قوله تعالى : { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } ، قرأ نافع { يوم } بنصب الميم ، يعني : تكون هذه الأشياء في يوم ، فحذف ( في ) فانتصب ، وقرأ الآخرون بالرفع على أنه خبر { هذا } أي : ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة ، ولو كذبوا ختم الله على أفواههم ، ونطقت به جوارحهم ، فافتضحوا ، وقيل : أراد بالصادقين النبيين ، وقال الكلبي : ينفع المؤمنين إيمانهم ، قال قتادة : متكلمان لا يخطئان يوم القيامة ، عيسى عليه السلام ، وهو ما قص الله عز وجل ، وعدو الله إبليس ، وهو قوله : { وقال الشيطان لما قضي الأمر } ، الآية . فصدق عدو الله يومئذ ، وكان قبل ذلك كاذباً فلم ينفعه صدقه ، وأما عيسى عليه السلام فكان صادقاً في الدنيا والآخرة ، فنفعه صدقه . وقال بعضهم : هذا يوم من أيام الدنيا ، لأن الدار الآخرة دار جزاء . لا دار عمل ، ثم بين ثوابهم فقال : { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم } .
{ قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين . . . }
قال الآلوسي : { قَالَ الله } كلام مستأنف ختم به - سبحانه - حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل . وأشير إلى نتيجته ومآله . والمراد بقول الله - تعالى - عقيب جواب عيسى الإِشارة إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم .
والمراد باليوم في قوله { هذا يَوْمُ } يوم القيامة الذي تجازي فيه كل نفس بما كسبت وقد قرأ الجمهور برفع { يوم } من غير تنوين على أنه خبر لاسم الإِشارة أي : قال الله - تعالى - : إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينتفع الصادقون فيه بصدقهم في إيمانهم وأعمالهم ، لأنه يوم الجزاء والعطاء على ما قدموا من خيرات في دنياهم .
أي أن صدقهم في الدنيا ينفعهم يوم القيامة ، بخلاف صدق الكفار يوم القيامة فإنه لا ينفعهم ، لأنهم لم يكونوا مؤمنين في دنياهم .
وقرأ نافع ( يوم ) بالنصب من غير تنوين على أنه ظرف لقال . أي : قال الله - تعالى - هذا القول لعيسى يوم ينفع الصادقين في هذا اليوم .
وقوله : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } جملة مستأنفة لبيان مظاهر النفع الذي ظفر به الصادقون في هذا اليوم . أي : أن هؤلاء الصادقين في دنياهم قد نالوا في آخرتهم جنات تجري من تحت أشجارها وسررها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي : مقيمين فيها إقامة دائمة لا يعتريها انقطاع وقوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } أي : رضي الله عنهم فأعطاهم بسبب إيمانهم الصادق وعملهم الصالح عطاء هو نهاية الآمال والأماني . ورضوا عنه بسبب هذا العطاء الجزيل الذي لا تحيط العبارة بوصفه .
واسم الإشارة في قوله : { ذلك الفوز العظيم } يعود إلى ما انتفع به الصادقون من جنات تجري من تحتها الأنهار . ومن رضا الله عنهم . أي : إلى النعيم الجثماني المتمثل في الجنات وما يتبعها من عيشة هنيئة ، وإلى النعيم الروحاني المتمثل في رضا الله عنهم .
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب . وحقيقة الثواب : أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم ، وقوله { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } إشارة إلى الدوام . واعتبر هذه الدقيقة : فإنه أينما ذكر الثواب قال { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } وأينما ذكر العقاب للفساق من أهل الإِيمان ، ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأييد ، وأما قوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } فتحته أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اللّهُ هََذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : " هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ " فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة : «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ » بنصب «يوم » . وقرأ بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة وعامّة قرّاء أهل العراق : هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ برفع يوم . فمن رفعه رفعه بهذا ، وجعل «يوم » اسما ، وإن كانت إضافته غير محضة ، لأنه صار كالمنعوت . وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل اليوم والليلة عملهم فيما بعدها ، إن كان ما بعدها رفعا رفعوها ، كقولهم : هذا يومُ يركب الأمير ، وليلةُ يصدر الحاج ، ويومُ أخوك منطلق وإن كان ما بعدها نصبا نصبوها ، وكذلك كقولهم : هذا يومَ خرج الجيش وسار الناس ، وليلةَ قتل زيد ونحو ذلك ، وإن كان معناها في الحالين : «إذ » ، و«إذا » . وكأنّ من قرأ هذا هكذا رفعا وجه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة ، وكذلك كان السديّ يقول في ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " قالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ " هذا فصل من كلام عيسى ، وهذا يوم القيامة .
يعني السدي بقوله : «هذا فصل من كلام عيسى » أن قوله : " سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَق . . . إلى قوله : فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " من خبر الله عزّ وجلّ عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه ، وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة . وأما النصب في ذلك ، فإنه يتوجه من وجهين : أحدهما : أن إضافة «يوم » ما لم تكن إلى اسم تجعله نصبا ، لأن الإضافة غير محضة ، وإنما تكون الإضافة محضة إذا أضيف إلى اسم صحيح . ونظير اليوم في ذلك الحين والزمان وما أشبههما من الأزمنة ، كما قال النابغة :
على حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصّبا ***وقَلْتُ أَلمّا أصْحُ والشّيْبُ وَازِعُ
والوجه الآخر : أن يكون مرادا بالكلام هذا الأمر وهذا الشأن ، «يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ » فيكون اليوم حينئذ منصوبا على الوقت والصفة ، بمعنى : هذا الأمر في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب : «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ » بنصب اليوم على أنه منصوب على الوقت والصفة ، لأن معنى الكلام : أن الله تعالى أجاب عيسى حين قال : " سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ . . . . إلى قوله : فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " فقال له عزّ وجلّ : هذا القول النافع أو هذا الصدق النافع يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فاليوم وقت القول والصدق النافع .
فإن قال قائل : فما موضع «هذا » ؟ قيل رفع فإن قال : فأين رافعه ؟ قيل مضمر ، وكأنه قال : قال الله عزّ وجلّ : هذا ، هذا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ، كما قال الشاعر :
أما تَرَى السّحابَ كَيْفَ يَجْرِي ***هَذَا وَلا خَيْلُكَ يا ابْنَ بِشْرِ
فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا لما بينا : قال الله لعيسى : هذا القول النافع في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ في الدنيا صِدْقُهُمْ ذلك في الآخرة عند الله . " لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ " يقول : للصادقين في الدنيا جناتٌ تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ثوابا لهم من الله عزّ وجلّ ، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه ، فوفوا به لله ، فوفى الله عزّ وجلّ لهم ما وعدهم من ثوابه . " خالِدِينَ فِيها أبَداً " يقول : باقين في الجنات التي أعطاهموها أبدا دائما لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول . وقد بينا فيما مضى أن معنى الخلود : الدوام والبقاء .
القول في تأويل قوله تعالى : " رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ " .
يقول تعالى ذكره : رضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ، " ورَضُوا عَنْهُ " يقول : ورضوا هم عن الله تعالى في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه ، فيما أمرهم ونهاهم من جزيل ثوابه . " ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ " يقول : هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، مرضيّا عنهم ، وراضين عن ربهم ، هو الظفر العظيم بالطّلِبة وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا ، ولها كانوا يعملون فيها ، فنالوا ما طلبوا وأدركوا ما أملوا .
والتعليق بأن { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقرأ نافع { يوم } بالنصب على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف ، أو ظرف مستقر وقع خبرا والمعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع . وقيل إنه خبر ولكن بني على الفتح بإضافته إلى الفعل وليس بصحيح ، لأن المضاف إليه معرب والمراد بالصدق الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف . { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم } بيان للنفع .
جواب عن قول عيسى ، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار . والإشارة إلى يوم القيامة وهو حاضر حين تجري هذه المقاولة .
وجملة : { ينفع الصادقين صدقهم } مضاف إليها { يوم } ، أي هذا يوم نفْع الصدق . وقد قرأ غير نافع من العشرة { يومُ } مضموماً ضمّة رفع لأنّه خبرُ { هذا } . وقرأه نافع مفتوحاً على أنّه مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية . وإضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية تسوّغ بناءه على الفتح ، فإن كانت ماضوية فالبناء أكثر ، كقول النابغة :
على حينَ عَاتبتُ المشيبَ على الصّبا
وإن كانت مضارعية فالبناء والإعراب جائزان كما في هذه الآية ، وهو التحقيق . وإضافة الظرف إلى الجملة تقتضي أنّ مضمونها يحصل فيه ، فنفع الصدق أصحابه حاصل يومئذٍ . وعموم الصادقين يشمل الصدق الصادر في ذلك اليوم والصادر في الدنيا ، فنفع كليهما يظهر يومئذٍ ؛ فأمّا نفع الصادر في الدنيا فهو حصول ثوابه ، وأمّا نفع الصادر في الآخرة كصدق المسيح فيما قاله فهو برضى الله عن الصادق أو تجنّب غضبه على الذي يكذّبه فلا حيرة في معنى الآية .
والمراد بِ { الصادقين } الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه . ومن أوّل مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر ممّا قامَ عليه الدليل العقلي أو الشرعي . قال الله تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( 119 ) .
ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أنّ ذلك اليوم يوم الحقّ فالصادق ينتفع فيه بصدقه ، لأنّ الصدق حسن فلا يكون له في الحقّ إلاّ الأثر الحسن ، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحقّ والباطل فإنّ الحقّ قد يجرّ ضرّاً لصاحبه بتحريف الناس للحقائق ، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما اطّلع عليه أحد . وأمّا ما يترتّب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة . وقد ابتلي كعب بن مالك رضي الله عنه في الصدق ثم رأى حُسن مغبَّته في الدنيا .
ومعنى نفع الصدق أنّه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبَر عنه حسن فيكون نفعاً محضاً وعليه جزاءان ، كما في قول عيسى : { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ } [ المائدة : 116 ] إلى آخره ، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإنّ الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحاً لأنّه قد حصل قبيحاً سواء أخبر عنه أم لم يخبر ، وكان لقبحه مستحقّاً أثراً قبيحاً مثله . وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخفّ عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه .
وجملة : { لهم جنات } مبيّنة لجملة : { ينفع } باعتبار أنّها أكمل أحوال نفع الصدق . وجملة { تجري من تحتها الأنهار } صفة ل { جنَّات } و { خالدين } حال . وكذلك جملة { رضي الله عنهم ورضوا عنه } .
ومعنى : { رضوا عنه } المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنّة ورضوانه . وأصل الرضا أنّه ضدّ الغضب ، فهو المحبّة وأثرها من الإكرام والإحسان . فرضي الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبّته في قوله : { يحبّهم } . ورضي الخلق عن الله هو محبّته وحصول ما أمَّلوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلّع .
واسم الإشارة في قوله { ذلك } لتعظيم المشار إليه ، وهو الجنّات والرضوان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة قوله:"هَذَا يَوْم يَنْفَعُ الصّادِقِينَ" فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة: «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ» بنصب «يوم». وقرأ بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة وعامّة قرّاء أهل العراق: "هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ "برفع يوم. فمن رفعه رفعه بهذا، وجعل «يوم» اسما، وإن كانت إضافته غير محضة، لأنه صار كالمنعوت... وكأنّ من قرأ هذا هكذا رفعا وجه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة، وكذلك كان السديّ يقول في ذلك: هذا فصل من كلام عيسى، وهذا يوم القيامة.
يعني السدي بقوله: «هذا فصل من كلام عيسى» أن قوله: "سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَق... إلى قوله: فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" من خبر الله عزّ وجلّ عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه، وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة. وأما النصب في ذلك، فإنه يتوجه من وجهين: أحدهما: أن إضافة «يوم» ما لم تكن إلى اسم تجعله نصبا، لأن الإضافة غير محضة، وإنما تكون الإضافة محضة إذا أضيف إلى اسم صحيح. ونظير اليوم في ذلك الحين والزمان وما أشبههما من الأزمنة، والوجه الآخر: أن يكون مرادا بالكلام: هذا الأمر وهذا الشأن، «يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ» فيكون اليوم حينئذ منصوبا على الوقت والصفة، بمعنى: هذا الأمر في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ» بنصب اليوم على أنه منصوب على الوقت والصفة، لأن معنى الكلام: أن الله تعالى أجاب عيسى حين قال: "سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ...
إلى قوله: فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" فقال له عزّ وجلّ: هذا القول النافع أو هذا الصدق النافع يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فاليوم وقت القول والصدق النافع.
فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا لما بينا: قال الله لعيسى: هذا القول النافع في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ في الدنيا صِدْقُهُمْ ذلك في الآخرة عند الله. "لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ" يقول: للصادقين في الدنيا جناتٌ تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ثوابا لهم من الله عزّ وجلّ، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه، فوفوا به لله، فوفى الله عزّ وجلّ لهم ما وعدهم من ثوابه. "خالِدِينَ فِيها أبَداً" يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها أبدا دائما لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول. وقد بينا فيما مضى أن معنى الخلود: الدوام والبقاء.
"رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ": رضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه من العمل بطاعته واجتناب معاصيه، "ورَضُوا عَنْهُ" يقول: ورضوا هم عن الله تعالى في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه، فيما أمرهم ونهاهم من جزيل ثوابه. "ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ": هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، مرضيّا عنهم، وراضين عن ربهم، هو الظفر العظيم بالطّلِبة وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا، ولها كانوا يعملون فيها، فنالوا ما طلبوا وأدركوا ما أملوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (قال الله هذا) قيل: قال بمعنى يقول الله يوم القيامة (يوم ينفع الصادقين صدقهم) أي اليوم ينفع الصادقين صدقهم في الدنيا، وينفع صدق الصادق أيضا في الدنيا؛ لأنه إذا عرف بالصدق قبل قوله، وإن لم يظهر صدقه في قوله. ثم اختلف في الصادقين من هم؟ قال بعضهم: هم المؤمنون جملة أي يومئذ ينفع إيمان المؤمنين وتوحيد الموحدين في الدنيا كقوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون) [الحديد: 19] وقال بعضهم: الصادقون هم الأنبياء عليهم السلام...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "قال الله هذا يوم ينفع الصادقين "يعني يوم القيامة، ودل على أن قول الله للمسيح "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" يكون يوم القيامة، ثم بين أن الصادقين ينفعهم صدقهم وهو ما صدقوا فيه في دار التكليف، لأن يوم القيامة لا تكليف فيه على أحد، ولا يخبر أحد فيه إلا بالصدق، ولا ينفع الكفار صدقهم الذي يقولونه يوم القيامة إذا أقروا على أنفسهم بسوء أعمالهم، ثم بين أن "لهم جنات تجري من تحتها الانهار"، وأنهم" خالدون فيها أبدا "في نعيم مقيم لا يزول، وأن الله قد" رضي عنهم ورضوا "هم عن الله، وبين أن ذلك" هو الفوز العظيم"، وهو ما يحصلون فيه من الثواب والنجاة من النار...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ تَعَجَّل ميراثَ صدقه في دنياه من قبولٍ حصل له من الناس، أو رياسةٍ عقدت له، له أو نفع وصل إليه من جاهٍ أو مالٍ، فلا شيء له في آجله من صواب صدقه، لأن الحقَّ -سبحانه- نصّ بأنَّ يومَ القيامة ينفع فيه الصادقين صدقهم. قوله جلّ ذكره: {رَضِي اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}. ورضاءُ الحق -سبحانه- إثباتُ مَحَلّ لهم، وثناؤه عليهم ومدحُه لهم، وتخصيصهم بأفضاله وفنون نواله. ورضاؤهم عن الحق -سبحانه- في الآخرة وصولهم إلى مناهم؛ فهو الفوز العظيم والنجاة الكبرى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى قوله: ينفع الصادقين صدقهم؟ إن أريد صدقهم في الآخرة فليست الآخرة بدار عمل، وإن أريد صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه؛ لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلت: معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم.
اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة، شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب، وحقيقة الثواب: أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم. فقوله {لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار} إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله {خالدين فيها أبدا} إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة، فإنه أينما ذكر الثواب قال: {خالدين فيها أبدا} وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الإيمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد، وأما قوله تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} فهو إشارة إلى التعظيم. هذا ظاهر قول المتكلمين، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى، فتحت قوله {رضي الله عنهم ورضوا عنه} أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها، وقوله {ذلك الفوز العظيم} الجمهور على أن قوله {ذلك} عائد إلى جملة ما تقدم من قوله {لهم جنات تجري} إلى قوله {ورضوا عنه} وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصا بقوله {رضي الله عنهم ورضوا عنه} فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما، وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري، ولكن كل ميسر لما خلق له.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضى جوابه عليه الصلاة والسلام على هذا الوجه الجليل، تشوف السامع إلى جواب الله له، فقال تعالى مشيراً إلى كون جوابه حقاً ومضمونه صدقاً، منبهاً على مدحه حاثاً على ما بنيت عليه السورة من الوفاء بالعقود: {قال الله} أي الملك المحيط بالجلال والإكرام جواباً لكلامه {هذا} أي مجموع يوم القيامة؛ ولما كان ظهور الجزاء النافع هو المقصود قال: {يوم} هذا على قراءة الجماعة بالرفع، وقراءة نافع بالنصب غير منون أيضاً لإضافته إلى متمكن بمعنى: هذا الذي ذكر واقع؛ أو قال الله هذا الذي تقدم يوم {ينفع الصادقين} أي العريقين في هذا الوصف نفعاً لا يضرهم معه شيء {صدقهم} أي الذي كان لهم في الدنيا وصفاً ثابتاً، فحداهم على الوفاء بما عاهدوا عليه، فكأنه قيل: ينفعهم بأيّ شيء؟ فقال: {لهم جنات} أي هي من ريّ الأرض الذي يستلزم زكاء الشجر وطيب الثمر بحيث {تجري} ولما كان تفرق المياه في الأراضي أبهج، بعض فقال: {من تحتها الأنهار} ولما كان مثل هذا لا يريح إلا إذا دام قال: {خالدين فيها} وأكد معنى ذلك بقوله: {أبداً}. ولما كان ذلك لا يتم إلا برضى المالك قال: {رضي الله} أي الذي له صفات الكمال {عنهم} أي بجميع ما له من الصفات، وهو كناية عن أنه أثابهم بما يكون من الراضي ثواباً متنوعاً بتنوع ما له من جميع صفات الكمال والجمال؛ ولما كان ذلك لا يكمل ويبسط ويجمل إلا برضاهم قال: {ورضوا عنه} يعني أنه لم يدع لهم شهوة إلا أنالهم إياها، وقال ابن الزبير بعدما أسلفته عنه: فلما طلب تعالى المؤمنين بالوفاء فيما نقض به غيرهم، وذكّرهم ببعض ما وقع فيه النقض وما أعقب ذلك فاعله، وأعلمهم بثمرة التزام التسليم والامتثال، أراهم جل وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته، فقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنت قلت للناس} [المائدة: 116] إلى قوله -{هذا يوم ينفع الصادقين}- إلى آخرها. فيحصل من جملتها الأمر بالوفاء فيما تقدمها وحالُ من حاد ونقض، وعاقبة من وفى، وأنهم الصادقون، وقد أمرنا أن نكون معهم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119] -انتهى. ولما كان سبحانه قد أمرهم أول السورة بالوفاء شكراً على ما أحل لهم في دنياهم، ثم أخبر أنه زاد الشاكرين منهم ورقاهم إلى أن أباحهم أجلّ النفائس في أخراهم، ووصف سبحانه هذا الذي أباحه لهم إلى أن بلغ في وصفه ما لا مزيد عليه، أخذ يغبطهم به فقال: {ذلك} أي الأمر العالي لا غيره {الفوز العظيم}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعدما تقدم من تفويض عيسى أمر قومه إلى ربه عز وجل بتلك العبارة البليغة، في أثر تلك الأجوبة السديدة، تتوجه النفس إلى معرفة ما يقوله الرب في ذلك اليوم العظيم وتسأل عنه بلسان الحال أو المقال إن لم تسمعه وذلك قوله عز وجل: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} قرأ الجمهور «يوم» بالرفع وهو خبر هذا، أي قال الله تعالى: إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم في إيمانهم وشهاداتهم، وفي سائر أقوالهم وأحوالهم. وقرأه نافع بالنصب – وقيل البناء على الفتح – أي قال الله: هذا أي الذي قاله عيسى واقع أو كائن يوم ينفع الصادقين صدقهم. ثم بين هذا النفع بيانا مستأنفا فقال: {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} الجملة الأولى تقدم تفسيرها مرارا. وأما الجملة الثانية فهي بيان للنعيم الروحاني بعد ذكر النعيم الجثماني، فإن رضاء الله تعالى عنهم ورضاءهم عنه هو غاية السعادة الأبدية في نفسه، وفيما يترتب عليه من عطاياه تعالى وإكرامه، ومن كونهم يكونون ناعمين بذلك الإكرام مغتبطين به، إذ لا مطلب لهم أعلى منه فتمتد أعناقهم إليه، وتستشرف قلوبهم له حتى يتوقف رضاهم عليه، وأما كونه سعادة في نفسه فيعلم من حال كل من كان في كنف إنسان والد أو أستاذ أو قائد أو رئيس أو سلطان فإن علمه برضاه عنه يجعله في غبطة وهناء وطمأنينة قلب، ويكون سروره وزهوه بذلك على قدر مقام رئيسه الراضي عنه،
على أن رضاء رؤساء الدنيا لا يستلزم رضاء المرؤوسين دائما، لأن منهم الظالمين الذين لا يوفون أحدا حقه وإن كانوا راضين عنه، ورضاء أكرم الأكرمين يستلزم رضاء من رضي هو عنه لأنه يعطيه أضعاف ما يستحق، وفوق ما يؤمل ويرجو، كما قال تعالى في سورة الم السجدة {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17] ورضوانه تعالى فوق كل شيء كما قال في سورة التوبة بمعنى ما هنا {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر، وهو الفوز العظيم} [التوبة: 72].
والفوز الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده أو مما يحول دونه. وقال الراغب: الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة. فمعناه مركب من سلب وإيجاب، كما يدل عليه قوله تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران:185] وإطلاقه على الظفر بالمطلوب وحده- كما في الآية التي نفسرها وآية التوبة التي بمعناها وما يشابهها- مراعى فيه المعنى السلبي بالقرائن الحالية، كما يقال في الجيش الذي يغلب عدوه ويظفر بالغنائم منه: إنه فاز، وهو إذا نال مراده من هدم قلعة ودك حصن فهلك تحت أنقاضه فلا يقال إنه قد فاز. وإذا كان المهم في الفوز المعنى الإيجابي يعدى بالباء فيقال: فاز بكذا، وإذا كان المهم بيان المعنى السلبي يعدى بمن فيقال: فاز من الهلاك قال تعالى: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} [أل عمران: 177] وإنما سميت الفلاة مفازة على سبيل التفاؤل لأنها مظنة الهلاك.
الإشارة في قوله تعالى: {ذلك الفوز العظيم} إلى كل من النعيمين الجثماني والروحاني اللذين يحصلان بعد النجاة من أهوال يوم القيامة، وقيل إنه للثاني فقط، والأول أصح لأنه الأكمل، ولأن مثل هذا الإطلاق ورد في إثر إطلاق الجزاء بالجنة وحدها في آيتين من سورة التوبة غير الآية التي أوردناها آنفا، وفي إثر إطلاق الجزاء بالجنة مع النجاة من عذاب النار كما تراه في آخر سورة الدخان، وفي معناه ما في سورة المؤمن والحديد والصف والتغابن، فإن ذكر المغفرة فيها يتضمن معنى النجاة من عذاب النار. فنسأل الله الكريم الرحمن الرحيم، أن يجعلنا من أهل هذا الفوز العظيم، بفضله وإحسانه، وتوفيقنا لأسباب مرضاته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لنشهد ختام المشهد العجيب: (قال الله: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم.. إنه التعقيب المناسب على كذب الكاذبين؛ الذين أطلقوا تلك الفرية الضخمة على ذلك النبي الكريم. في أعظم القضايا كافة.. قضية الألوهية والعبودية، التي يقوم على أساس الحق فيها هذا الوجود كله وما فيه ومن فيه...
هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم.. إنها كلمة رب العالمين، في ختام الاستجواب الهائل على مشهد من العالمين.. وهي الكلمة الأخيرة في المشهد. وهي الكلمة الحاسمة في القضية. ومعها ذلك الجزاء الذي يليق بالصدق والصادقين: (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار).. (خالدين فيها أبدًا).. (رضي الله عنهم).. (ورضوا عنه).. درجات بعد درجات.. الجنات والخلود ورضا الله ورضاهم بما لقوا من ربهم من التكريم: (ذلك الفوز العظيم).. ولقد شهدنا المشهد -من خلال العرض القرآني له بطريقة القرآن الفريدة- وسمعنا الكلمة الأخيرة.. شهدنا وسمعنا لأن طريقة التصوير القرآنية لم تدعه وعدا يوعد، ولا مستقبلا ينتظر؛ ولم تدعه عبارات تسمعها الآذان أو تقرؤها العيون. إنما حركت به المشاعر، وجسمته واقعا اللحظة تسمعه الآذان وتراه العيون.. على أنه إن كان بالقياس إلينا -نحن البشر المحجوبين- مستقبلا ننتظره يوم الدين، فهو بالقياس إلى علم الله المطلق، واقع حاضر. فالزمن وحجابه إنما هما من تصوراتنا نحن البشر الفانين..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بِ {الصادقين} الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه. ومن أوّل مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر ممّا قامَ عليه الدليل العقلي أو الشرعي. قال الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين} (119). ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أنّ ذلك اليوم يوم الحقّ فالصادق ينتفع فيه بصدقه، لأنّ الصدق حسن فلا يكون له في الحقّ إلاّ الأثر الحسن، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحقّ والباطل فإنّ الحقّ قد يجرّ ضرّاً لصاحبه بتحريف الناس للحقائق، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما اطّلع عليه أحد. وأمّا ما يترتّب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة. وقد ابتلي كعب بن مالك رضي الله عنه في الصدق ثم رأى حُسن مغبَّته في الدنيا. ومعنى نفع الصدق أنّه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبَر عنه حسن فيكون نفعاً محضاً وعليه جزاءان، كما في قول عيسى: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ} [المائدة: 116] إلى آخره، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإنّ الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحاً لأنّه قد حصل قبيحاً سواء أخبر عنه أم لم يخبر، وكان لقبحه مستحقّاً أثراً قبيحاً مثله. وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخفّ عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه. وجملة: {لهم جنات} مبيّنة لجملة: {ينفع} باعتبار أنّها أكمل أحوال نفع الصدق. وجملة {تجري من تحتها الأنهار} صفة ل {جنَّات} و {خالدين} حال. وكذلك جملة {رضي الله عنهم ورضوا عنه}. ومعنى: {رضوا عنه} المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنّة ورضوانه. وأصل الرضا أنّه ضدّ الغضب، فهو المحبّة وأثرها من الإكرام والإحسان. فرضي الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبّته في قوله: {يحبّهم}. ورضي الخلق عن الله هو محبّته وحصول ما أمَّلوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلّع. واسم الإشارة في قوله {ذلك} لتعظيم المشار إليه، وهو الجنّات والرضوان...
نعرف أن هناك صدقا ينفع يوم القيامة وهو الصدق الموصول بصدق الدنيا. وهناك صدق لا ينفع يوم القيامة ومثال ذلك قول إبليس اللعين كما يحكي القرآن الكريم: {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم} (من الآية 22 سورة إبراهيم) مثل هذا الصدق لا ينفع أحدا؛ لأن الآخرة ليست دار التكليف. لكن الصدق الموصول بصدق الدنيا هو قول عيسى عليه السلام: {إن كنت قلته فقد علمته}. ولذلك يقول الله في الصدق الموصول: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}. ذلك أن صدق الصادقين يوم القيامة هو صدق موصول بصدقهم في زمن التكليف وهو الدنيا ويتلقون رضاء الله: {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه} وإن تساءل إنسان: كيف يرضى العبد عن ربه؟. نقول: إن العباد المؤمنين عندما يعاينون الجزاء المعد لهم في الآخرة يمتلئون بالحبور ويقولون: {الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء} (من الآية 74 سورة الزمر) هذه الآية التي تتحدث عن يوم ينفع الصادقين صدقهم بقوله: {ذلك الفوز العظيم} كأن هناك فوزا سطحيا، وفوزا عظيما. والفوز السطحي: هو ما يعطيه الإنسان لنفسه في دار التكليف من متعة قصيرة العمر والأجل فيبدو ظاهريا وكأنه قد فاز، وفي الحقيقة ليس هو الفوز العظيم لأن الندم سيعقبه، وأي لذة يعقبها الندم ليست فوزا؛ لأن الدنيا بكل ما فيها من نعيم هو نعيم على قدر إمكانات الإنسان وتصوره، وهو نعيم مهدد بشيئين؛ أن يزول النعيم عن الإنسان، وكثيرا ما رأينا منعمين زال عنهم النعيم، أو أن يترك الإنسان هذا النعيم بالموت، ونرى ذلك كثيرا. أما النعيم الذي هو الفوز العظيم فهو النعيم الموصول الذي لا يمنعه أحد، ولا يقطعه شيء.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
طبيعي أنّ المقصود من هذا هو أنّ الصدق في القول والعمل في هذه الدنيا هو الذي ينفع في الآخرة، لأن الصدق في الآخرة التي لا تكليف فيها لا ينفع شيئاً ثمّ أنّ الوضع في تلك الحياة مختلف بحيث لا يستطيع أحد إِلاّ أن يقول الصدق، حتى المذنبون يعترفون بسيئات ما عملوا، وعلى هذا فلا وجود للكذب يوم القيامة. وعليه، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسؤولية ورسالة ولم يسيروا إِلاّ في طريق الصدق، مثل المسيح (عليه السلام) وأتباعه الصادقين، أو أتباع سائر الأنبياء الآخرين الذين التزموا الصدق سينالون ثوابهم. يتّضح لنا من هذا بأنّ جميع الأعمال الصالحات يمكن أن تنطوي تحت عنوان الصدق في القول والفعل، وأنّه الرصيد الذي ينفع يوم القيامة لا غير. وهؤلاء الصادقون: (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) وخير من هذه النعمة المادية أنّهم: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ولا شك أنّ هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شيء عظيم: (ذلك الفوز العظيم). يلفت النظر أنّ الآية، بعد ذكر بساتين الجنّة ونعمها الكثيرة، تذكر نعمة رضى الله عن عباده، ورضى عباده عنه وتصف ذلك بأنّه الفوز العظيم، وهذا يدل على مدى أهمية هذا الرضى المتبادل، فقد يكون امرؤ غارقاً في أرفع نعم الله، ولكنّه إِذا أحس بأنّ مولاه ومعبوده ومحبوبه ليس راضياً عنه، فإن جميع تلك النعم والهبات تصير علقماً في ذائقة روحه. كما يمكن أن يتوفر لامرئ كل شيء، ولكنه لا يكون راضياً ولا قانعاً بما عنده، فمن الواضح أنّ هذه النعم بأجمعها غير قادرة على إِسعاد تلك الروح، بل تكون دائماً معرضة لعذاب قلق غامض واضطراب نفسي مستمر يقضيان على الراحة النفسية التي هي من أعظم نعم الله. ثمّ إِذا كان الله راضياً عن امرئ فإنّه يعطيه كل ما يريد، فإذا أعطاه كل ما يريد فإنّه يكون راضيا عن ربّه أيضاً، من هنا فإنّ أعظم النعم هي أن يرضى الله عن الإِنسان ويرضى الإِنسان عن ربّه.