المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

103- لم يأذن الله لكم أن تحرِّموا ما أحلَّه لكم ، فتشقوا أذن الناقة ، وتمتنعوا عن الانتفاع بها ، وتسموها «بَحِيرة » ، وتتركوها بناء على نذر ، وتسموها «سائبة » ، وتُحَرِّموا الذكر من الشاة ، وتهبوه للأصنام ، حتى إذا أنتجت الشاة ذكراً وأنثى سميتموها «وَصِيلة » ، ولم تذبحوا الذكر منها . ولم يشرع لكم أن تحرِّموا الانتفاع بالذكر من الإبل إذا ولد منه عشرة أبطن ، وتطلقوا عليه اسم «حَام » ، لم يشرع الله لكم شيئاً من ذلك ، ولكن الذين كفروا يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله ، وأكثرهم لا يعقلون{[58]} .


[58]:كان عند الجاهلية عادات حرموا بها على أنفسهم ما لم يحرمه الله فمنها: 1 – إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر شقوا أذنها وحرموا ركوبها ولم يطردوها عن ماء ولا مرعى وسموها "بحيرة" أي مشقوقة الأذن. 2 – كان الرجل منهم يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة ثم يجعلها كالبحيرة. 3 – وكانوا إذا ولدت الشاة أنثى جعلوها لهم وإن ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى لم يذبحوا الذكر لآلهتهم وقالوا عن الشاة وصلت أخاها وسموها "وصيلة". 4 – وكانوا إذا نتج من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ويعرف عندهم باسم "حام".
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

قوله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة } أي : ما أنزل الله ، ولا أمر به .

قوله تعالى : { ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، قال ابن عباس في بيان هذه الأوضاع : البحيرة ، هي الناقة التي كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها ، أي : شقوها ، وتركوا الحمل عليها ، ولم يركبوها ، ولم يجزوا وبرها ، ولم يمنعوها الماء والكلأ ، ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه وأكله الرجال والنساء ، وإن كان أنثى بحروا أذنها ، أي : شقوها ، وتركوها ، وحرم على النساء لبنها ، ومنافعها ، وكانت منافعها خاصة للرجال ، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء . وقيل : كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت ، فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ، ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل ، فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما فعل بأمها ، فهي البحيرة بنت السائبة . وقال أبو عبيدة : السائبة : البعير الذي يسيب ، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض وغاب له قريب نذر فقال : إن شفاني الله تعالى أو شفى مريضي ، أو عاد غائبي ، فناقتي هذه سائبة . ثم يسيبها فلا تحبس عن رعي ، ولا ماء ، ولا يركبها أحد ، فكانت بمنزلة البحيرة . وقال علقمة : هو العبد يسيب على أن لا ولاء عليه ، ولا عقل ، ولا ميراث . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما الولاء لمن أعتق ) .

والسائبة فاعلة ، بمعنى المفعولة . وهي المسيبة ، كقوله تعالى : { ماء دافق } أي : مدفوق ، وعيشة راضية ، وأما الوصيلة : فمن الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا ، فإن كان السابع ذكرا ذبحوه ، فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى تركوها في الغنم ، وإن كان ذكراً وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى ، وقالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه . وكان لبن الأنثى حراماً على النساء ، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا .

وأما الحام : فهو الفحل إذا ركب ولده ، ويقال : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمي ظهره ، فلا يركب ، ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من كلأ ، ولا ماء ، فإذا مات أكله الرجال والنساء .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس . والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء . قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيب السوائب ) .

روى محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي صالح السمان . عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكتم بن جون الخزاعي : ( يا أكتم ، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار ، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ، ولا به منك ، وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ، ونصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه ، فقال أكتم : أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال : لا إنك مؤمن وهو كافر .

قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } ، في قولهم : الله أمرنا بها .

قوله تعالى : { وأكثرهم لا يعقلون } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

ثم حكى - سبحانه - بعض الأوهام والخرافات التي كان أهل الجاهلية يتمسكون بها ، ويعتبرونها من العادات الدينية الراسخة في نفوسهم ، مع أنها لا أصل لها ، وإنما هم الذين ابتدعوها ونسبوها إلى دين الله بدون دليل أو برهان فقال - تعالى - :

{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ . . . }

قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها . ولما كان الكفار يحرمون على انفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات - وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها - بين تعالى - أن ذلك باطل فقال : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ }

وجعل هنا بمعنى شرع ووضع ، و { من } زائد لتأكيد النفي والبحيرة بزنة فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق .

وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها ، وتركوها لآلهتهم وامتنعوا عن نحرها وركوبها . وسموها " البحيرة " أي : مشقوقة الأذن .

وعن قتادة أنهم كانوا إذا أنجبت خمسة أبطن نظروا في الخامس فإن ذكر ذبحوه وأكلوه ، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى دون أن يستعملها أحد في حلب أو ركوب .

والسائبة بزنة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض . يقال ساب الماء إذا ترك يجري .

قال أبو عبيدة : كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر أو شفى من مرض . سيب ناقته وخلاها وجعلها كالبحيرة وتسمى السائبة .

وقال محمد بن إسحاق : السائبة هي الناقة تلد عشرة أبطن إناث ، فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ، ولا يشرب لبنها إلا ضيف .

وعن ابن عباس : هي التي تسيب للأصنام ، فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم .

والوصيلة بزنة فعيلة بمعنى فاعله . قال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين - أي اثنين اثنين - وإذا ولدت في آخرها انثى وذكرا . قيل : وصلت أخاها . فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء ، وتجري مجرى السائبة في تركها دون أن يجز وبرها .

وقال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت انثى كانت لهم وإذا ولدت ذكرا وانثى قالوا : وصلت أخاها فلا تذبح ويكون الذكر لآلهتهم .

وقيل : هي الناقة تبكر بأنثى ثم تثنى بأنثى ، فكانوا يتركونها للطواغيت ، ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر .

والحام اسم فاعل من حمى يحمي أي منع .

قال الفراء : هو الفحل إذا لقح ولد ولده قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء أو مرعى .

وقال أبو عبيدة : هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء أو مرعى .

هذه بعض الأقوال التي ذكرها العلماء في تفسير هذه الألفاظ الأربعة ، وهناك أقوال أخرى سواها تختلف عنها .

ويبدو أن الخلاف في حقيقة هذه الأربعة مرجعه إلى اختلاف القبائل في بلاد العرب واختلاف الأماكن التي يقيمون فيها ، والعادات الباطلة التي شبوا عليها وألفوها .

هذا ، وقد ذكر ابن كثير بعض الروايات التي وردت في تفسيره هذه الألفاظ ، كما ذكر أول من أدخل هذه العادات الباطلة في بلاد العرب فقال ما ملخصه : " روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعيد بن المسيب قال . البحيرة : هي التي تكون درها للطواغيت . والسائبة : هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر . والحام : فحل الإِبل يضرب الضرائب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت ولا يحملون عليه شيئا .

وروى الإِمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أول من سيب السوائب وعبد الإِصنام أبو خزاعة عمرو بن لحي وإني رأيته يجر أمعاءه في النار " .

والمعنى : ما شرع الله - تعالى - شيئاً مما حرمه أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهذه الحيوانات إنما حرم أهل الجاهلية أكلها والانتفاع بها من عند أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح القاطع بسبب كفرهم وضلالهم وأكثرهم لا يفقهون الحق ولا يستجيبون له انقيادا لأهوائهم ورؤسائهم .

والمراد بالذين كفروا في قوله { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب } رؤساؤهم وزعماؤهم الذين يأتون لعوامهم الفاسدة والمزاعم الباطلة ، وينسبونها إلى دين الله كذبا وزورا .

والمراد بأكثرهم في قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } عوامهم ودهماؤهم الذين يسيرون خلف كل ناعق بدون تفكير أو تدبر .

وقد عبر - سبحانه - بقوله { وَأَكْثَرُهُمْ } إنصافاً للقلة العاقلة التي خالفت هذه الأوهام الباطلة ، وإستجابت للحق عند ظهوره .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

ويبدو - بالاستناد إلى رواية مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنه - ومن قول سعيد بن جبير كذلك في أسباب نزول الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . . . ) أن من بين ما كانوا يسألون عنه أشياء كانت في الجاهلية . ولم نقف على معين للسؤال ماذا كان . ولكن مجيء الحديث في السياق عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي بعد آية النهي عن السؤال يوحي بأن هناك اتصالا ما . . فنكتفي بهذا لنواجه النص القرآني عن هذه العادات الجاهلية :

( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام . ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ، وأكثرهم لا يعقلون . وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا . أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ؟ )

إن القلب البشري إما أن يستقيم على فطرته التي فطره الله عليها ؛ فيعرف إلهه الواحد ، ويتخذه ربا ، ويعترف له وحده بالعبودية ويستسلم لشرعه وحده ؛ ويرفض ربوبية من عداه فيرفض إذن أن يتلقى شريعة من سواه . . إما أن يستقيم القلب البشري على فطرته هذه فيجد اليسر في الاتصال بربه ، ويجد البساطة في عبادته ، ويجد الوضوح في علاقاته به . . وإما أن يتيه في دروب الجاهلية والوثنية ومنعرجاتها ، تتلقاه في كل درب ظلمة ، ويصادفه في كل ثنية وهم . تطلب إليه طواغيت الجاهلية والوثنية شتى الطقوس لعبادتها ، وشتى التضحيات لإرضائها ؛ ثم تتعدد الطقوس في العبادات والتضحيات ، حتى ينسى الوثني أصولها ، ويؤديها وهو لا يعرف حكمتها ، ويعاني من العبودية لشتى الأرباب ما يقضي على كرامة الإنسان التي منحها الله للإنسان .

ولقد جاء الإسلام بالتوحيد ليوحد السلطة التي تدين العباد ؛ ثم ليحرر الناس بذلك من العبودية بعضهم لبعض ؛ ومن عبوديتهم لشتى الآلهة والأرباب . . وجاء ليحرر الضمير البشري من أوهام الوثنية وأوهاقها ؛ وليرد إلى العقل البشري كرامته ويطلقه من ربقة الآلهة وطقوسها . ومن ثم حارب الوثنية في كل صورها وأشكالها ؛ وتتبعها في دروبها ومنحنياتها . سواء في أعماق الضمير ، أم في شعائر العبادة ، أم في أوضاع الحياة وشرائع الحكم والنظام .

وهذا منعرج من منعرجات الوثنية في الجاهلية العربية ، يعالجه ليقومه ويسلط عليه النور ليبطل ما حوله من أساطير . ويقرر أصول التفكير والنظر ؛ وأصول الشرع والنظام في آن :

( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام . ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ، وأكثرهم لا يعقلون ) . .

هذه الصنوف من الأنعام التي كانوا يطلقونها لآلهتهم بشروط خاصة ، منتزعة من الأوهام المتراكمة في ظلمات العقل والضمير . البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ! ! !

هذه الصنوف من الأنعام ما هي ؟ ومن الذي شرع لهم هذه الأحكام فيها ؟

لقد تشعبت الروايات في تعريفها ، فنعرض نحن طرفا من هذه التعريفات :

" روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيب [ أي يحجز لبنها ويخصص للآلهة فلا يطعمها الناس وكهنة الآلهة هم الذين يأخذونه طبعًا ! ] والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم . والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى ، ثم تثني بالأنثى فيسمونها الوصيلة ، يقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يذبحونها لطواغيتهم . والحامي الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود [ أي يقوم بتلقيح عدد من النوق ] فإذا بلغ ذلك يقال : حمى ظهره ، فيترك ، فيسمونه الحامي .

" وقال أهل اللغة : البحيرة الناقة التي تشق أذنها ، يقال : بحرت أذن الناقة أبحرها بحرا ، والناقة مبحورة وبحيرة ، إذا شققتها واسعا . ومنه البحر لسعته . وكان أهل الجاهلية يحرمون البحيرة ، وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكرا ، بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولم تطرد عن ماء ، ولم تمنع عن مرعى ، وإذا لقيها المعيي لم يركبها . قالوا : والسائبة المخلاة وهي المسيبة ، وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر ، أو برء من مرض ، أو ما أشبه ذلك ، قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية . . فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوها : وقال بعضهم : كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم . وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم . وقالوا : الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمى ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى "

وهناك روايات أخرى عن تعريف هذه الأنواع من الطقوس لا ترتفع على هذا المستوى من التصور ، ولا تزيد الأسباب فيها معقولية على هذه الأسباب . . وهي كما ترى أوهام من ظلام الوثنية المخيم . وحين تكون الأوهام والأهواء هي الحكم ، لا يكون هناك حد ولا فاصل ، ولا ميزان ولا منطق . وسرعان ما تتفرع الطقوس ويضاف إليها وينقص منها بلا ضابط . وهذا هو الذي كان في جاهلية العرب ، والذي يمكن أن يحدث في كل مكان وفي كل زمان ، حين ينحرف الضمير البشري عن التوحيد المطلق ، الذي لا منعرجات فيه ولا ظلام . وقد تتغير الأشكال الخارجية ولكن لباب الجاهلية يبقى ، وهو التلقي من غير الله في أي شأن من شؤون الحياة !

إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ؛ ولكنها حالة ووضع يتكرر - في ِأشكال شتى - على مدار الزمان . فإما ألوهية واحدة تقابلها عبودية شاملة ؛ وتتجمع فيها كل ألوان السلطة ، وتتجه إليها المشاعر والأفكار ، والنوايا والأعمال ، والتنظيمات والأوضاع ، وتتلقى منها القيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والتصورات والتوجيهات . . وإما جاهلية - في صورة من الصور - تتمثل فيها عبودية البشر للبشرأو لغيرهم من خلق الله . . لا ضابط لها ولا حدود . لأن العقل البشري لا يصلح وحده أن يكون ضابطا موزونا ما لم ينضبط هو على ميزان العقيدة الصحيحة . فالعقل يتأثر بالهوى كما نشهد في كل حين ؛ ويفقد قدرته على المقاومة في وجه الضغوط المختلفة ما لم يقم إلى جانبة ذلك الضابط الموزون .

وإننا لنشهد اليوم - بعد أربعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن بهذا البيان - أنه حيثما انفك رباط القلب البشري بالإله الواحد ، تاه في منحنيات ودروب لا عداد لها ، وخضع لربوبيات شتى ، وفقد حريته وكرامته ومقاومته . . ولقد شهدت في هذا الجانب الخرافي وحده في صعيد مصر وريفها عشرات من الأوهام تطلق لها بعض صنوف الحيوان ، للأولياء والقديسين ، في ذات الصورة التي كانت تطلق بها للآلهة في الزمان القديم !

على أن المسألة في تلك الطقوس الجاهلية - وفي كل جاهلية - هي القاعدة الكلية . هي نقطة الانطلاق في طريق الإسلام أو في طريق الجاهلية . هي . . لمن الحكم في حياة الناس . . لله وحده كما قرر في شريعته ؟ أم لغير الله فيما يقرره البشر لأنفسهم من أحكام وأوضاع وشرائع وطقوس وقيم وموازين ؟ أو بتعبير آخر : لمن الألوهية على الناس ؟ لله ؟ أم لخلق من خلقة ؟ أيا كان هذا الخلق الذي يزاول حقوق الألوهية على الناس !

ومن ثم يبدأ النص القرآني بتقرير أن الله لم يشرع هذه الطقوس . لم يشرع البحيرة ولا السائبة ولا الوصيلة ولا الحامي . . فمن ذا الذي شرعها إذن لهؤلاء الكفار ؟ !

( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) . .

والذين يتبعون ما شرعه غير الله هم كفار . كفار يفترون على الله الكذب . مرة يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة الله . . ومرة يقولون : إننا نشرع لأنفسنا ولا ندخل شريعة الله في أوضاعنا . . ونحن مع هذا لا نعصي الله . وكله كذب على الله :

( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) . .

ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم الذي جاء به من عند الله . فهم لم يكونوا يجحدون الله البتة . بل كانوا يعترفون بوجوده وبقدرته وبتصريفه للكون كله . ولكنهم مع ذلك كانوا يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون أن هذا شرع الله ! وهم بهذا كانوا كفارا . ومثلهم كل أهل جاهلية في أي زمان وفي أي مكان يشرعون لأنفسهم من عند الله أنفسهم ثم يزعمون - أو لا يزعمون - أن هذا شرع الله !

إن شرع الله هو الذي قرره في كتابه ، وهو الذي بينه رسوله [ ص ] وهو ليس مبهما ولا غامضا ولا قابلا لأن يفتري عليه أحد من عنده ما يفتري ، ويزعم أنه منه ، كما يتصور أهل الجاهلية في أي زمان وفي أي مكان !

ولذلك يصم الله الذين ادعوا هذا الادعاء بالكفر . ثم يصمهم كذلك بأنهم لا يعقلون ! ولو كانوا يعقلون ما افتروا على الله . ولو كانوا يعقلون ما حسبوا أن يمر هذا الافتراء !