البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

الودق : المطر شديده وضعيفه .

قال الشاعر :

فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقل إبقالها

وقال أبو الأشهب العقيلي : هو البرق .

ومنه قول الشاعر :

أثرن عجاجة وخرجن منها *** خروج الودق من خلل السحاب

والودق : مصدر ودق السحاب يدق ودقاً ، ومنه استودقت الفرس .

البرد : معروف وهو قطع متجمدة يذوب منه ماء بالحرارة .

السنا : مقصور من ذوات الواو وهو الضوء .

قال الشاعر :

يضيء سناه أو مصابيح راهب***

يقال : سنا يسنو سناً ، والسنا أيضاً نبت يُتداوي به ، والسناء بالمد الرفعة والعلو قال :

وسن كسنق سناء وسنما***

ولما ذكر انقياد من في السموات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال .

وكان عقب قوله وإليه المصير فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال ومعنى { يزجي } يسوق قليلاً قليلاً ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل ، والسحاب اسم جنس واحده سحابة ، والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة .

{ ثم يؤلف بينه } أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة فجعل ذلك ملتئماً بتأليف بعض إلى بعض .

وقرأ ورش يولف بالواو ، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل .

فيجعله { ركاماً } أي متكاثفاً يجعل بعضه إلى بعض ، وانعصاره بذلك { من خلاله } أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار .

والخلال : قيل مفرد .

وقيل : جمع خلل كجبال وجبل .

وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله بالإفراد ، والظاهر أن في السماء جبالاً من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين : خلقها الله كما خلق في الأرض جبالاً من حجر .

وقيل : جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالاً كما تقول : فلان يملك جبالاً من ذهب ، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة .

قيل : أو هو على حذف حرف التشبيه .

و { السماء } السحاب أي { من السماء } التي هي جبال أي كجبال كقوله { حتى إذا جعله ناراً } أي كنار قاله الزجاج ، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه .

وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص وهو المتبادر للذهن ، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازاً قول ابن مقبل :

إذا مت عن ذكر القوافي فلن *** ترى لها شاعراً مني أطلب وأشعرا

وأكثر بيتاً شاعراً ضربت له *** بطون جبال الشعر حتى تيسرا

واتفقوا على أن { من } الأولى لابتداء الغاية .

وأما { من جبال } .

فقال الحوفي : هي بدل من { السماء } ثم قال : وهي للتبعيض ، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما دخلت عليه ، وإذ كانت الثانية بدلاً لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية ، لو قلت : خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معاً لابتداء الغاية .

وقال الزمخشري وابن عطية : هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل .

قال الحوفي والزمخشري : والثانية للبيان انتهى .

فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول { ينزل } { من جبال } .

قال الزمخشري : أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها انتهى .

فيكون { من جبال } بدلاً { من السماء } .

وقيل : { من } الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش ، وهما في موضع نصب عنده كأنه قال : وينزل من السماء جبالاً فيها أي في السماء برداً وبرداً بدل أي برد جبال .

وقال الفراء : هما زائدتان أي جبالاً فيها برد لا حصى فيها ولا حجر ، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره .

والضمير في { فيها } عائد على { الجبال } أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال .

وقيل : { من } الأولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة زائدة أي { وينزل من السماء من جبال } السماء برداً .

وقال الزجاج : معناه { وينزل من السماء من جبال } برد فيها كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي خاتم حديد في يدي ، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتم حديد كان المعنى واحداً انتهى .

فعلى هذا يكون { من برد } في موضع الصفة لجبال ، كما كان من في من حديد صفة لخاتم ، فيكون في موضع جر ويكون مفعول { ينزل } هو { من جبال } وإذا كانت الجبال { من برد } لزم أن يكون المنزل برداً .

والظاهر إعادة الضمير في { به } على البرد ، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة .

وكأنه قال : فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان .

وقرأ الجمهور { سنا } مقصوراً { برقه } مفرداً .

وقرأ طلحة بن مصرف سناء ممدوداً { بُرَقه } بضم الباء وفتح الراء جمع برقه بضم الباء ، وهي المقدار من البرق كالغرفة واللقمة ، وعنه بضم الباء والراء اتبع حركة الراء لحركة الباء كما اتبعت في { ظلمات } وأصلها السكون .

والسناء بالمدّ ارتفاع الشأن كأنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان ، فإن ذلك صيب لا يحس به بصر .

وقرأ الجمهور { يذهب } بفتح الياء والهاء وأبو جعفر { يُذْهِب } بضم الياء وكسر الهاء .

وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة أبي جعفر في هذه القراءة قالا : لأن الياء تعاقب الهمزة وليس بصواب لأنه لم يكن ليقرأ إلاّ بما روي .

وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جل الصحابة أُبيّ وغيره ، ولم ينفرد بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار .

وعلى أن الباء بمعنى من والمفعول محذوف تقديره يذهب النور من الأبصار كما قال :

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج***

يريد من برد .