فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر من الآثار العلوية فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً } الإزجاء : السوق قليلاً قليلاً ، ومنه قول النابغة :

إني أتيتك من أهلي ومن وطني *** أزجي حشاشة نفس ما بها رمق

وقوله أيضاً :

أسرت عليه من الجوزاء سارية *** يزجي السماك عليه جامد البرد

والمعنى : أنه سبحانه يسوق السحاب سوقاً رقيقاً إلى حيث يشاء { ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ } أي : بين أجزائه ، فيضم بعضه إلى بعض ، ويجمعه بعد تفرّقه ليقوى ، ويتصل ، ويكثف ، والأصل في التأليف الهمز . وقرأ ورش ، وقالون عن نافع { يولف } بالواو تخفيفاً ، والسحاب واحد في اللفظ ، ولكن معناه جمع ، ولهذا دخلت «بين » عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له . قال الفراء : إن الضمير في { بينه } راجع إلى جملة السحاب ، كما تقول : الشجر قد جلست بينه ، لأنه جمع ، وأفرد الضمير باعتبار اللفظ { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي : متراكماً يركب بعضه بعضاً . والركم : جمع الشيء ، يقال : ركم الشيء يركمه ركماً أي : جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشيء ، وتراكم إذا اجتمع . والركمة : الطين المجموع ، والركام : الرمل المتراكب { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } الودق : المطر عند جمهور المفسرين ، ومنه قول الشاعر :

فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقل إبقالها

وقال امرؤ القيس :

فدمعهما ودق وسح وديمة *** وسكب وتوكاف وتنهملان

يقال : ودقت السحاب فهي : وادقة وودق المطر يدق أي : قطر يقطر ، وقيل : إن الودق البرق ، ومنه قول الشاعر :

أثرن عجاجة وخرجن منها *** خروج الودق من خلل السحاب

والأوّل أولى . ومعنى { مِنْ خِلاَلِهِ } من فتوقه التي هي مخارج القطر ، وجملة { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } في محل نصب على الحال ، لأن الرؤية هنا هي البصرية . وقرأ ابن عباس وابن مسعود والضحاك وأبو العالية " من خلله " على الإفراد . وقد وقع الخلاف في خلال : هل هو مفرد كحجاب ؟ أو جمع كجبال ؟ { وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } المراد بقوله : من سماء : من عال ، لأن السماء قد تطلق على جهة العلوّ ، ومعنى { من جبال } : من قطع عظام تشبه الجبال ، ولفظ «فيها » في محل نصب على الحال ، و«من » في { من برد } للتبعيض ، وهو مفعول ينزل . وقيل : إن المفعول محذوف ، والتقدير : ينزل من جبال فيها من برد برداً . وقيل : إن من في { من برد } زائدة ، والتقدير : ينزل من السماء من جبال فيها برد . وقيل : إن في الكلام مضافاً محذوفاً أي : ينزل من السماء قدر جبال ، أو مثل جبال من برد إلى الأرض . قال الأخفش : إن من في { من جبال } وفي { من برد } زائدة في الموضعين ، والجبال والبرد في موضع نصب أي : ينزل من السماء برداً يكون كالجبال . والحاصل أن «من » في { من السماء } لابتداء الغاية بلا خلاف ، و«من » في { من جبال } فيها ثلاثة أوجه : الأوّل لابتداء الغاية ، فتكون هي ومجرورها بدلاً من الأولى بإعادة الخافض بدل اشتمال . الثاني : أنها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الإنزال ، كأنه قال : وينزل بعض جبال . الثالث : أنها زائدة أي : ينزل من السماء جبالاً . وأما «من » في { من برد } ففيها أربعة أوجه : الثلاثة المتقدّمة . والرابع : أنها لبيان الجنس ، فيكون التقدير على هذا الوجه : وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد . قال الزجاج : معنى الآية : وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد أي : خاتم حديد في يدي ، لأنك إذا قلت : هذا خاتم من حديد ، وخاتم حديد كان المعنى واحداً . انتهى . وعلى هذا يكون { من برد } في موضع جرّ صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ، ويكون مفعول ينزل { من جبال } ، ويلزم من كون الجبال برداً أن يكون المنزل برداً . وذكر أبو البقاء أن التقدير : شيئاً من جبال ، فحذف الموصوف ، واكتفى بالصفة { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء } أي يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء } منهم ، أو يصيب به مال من يشاء ، ويصرفه عن مال من يشاء ، وقد تقدّم الكلام عن مثل هذا في البقرة . { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار } السنا : الضوء ، أي : يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالأبصار من شدّة بريقه وزيادة لمعانه ، وهو كقوله : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم } [ البقرة : 20 ] قال الشماخ :

وما كادت إذا رفعت سناها *** ليبصر ضوءها إلاّ البصير

وقال امرؤ القيس :

يضيء سناه أو مصابيح راهب *** أمال السليط في الذبال المفتل

فالسنا بالقصر : ضوء البرق ، وبالمدّ الرفعة ، كذا قال المبرّد ، وغيره . وقرأ طلحة بن مصرف ، ويحيى ابن وثاب «سناء برقه » بالمدّ على المبالغة في شدّة الضوء ، والصفاء ، فأطلق عليه اسم : الرفعة ، والشرف . وقرأ طلحة ، ويحيى أيضاً بضم الباء من برقه ، وفتح الراء . قال أحمد بن يحيى ثعلب : وهي على هذه القراءة جمع برق . وقال النحاس : البرقة المقدار من البرق ، والبرقة الواحدة . وقرأ الجحدري ، وابن القعقاع : { يذهب } بضم الياء ، وكسر الهاء من الإذهاب . وقرأ الباقون { سنا } بالقصر و { بَرْقه } بفتح الباء ، وسكون الراء ، و { يَذْهَبُ } بفتح الياء والهاء من الذهاب ، وخطأ قراءة الجحدري وابن القعقاع الأخفش وأبو حاتم . ومعنى ذهاب البرق بالأبصار : خطفه إياها من شدّة الإضاءة ، وزيادة البريق ، والباء في { بالأبصار } على قراءة الجمهور للإلصاق ، وعلى قراءة غيرهم زائدة .

/خ46