البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ} (2)

{ وأنت حل } : جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به ، أي فأنت مقيم به ، وهذا هو الظاهر .

وقال ابن عباس وجماعة : معناه : وأنت حلال بهذا البلد ، يحل لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة .

وقال ابن عطية : وهذا يتركب على قول من قال لا نافية ، أي إن هذا البلد لا يقسم الله به ، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال ، إحلال حرمته .

وقال شرحبيل بن سعد : يعني { وأنت حل بهذا البلد } ، جعلوك حلالاً مستحل الأذى والقتل والإخراج ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وقال : وفيه بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يحلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه ، فقال : وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر .

ثم قال الزمخشري : بعد كلام طويل : فإن قلت : أين نظير قوله : { وأنت حل } في معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله عز وجل : { إنك ميت وإنهم ميتون } واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحبا : وأنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال .

إن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ؟ فما بال الفتح ؟ انتهى .

وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين ، وقد ذكرنا أولاً أنها جملة حالية ، وبينا حسن موقعها ، وهي حال مقارنة ، لا مقدرة ولا محكية ؛ فليست من الإخبار بالمستقبل .

وأما سؤاله والجواب ، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو ، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات ، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال ، بل يكون للماضي تارة ، وللحال أخرى ، وللمستقبل أخرى ؛ وهذا من مبادىء علم النحو .

وأما قوله : وكفاك دليلاً قاطعاً الخ ، فليس بشيء ، لأنا لم نحمل { وأنت حل } على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا ، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة ، وهو وقت النزول كان مقيماً بها ضرورة .

وأيضاً فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح ، وقد حكى الخلاف فيها عن قول ابن عطية ، ولا يدل قوله : { وأنت حل بهذا البلد } على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك ، ولا على أنك تستحل فيه أشياء ، بل الظاهر ما ذكرناه أولاً من أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين ، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى ، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامته فيها ، فصارت أهلاً لأن يقسم بها .