43- ألم تر - أيها النبي - أن الله يسوق بالريح سحاباً ، ثم يضم بعضه إلي بعض ويجعله متراكماً ، فترى المطر يخرج من خلال السحاب ، والله ينزل من مجموعات السحب المتكاثفة التي تشبه الجبال{[151]} في عظمتها برداً ، كالحصى ينزل علي قوم فينفعهم أو يضرهم تبعاً لقوانينه وإرادته ولا ينزل علي آخرين كما يريد الله فهو سبحانه الفاعل المختار ، ويكاد ضوء البرق الحادث من اصطكاك السحب يذهب بالأبصار لشدته ، وهذه الظواهر دلائل قدرة الله الموجبة للإيمان به{[152]} .
{ ألم تر أن الله يزجي سحابا } يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد . { ثم يؤلف بينه } بأن يكون قزعا فيضم بعضه إلى بعض ، وبهذا الإعتبار صح بينه إذ المعنى بي أجزائه ، وقرأ نافع برواية ورش " يولف " غير مهموز . { ثم يجعله ركاما } متراكما بعضه فوق بعض . { فترى الودق } المطر . { يخرج من خلاله } من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل ، وقرىء من " خلله " . { وينزل من السماء } من الغمام وكل ما علاك فهو سماء . { من جبال فيها } من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها . { من برد } بيان للجبال والمفعول محذوف أي { ينزل } مبتدأ { من السماء من جبال فيها من برد } بردا ، ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبغيض واقعة موقع المفعول ، وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحابا ، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا ، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا والإنزال بردا ، ووقد يبرد الهواء بردا مفرطا فينقبض وينعقد سحابا . وينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لا بد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله :
{ فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء } والضمير لل{ برد } . { يكاد سنا برقه } ضوء برقه ، وقرئ بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين و{ برقه } بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للاتباع . { يذهب بالأبصار } بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد ، وقرئ { يذهب } على زيادة الباء .
«الرؤية في هذه الآية رؤية عين والتقدير أن أمر الله وقدرته ، و { يزجي } معناه يسوق ، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل ومدافعته كالسحاب والإبل المزاحف كما قال الفرزدق » على مزاحيف تزجيها مخارير{[8738]} « ، والبضاعة المزجاة التي تحتاج من الشفاعة والتحسين إلى ما هو كسوق الثقيل ، ومنه قول حبيب في الشيب ، » ونحن نزجيه « ، وسيبويه أبداً يقول في كلامه فأنت تزجيه إلى كذا أي تسوقه ثقيلاً متباطئاً ، وقوله { يؤلف بينه } أي بين مفترق السحاب نفسه لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً ، وهذا كما تقول جلست بين الدور ولو أضيفت » بين «إلى مفرد لم يصح إلا أن تريد آخر ، لا تقول جلست بين الدار إلا أن تريد وبين كذا{[8739]} ، وورش عن نافع لا يهمز » يولف «وقالون عن نافع والباقون يهمزون » يؤلف «وهو الأصل ، و » الركام «الذي يركب بعضه بعضاً ويتكاثف ، والعرب تقول إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج { الودق } منه ومن ذلك قوله تعالى : { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً }{[8740]} [ النبأ : 14 ] ومن ذلك قول حسان بن ثابت : [ الكامل ]
كلتاهما حلب العصير . . . فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل{[8741]}
ويروى للمِفصل بكسر الميم وبفتح الصاد ، فالمِفصل واحد المفاصيل والمفصل اللسان{[8742]} ويروى بالقاف ، أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت به أي هذه من عصر العنب وهذه من عصر السحاب ، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبد الله بن الحسن العنبري للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان ، و { الودق } المطر ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]
فلا مزنة ودقت ودقها . . . ولا أرض أبقل إبقالها{[8743]}
وقرأ جمهور الناس » من خلاله «وهو جمع خلل كجبل وجبال ، وقرأ ابن عباس والضحاك » من خلله « ، وقرأ عاصم والأعرج » وينزّل «على المبالغة والجمهور على التخفيف ، وقوله { من جبال فيها من برد } قيل تلك حقيقة وقد جعل الله تعالى في السماء جبالاً { من برد } وقالت فرقة ذلك مجاز وإنما أراد وصف كثرته وهذا كما تقول عند فلان جبال من المال وجبال من العلم أي في الكثرة مثل الجبال ، وحكي عن الأخفش تقديره زيادة { من } في قوله : { من برد } وهو قول ضعيف ، و { من } في قوله { من السماء } في لابتداء الغاية ، وفي قوله { من الجبال } هي للتبعيض ، وفي قوله { من برد } هي لبيان الجنس ، و » السنا «مقصور ، الضوء والسناء ، ممدود ، المجد والارتفاع في المنزلة ، وقرأ الجمهور » سنا «بالقصر ، وقرأ طلحة بن مصرف » سناء «بالمد والهمز .
وقرأ طلحة أيضاً «بُرَقةَ » بضم الباء وفتح الراء وهي جمع «بُرْقة » بضم الباء وسكون الراء فعلة وهي القدر من البرق كلقمة ولقم وغرفة وغرف ، وقرأ الجمهور «يَذهب » بفتح الياء ، وقرأ أبو جعفر «يُذهب » بضمها من أذهب كأن التقدير يذهب النفوس بالأبصار نحو قوله { ينبت بالدهن }{[8744]} [ المؤمنون : 20 ] ويحتمل أن يكون مثل قوله { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم }{[8745]} [ الحج : 25 ] فالباء زائدة دالة على فعل يناسبها ثم اقتضت لفظ الآية الإخبار عن تقبله الليل والنهار والإتيان بهذا بعد هذا دون توطئة هو الذي تعجز عنه الفصحاء حتى يقع منهم التخليق في الألفاظ والتوطئة بالكلام وباقي الآية بين .
أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجماوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيراً لا يتغير ، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها ، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف . وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله { فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء } .
وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي .
و { يزجي } : يسوق . يقال : أزجى الإبل إزجاء .
وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيهِ بالسوْق حتى يصير سحاباً كثيفاً ، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه بقوله تعالى : { ثم يؤلف بينه } الخ .
وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة ( 164 ) في قوله : { والسحاب المسخر } وفي أول سورة الرعد ( 12 ) .
ودخلت ( بين ) على ضمير السحاب لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرىء القيس :
والركام : مشتق من الركم . والركم : الجمع والضم . ووزن فُعال وفُعالة يدل على معنى المفعول . فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى : { وإن يَروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم } في سورة الطور ( 44 ) .
فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق . فقال بعض المفسرين : هو الودق . وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر ، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة ، والمطر يخرج من خلال السحاب .
والخلال : الفتوق ، جمع خَلَل كجبل وجبال . وتقدم { خلال الديار } في سورة الإسراء ( 5 ) .
ومعنى { ينزل من السماء } يُسقط من علو إلى سفل ، أي يُنزل من جو السماء إلى الأرض . والسماء : الجو الذي فوق جهة من الأرض .
وقوله : { من جبال } بدل من { السماء } بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال .
وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف . يقال : فلان جبل علم ، وطود علم . وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو كان لي مثل أحُد ذهباً لسَرّني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئاً أرصده لدين » أي ما كان يسرني ، فالكلام بمعنى النفي ، أي لمَا سرني . أو لما كان سرني الخ .
وحرف { من } الأول للابتداء و { من } الثاني كذلك و { من } في قوله { من برد } مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة { من } في الإثبات .
أو تكون { من } اسماً بمعنى بعض .
ومفعول { ينزل } محذوف يدل عليه قوله : { فيها من برد } والتقدير : يُنزل بَرداً .
ووقوع { من } زائدة لقصد مشاكلة قوله : { من جبال } .
وقوله : { فيصيب به من يشاء } جعل نزول البرد إصابة لأن الإصابة إذا أطلقت في كلامهم دلت على أنها حلول مكروه . ومن ذلك سميت المصيبةَ الحادثةُ المكروهة . وأما قوله تعالى : { إن تصبك حسنة تسؤهم } [ التوبة : 50 ] فلأن قوله : { حسنة } قرينة على إطلاق الإصابة على مطلق الحدوث إما مجازاً مرسلاً وإما مشتركاً لفظياً أو مشتركاً معنوياً فإن ( أصاب ) مشتق من الصوب وهو النزول ومنه صوب المطر ، فجعل نزول البرَد إصابة لأنه يفسد الزرع والثمرة ، فضمير { به } للبرَد .
وجملة : { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } وصف ل { سحاباً } . وضمير { برقه } عائد إلى { سحاباً } . وفائدة هذه الصفة تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات إذ كان شعور الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكوّن السحاب وتراكمه ونزول المطر والبرَد ، إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخلاف اشتداد البرْق فإنه لا يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات ، فإن أصحاب الأبصار التي حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة . ولهذه النكتة خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر .
والسنا مقصوراً : ضوء البرق وضوء النار . وأما السناء الممدود فهو الرفعة . قال ابن دريد في أبيات له في متشابه المقصور والممدود :
زال السنا عن ناظري *** ه وزال عن شرف السناء
ولام التعريف في { بالأبصار } لام الحقيقة . وقوله : { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } هو كقوله في سورة البقرة ( 20 ) { يكاد البرق يخطف أبصارهم } سوى أن هذه الآية زيد فيها لفط { سنا } لأن هذه الآية واردة في مقام الاعتبار بتكوين السحاب وإنزال الغيث فكان المقام مقتضياً للتنويه بهذا البرق وشدة ضيائه حتى يكون الاعتبار بأمرين : بتكوين البرق في السحاب . وبقوة ضيائه حتى يكاد يذهب بالأبصار . وآية البقرة واردة في مقام التهديد والتشويه لحالهم حين كانوا مظهرين الإسلام ومنطوين على الكفر والجحود فكانت حالهم كحالة الغيث المشتمل على صواعق ورعد وبرق فظاهره منفعة وفي باطنه قوارع ومصائب .
ومن أجل اختلاف المقامين وضع التعبير هنا ب { يذهب بالأبصار } وهنالك بقوله : { يخطف أبصارهم } لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في { يذهب } إذ هو مجرد الاستلاب .
وأما التعبير هنا ب { الأبصار } معرفاً باللام فلأن المقصود أن البرق مقارب أن يزيل طائفة من جنس الأبصار إذ اللام هنا لام الحقيقة كما في قوله : { أن يأكله الذئب } [ يوسف : 13 ] وقولهم : ادخل السوق ، لأن الحكم على حالة البرق الشديد من حيث هي . بخلاف آية البقرة فإنها في مقام التوبيخ لهم بأن ما شأنه أن ينتفع الناس به قد أشرف على الضر بهم فلذلك ذكر لفظ أبصار مضافاً إلى ضميرهم مع ما في هذا التخالف من تفنين الكلام الواحد على أفانين مختلفة حتى لا يكون الكلام معاداً وإن كان المعنى متحداً ولا تجد حق الإيجاز فائتاً فإن هذين الكلامين في حد التساوي في الحروف والنطق . وهكذا نرى بلاغة القرآن وإعجازه وحلاوة نظمه .
وقرأ الجمهور { يذهب } بفتح التحتية وفتح الهاء ، فالباء للتعدية ، أي يُذهب الأبصار . وقرأه أبو جعفر وحده بضم التحتية وكسر الهاء فتكون الباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر أن الله} يقول: ألم تعلم أن الله {يزجي} يعني: يسوق {سحابا ثم يؤلف بينه} يعني: يضم بعضه إلى بعض، {ثم يجعله ركاما} يعني: قطعا يحمل بعضها على إثر بعض، ثم يؤلف بينه، يعني: يضم السحاب بعضه إلى بعض بعد الركام {فترى الودق يخرج من خلاله} يقول: فترى المطر يخرج من خلال السحاب. {وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به} بالبرد {من يشاء} فيضر في زرعه وثمره، {ويصرفه عن من يشاء} فلا يضره في زرعه، ولا في ثمره {يكاد سنا برقه} يقول: ضوء برقه {يذهب بالأبصار}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"ألَمْ تَرَ" يا محمد "أنّ اللّهَ يُزْجِي "يعني: يسوق "سَحَابا" حيث يريد.
"ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ": يقول: ثم يؤلف بين السحاب... وتأليفُ الله السحاب: جمعه بين متفرّقها.
وقوله: "ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكاما" يقول: ثم يجعل السحاب الذي يزجيه ويؤلف بعضه إلى بعض "رُكاما" يعني: متراكما بعضه على بعض...
وقوله: "فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاِلِهِ" يقول: فترى المطر يخرج من بين السحاب، وهو الوَدْق...
والهاء في قوله: "مِنْ خِلالِهِ" من ذكر السحاب، والخلال: جمع خَلَل...
قال ابن زيد، في قوله: "فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ" قال: الودق: القطر، والخِلال: السحاب.
وقوله: "وَيُنَزّلُ مِنَ السّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ": قيل في ذلك قولان: أحدهما: أن معناه: وأن الله ينزل من السماء من جبال في السماء من بَرَد، مخلوقة هنالك خلقه، كأن الجبال على هذا القول، هي من بَرَد، كما يقال: جبال من طين. والقول الآخر: أن الله ينزل من السماء قَدْر جبال وأمثال جبال من بَرَد إلى الأرض، كما يقال: عندي بَيْتان تبنا. والمعنى: قدر بيتين من التبن، والبيتان ليسا من التبن.
وقوله: "فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَمّنْ يَشاءُ" يقول: فيعذّب بذلك الذي ينزل من السماء من جبال فيها من بَرَد من يشاء فيهلكه، أو يهلك به زروعه وماله، "وَيَصْرِفُهُ عَمّنْ يَشاءُ" من خلقه، يعني عن زروعهم وأموالهم.
وقوله: "يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبْصَارِ" يقول: يكاد شدّة ضوء برق هذا السحاب يذهب بأبصار من لاقى بصره. والسنا: مقصور، وهو ضوء البرق...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"فيصيب به من يشاء" في نفسه أو زرعه أو ثمره، فيضره "ويصرفه عن من يشاء" فلا تصيبه. فإن كان على هذا فهو يخرج على التعذيب. وكذلك عمل البرد يفسد في مكان، ويترك مكانا، لا يعم، ولكن يصيب مكانا، ويخطئ مكانا. وجائز أن يكون قوله: "فيصيب به من يشاء" من بركته "ويصرفه عن من يشاء" من بركته.
{ألم تر} بعين عقلك والمراد التنبيه. والإزجاء: السوق قليلا قليلا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر بذلك فتقرر ملكه وقدرته على البعث على حسب ما وعد به بعد أن تحرر ملكه، دل عليه بتصرفه في العالم العلوي والسفلي بما يدل على القدرة على الإعادة فقال: {ألم تر أن الله} أي ذا الجلال والجمال {يزجي} أي يسوق بالرياح، وسيأتي الكلام عليها في النمل؛ وقال أبو حيان: إن الإزجاء يستعمل في سوق الثقل برفق. {سحاباً} أي بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل، وتارة من العلو، ضعيفاً رقيقاً متفرقاً... والمعنى: يسوق سحابة إلى سحابة. وهو معنى {ثم يؤلف بينه} أي بين أجزائه بعد أن كانت قطعاً في جهات مختلفة {ثم يجعله ركاماً} في غاية العظمة متراكباً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة {فترى} أي في تلك الحالة المستمرة {الودق} أي المطر، قال القزاز: وقيل: هو احتفال المطر. {يخرج من خلاله} أي فتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض {وينزل من السماء} أي من جهتها مبتدئاً {من جبال فيها} أي في السماء، وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال؛ وبعض فقال: {من برد} هو ماء منعقد؛ وبين أن ذلك بإرادته واختياره بقوله: {فيصيب به} أي البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة {من يشاء} من الناس وغيرهم {ويصرفه عمن يشاء} صرفه عنه؛ ثم نبه على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النار التي ربما نزلت منها صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار فقال: {يكاد سنا} أي ضوء {برقه} وهو اضطراب النور في خلاله {يذهب} أي هو، ملتبساً {بالأبصار} لشدة لمعه وتلألئه، فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر، ونذيراً بنزول الصواعق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين؛ وفيها متعة للنظر، وعبرة للقلب، ومجال للتأمل في صنع الله وآياته، وفي دلائل النور والهدى والإيمان:...إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان. ثم تؤلف بينه وتجمعه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض. فإذا ثقل خرج منه الماء، والوبل الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة.. ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد الجبال حقا، بضخامتها، ومساقطها، وارتفاعاتها وانخفاضاتها. وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس، إلا بعد ما ركبوا الطائرات. وهذه الجبال مسخرة بأمر الله، وفق ناموسه الذي يحكم الكون؛ ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء، ويصرفه عمن يشاء.. وتكملة المشهد الضخم: (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض، على طريقة التناسق في التصوير.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ}، أي أن ضياءه الخاطف يكاد {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ}، أي يذهبها، وعبر بالباء، للدلالة على أن البريق يأخذ الأبصار مصاحبا لها، فالباء للمصاحبة. وذكر البرق ذكر للوعد، لأن البرق اصطدام سحابتين إحداهما موجبة في كهربتها، والثانية سالبة في كهربتها، فإذا احتكتا تولدت الشرارة فكان البرق، ومن هنا الاحتكاك كان صوت وهو الرعد، وهذا دليل على غزارة المطر، وكثرة انهماره
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
نواجه ثانية في هذه الآيات جانباً آخر من مسألة الخلق المدهشة، وما احتوته من آيات العلم والحكمة والعظمة، وكلّ ذلك من أدلّة توحيد ذاتِ اللهِ الطاهرة...
وأشار القرآن إلى ظاهرة أُخرى من ظواهر السماء المدهشة، وهي السحاب، حيث قال: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) أي من جبال السحب في السماء تنزل قطرات المطر على شكل ثلج وَبَرَد، فتكون بلاء لمن يريد الله عذابه فتصيب هذه الثلوج المزارع والثمار وتتلفها وقد تصيب الناس والحيوانات فتؤذيهم (فيصيب به من يشاء) ومن لم يرد تعذيبه دفع عنه هذا البلاء (ويصرفه عمن يشاء)...
وهذا يدلّ على منتهى قُدرته وعظمته إذ جَعَلَ نفع الإِنسان وضرره وموته وحياته متقارنة، بل مزج بعضها ببعض! وفي نهاية الآية يشير إلى ظاهرة أخرى من الظواهر السماوية الّتي هي من آيات التوحيد فيقول سبحانه (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)...