وهذه الرؤية بصرية . والإزْجَاءُ : السوق قليلاً قليلاً ، ومنه البضاعة المزجاة{[35034]} التي يزجيها كل أحد ، وإزجاء السير في الإبل : الرفق بها حتى تسير شيئاً شيئاً {[35035]} .
قوله : «بَيْنَهُ » إنما دخلت «بَيْنَ » على مفرد ، وهي إنَّما تدخل على مثنى فما فوقه ، لأنَّه إما أن يُرَاد بالسحاب : الجنس ، فعاد الضمير عليه على حكمه ، وإما أن يراد حذف مضافه أي : بَيْنَ قطعِهِ ، فإن كل قطعة سحابة{[35036]} . قال{[35037]} ابن عطية : بين مُفترق السحاب ، لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً{[35038]} . وورش عن نافع لا يهمز «يُؤَلِّفُ » . وقالون عن نافع والباقون يهمزون «يُؤَلِّفُ » {[35039]} .
قوله : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي : متراكماً يركب{[35040]} بعضها على البعض ويتكاثف ، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر{[35041]} بعضه بعضاً فخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاءً ثَجَّاجاً }{[35042]} [ النبأ : 14 ] ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت :
كِلْتَاهُمَا حَلَبُ العَصِيرِ فَعَاطِنِي *** بِزُجَاجَة{[35043]} أرْ{[35044]} خَاهُمَا لِلمَفْصَلِ{[35045]}
وروي : «لِلْمِفْصَلِ » بكسر الميم وفتح الصاد . فالمَفْصَلُ : واحد المفاصل . والمِفْصَل : اللسان . وروي بالقاف . أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت ، أي : من عصير العنب ، وهذه من عصير السحاب ، نقله ابن عطية{[35046]} . وقال أهل الطبائع : إن تكوين{[35047]} السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار ، وفي الأقل من تكاثف الهواء .
أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلاً وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء ، وإن كان البخار كثيراً ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ .
فإن بلغت فإما أن يكون البرد قوياً أو لا يكون . فإن لم يكن البرد هنا قوياً تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر ، فالبخار المجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر ، والديمة{[35048]} والوابل{[35049]} إنما يكون من أمثال هذه الغيوم . وإن كان البرد شديداً فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الأجزاء{[35050]} البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد صيرورتها كذلك . فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجاً . وإن كان على الوجه الثاني نزل برداً فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة .
فإن كانت كثيرة فقد تنعقد سحاباً ماطراً ، وقد لا تنعقد . أما الأول فلأسباب خمسة :
أحدها : إذا منع{[35051]} هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة .
وثانيها : أن تكون الرياح ( ضاغطة{[35052]} ){[35053]} إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام{[35054]} الريح .
وثالثها : أن تكون هناك رياح{[35055]} متقابلة متصادمة فتعود الأبخرة حينئذ .
ورابعها : أن يعرض للبخار المتقدم وقوف{[35056]} لثقله وبطء حركته يلتص{[35057]} به سائر الأجزاء الكثيرة المدد .
وخامسها : لشدة برد الهواء القريب من الأرض ، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعوداً يسيراً حتى كأنه مكبة{[35058]} موضوعة على وَهْدَة{[35059]} ، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة ، والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون ، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس .
فإن{[35060]} كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة ، فإذا مر بها برد الليل وكثفها ، فإنها تصير ماءً محبوساً ينزل أولاً متفرقاً لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به ، فإن لم يجمد كان طلاًّ ، وإن جمد كان صقيعاً ، ونسبة الصقيع إلى الطل{[35061]} نسبة الثلج إلى المطر .
والجواب ( أنَّا دللنا على ) {[35062]} حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادراً مختاراً يمكنه إيجاد الأجسام ، فلا نقطع بما ذكرتموه ( لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه ){[35063]} وأيضاً فهب أن الأمر كما ذكرتم ، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر ، ثم إنها متماثلة ، فاختصاص كل واحد منها بصفته{[35064]} المعينة من الصعود والهبوط واللطافة{[35065]} والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص ، فإذا كان هو سبحانه خالقاً لتلك الطبائع ، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب ، وخالق السبب خالق المسبب ، فكان سبحانه هو الذي يُزْجي سحاباً ، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك{[35066]} الأبخرة من باطن الأرض إلى جو{[35067]} الهواء ، ثم تلك الأبخرة ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض ، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاماً ، فعلى جميع التقديرات توجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة{[35068]} .
قوله : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } . تقدم الخلاف في «خِلاَلِ » هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجِبَال جمع «جبل »{[35069]} ؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك - وتُرْوَى عن أبي عمرو أيضاً - «مِنْ خَلَلِهِ » بالإفراد{[35070]} وقرأ عاصم والأعرج : «يُنَزِّل » على المبالغة .
والجمهور على التخفيف{[35071]} . والوَدْق : قيل : هو المطر ضعيفاً كان أو شديداً{[35072]} ، قال :
فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا *** وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا{[35073]}
وقيل : هو البرق{[35074]} ، وأنشد :
أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا *** خُرُوجَ الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ{[35075]}
والوَدْقُ في الأصل مصدر ، يقال : «وَدَقَ السحاب يَدِقُ وَدْقاً »{[35076]} و{[35077]} «يخرُج » حال ، لأن الرؤية بصرية .
قوله : { مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } . «مِنْ » الأولى لابتداء الغاية اتفاقاً ، لأن ابتداء الإنزال من السماء . وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها{[35078]} : أنها لابتداء الغاية أيضاً فهي ومجرورها بدلٌ من الأولى بإعادة العامل ، والتقدير : ويُنَزِّلُ من جبال السماء ، أي : من جبال فيها ، فهو بدل اشتمال{[35079]} .
الثاني : أنها للتبعيض ، قاله الزمخشري{[35080]} وابن عطية{[35081]} ، لأن جنس تلك الجبال من جنس البرد ، فعلى هذا هي ومجرورها في موضع مفعول الإنزال ، كأنه قال : وينزل بعض جبال .
الثالث{[35082]} : أنها زائدة ، أي : ينزل من السماء جبالاً{[35083]} .
وقال الحوفي : ( من جبال ) بدل من الأولى ، ثم قال : «وهي للتبعيض »{[35084]} .
ورده أبو حيان بأنه لا تستقيم البدلية إلا بتوافقهما معنى ، لو قلت : خرجت من بغداد من{[35085]} الكَرْخ{[35086]} ، لم تكن الأولى والثانية إلا لابتداء الغاية{[35087]} .
وأما الثالثة ففيها أربعة أوجه :
الثلاثة المتقدمة ، والرابع : أنها لبيان الجنس ، قاله الحوفي{[35088]} والزمخشري{[35089]} . فيكون التقدير على قولهما ويُنَزِّل من السماء بعض جبال التي هي البَرَدُ ، فالمُنَزَّلُ بَردٌ{[35090]} ، لأنَّ بعض البَرَدِ بَرَدٌ ، ومفعول «يُنَزِّلُ » : هو{[35091]} مِنْ جِبَالٍ{[35092]} كما تقدم تقريره .
وقال{[35093]} الزمخشري : «أَو الأولَيَان للابتداء ، والثالثة للتبعيض »{[35094]} يعني : أنَّ الثانية{[35095]} بدلٌ من الأولى كما تقدم تقريره ، وحينئذ يكون مفعول «يُنَزِّلُ » هو الثالثة مع مجرورها{[35096]} ، التقدير : ويُنَزِّلُ بعض بردٍ من السماء من جِبَالِها . وإذا قيل بأن الثانية والثالثة زائدتان ، فهل مجرورهما في محل نصب والثاني بدلٌ من الأول ، والتقدير : ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ جِبالاً برداً ، فيكون بدل كل من كل أو بعض من كل ، أو الثاني في محل نصب مفعولاً ل «يُنَزِّل » ، والثالث{[35097]} في محل رفع على الابتداء وخبره الجار قبله ؟ خلافٌ ، الأول قول الأخفش{[35098]} ، والثاني قول الفراء{[35099]} ، وتكون الجملة على قول الفراء صفة ل «جِبَال » ، فيحكم{[35100]} على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ ، أو بالنصب اعتباراً بالمحل . ويجوز أن يكون «فِيهَا » وحده هو الوَصْفُ ، ويكون «مِنْ بَرَدٍ » فاعلاً به{[35101]} لاعتماده ، أي استقر فيها بردٌ{[35102]} . وقال الزجاج : «معناه : ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ بَرَدٍ فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي : خاتم حديد في يدي ، وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب «مِنْ » لما فَرَّقْتَ{[35103]} ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتمٌ من حديدٍ{[35104]} ، وخاتم حديدٍ ، كان المعنى واحداً »{[35105]} انتهى .
فيكون «مِنْ بَرَدِ » في موضع جرٍّ صفة ل «جِبَالٍ » كما{[35106]} كان «مِنْ حَدِيدٍ » صفة ل «خَاتم » ، ويكون مفعول : «يُنَزِّلُ » : «مِنْ جِبَالٍ » ، ويلزم من كون الجبال بَرَداً أن يكون المُنَزَّلُ بَرَداً{[35107]} .
وقال أبو البقاء : والوجه الثاني : أن التقدير : شيئاً من جبال ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة . وهذا الوجه هو الصحيح ، لأن قوله : { فِيهَا مِن بَرَدٍ } يُحوجك إلى مفعول يعود{[35108]} الضمير إليه ، فيكون تقديره : ويُنَزِّلُ مِنْ جِبَال السماء جبالاً فيها بَرَدٌ ، وفي ذلك زيادة حَذْفٍ وتقدير{[35109]} مستغنًى عنه{[35110]} . وفي كلامه نَظَرٌ ، لأن الضمير له شيءٌ يعود عليه وهو «السَّمَاء » ، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر ، لأنه مستغنى عنه ، وليس ثَمَّ مانعٌ يمنع من عوده على «السَّمَاء » .
وقوله آخراً : وتقدير{[35111]} يستغنى عنه ينافي قوله{[35112]} : وهذا الوجه هو الصحيح . والضمير في «به »{[35113]} يجوز أن يعود على البَرَدِ وهو الظاهر ، ويجوز أن يعود على الوَدْق والبَرَد معاً جرياً بالضمير مُجْرَى اسم الإشارة ، كأنه قيل : فيصيب بذلك{[35114]} ، وقد تقدم نظيره .
قال ابن عباس : أخبر الله أن في السماء جبالاً من برد ، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر المفسرين . وقيل : المراد بالسماء هو الغيم المرتفع ، سمي بذلك لسموه وارتفاعه ، وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد . وأراد بقوله : «مِنْ جِبَالٍ » : السحاب العظام ، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال كما يقال : فلان يملك جبالاً من مال ، ووصف بذلك توسعاً .
وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب ، ثم أنزل إلى الأرض . وقال بعضهم : إنما سمي ذلك الغيم جبالاً لأنه سبحانه خلقها من البرد ، وكل جسم متحجر فهو من الجبال ، ومنه قوله تعالى : { خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين }{[35115]} [ الشعراء : 184 ] . قال المفسرون : والأول أولى ، لأنَّ السماء اسم لهذا الجسم المخصوص ، فتسمية السحاب سماء{[35116]} بالاشتقاق مجاز ، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم ينزله برداً ، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء ، فلا وجه لترك الظاهر{[35117]} .
قوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ } أي : بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ } أي : يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه {[35118]} .
قوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } . العامة على قصر{[35119]} «سَنَا » وهو الضوء ، وهو من ذوات الواو ، يقال : سَنَا يَسْنُو سَناً ، أي أضاء يُضِيء{[35120]} ، قال امرؤ القيس :
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبِ{[35121]} *** . . .
والسناءُ - بالمد - : الرفعة ، قال :
( وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَنَاءً وسُنَّما{[35122]} ){[35123]} *** . . .
وقرأ ابن وثاب : «سَنَاءُ بُرَقِهِ » بالمد ، وبضم الباء{[35124]} من «بَرْقِهِ » وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضاً{[35125]} . فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس{[35126]} من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان{[35127]} . فأما «بُرَقِهِ » فجمع «بُرْقَةٍ » ، وهي المقدار من البرق ، ك «غُرْفَة وغُرَف » ، و «لُقْمَة ولُقَم »{[35128]} . وأما ضم الراء{[35129]} فإتباع{[35130]} ، ك «ظُلُمَات » بضم اللام إتباعاً لضم الظاء{[35131]} ، وإن كان أصلها السكون{[35132]} . وقرأ العامة أيضاً «يَذْهَبُ » بفتح الياء والهاء .
وأبو جعفر بضم الياء وكسر الهاء من «أَذْهَبَ »{[35133]} .
وقد خَطَّأ هذه القراءة الأخفش وأبو حاتم ، قالا : «لأنَّ الباءَ تُعَاقِبُ{[35134]} الهمزة »{[35135]} .
وليس ردُّهما بصوابٍ ، لأنَّها تَتَخرّجُ على ما خُرِّجَ ما قُرِئَ به في المتواتر : «تُنْبِتُ بالدُّهْنِ »{[35136]} من أنَّ الباء مزيدةٌ{[35137]} ، أو أنَّ المفعول محذوف والباء بمعنى «مِنْ » تقديره : يَذهب النور من الأبصار{[35138]} ، كقوله{[35139]} :
شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الحَشْرَجِ{[35140]} *** . . .
فصل{[35141]}
المعنى : يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه . واعلم أنّ البرق الذي صفته{[35142]} كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة ، والنار ضد الماء والبرد ، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد ، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر{[35143]} حكيم{[35144]} .