلالٌ ومحل ، ورجل حرم وحرام ومحرم .
وقال قتادة : «وأنت حل به » أي لست بآثم ، قيل : معناه أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليه ارتكابه معرفة منك بحق هذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه .
وقال شرحبيل بن سعد : { وأنْتَ حلٌّ بِهَذَا البَلدِ } أي : حلال ، أي هم يحرمون «مكة » أن يقتلوا بها صيداً ، أو يعضدوا بها شجرة ، ثم هم مع هذا يستحلُّون إخراجك وقتلك ، ففيه تعجُّب في جرأتهم وشدة عداوتهم له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.