المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

«الرؤية في هذه الآية رؤية عين والتقدير أن أمر الله وقدرته ، و { يزجي } معناه يسوق ، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل ومدافعته كالسحاب والإبل المزاحف كما قال الفرزدق » على مزاحيف تزجيها مخارير{[8738]} « ، والبضاعة المزجاة التي تحتاج من الشفاعة والتحسين إلى ما هو كسوق الثقيل ، ومنه قول حبيب في الشيب ، » ونحن نزجيه « ، وسيبويه أبداً يقول في كلامه فأنت تزجيه إلى كذا أي تسوقه ثقيلاً متباطئاً ، وقوله { يؤلف بينه } أي بين مفترق السحاب نفسه لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً ، وهذا كما تقول جلست بين الدور ولو أضيفت » بين «إلى مفرد لم يصح إلا أن تريد آخر ، لا تقول جلست بين الدار إلا أن تريد وبين كذا{[8739]} ، وورش عن نافع لا يهمز » يولف «وقالون عن نافع والباقون يهمزون » يؤلف «وهو الأصل ، و » الركام «الذي يركب بعضه بعضاً ويتكاثف ، والعرب تقول إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج { الودق } منه ومن ذلك قوله تعالى : { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً }{[8740]} [ النبأ : 14 ] ومن ذلك قول حسان بن ثابت : [ الكامل ]

كلتاهما حلب العصير . . . فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل{[8741]}

ويروى للمِفصل بكسر الميم وبفتح الصاد ، فالمِفصل واحد المفاصيل والمفصل اللسان{[8742]} ويروى بالقاف ، أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت به أي هذه من عصر العنب وهذه من عصر السحاب ، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبد الله بن الحسن العنبري للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان ، و { الودق } المطر ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]

فلا مزنة ودقت ودقها . . . ولا أرض أبقل إبقالها{[8743]}

وقرأ جمهور الناس » من خلاله «وهو جمع خلل كجبل وجبال ، وقرأ ابن عباس والضحاك » من خلله « ، وقرأ عاصم والأعرج » وينزّل «على المبالغة والجمهور على التخفيف ، وقوله { من جبال فيها من برد } قيل تلك حقيقة وقد جعل الله تعالى في السماء جبالاً { من برد } وقالت فرقة ذلك مجاز وإنما أراد وصف كثرته وهذا كما تقول عند فلان جبال من المال وجبال من العلم أي في الكثرة مثل الجبال ، وحكي عن الأخفش تقديره زيادة { من } في قوله : { من برد } وهو قول ضعيف ، و { من } في قوله { من السماء } في لابتداء الغاية ، وفي قوله { من الجبال } هي للتبعيض ، وفي قوله { من برد } هي لبيان الجنس ، و » السنا «مقصور ، الضوء والسناء ، ممدود ، المجد والارتفاع في المنزلة ، وقرأ الجمهور » سنا «بالقصر ، وقرأ طلحة بن مصرف » سناء «بالمد والهمز .

وقرأ طلحة أيضاً «بُرَقةَ » بضم الباء وفتح الراء وهي جمع «بُرْقة » بضم الباء وسكون الراء فعلة وهي القدر من البرق كلقمة ولقم وغرفة وغرف ، وقرأ الجمهور «يَذهب » بفتح الياء ، وقرأ أبو جعفر «يُذهب » بضمها من أذهب كأن التقدير يذهب النفوس بالأبصار نحو قوله { ينبت بالدهن }{[8744]} [ المؤمنون : 20 ] ويحتمل أن يكون مثل قوله { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم }{[8745]} [ الحج : 25 ] فالباء زائدة دالة على فعل يناسبها ثم اقتضت لفظ الآية الإخبار عن تقبله الليل والنهار والإتيان بهذا بعد هذا دون توطئة هو الذي تعجز عنه الفصحاء حتى يقع منهم التخليق في الألفاظ والتوطئة بالكلام وباقي الآية بين .


[8738]:هذا عجز بيت قاله الفرزدق من قصيدة له يمدح فيها يزيد بن عبد الملك، ويهجو يزيد بن المهلب، والبيت بتمامه مع بيت قبله: مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور على عمائمنا يلقى وأرحلنا على مزاحف نزجيها محاسير والبيتان في اللسان، والرواية فيه وفي الديوان: "على زواحف"، والحاصب: الريح الشديدة تحمل الحصباء، والزواحف: النيقان التي أصابها التعب والإعياء، يقال: ناقة زحوف من إبل زحف، وناقة مزحاف من إبل مزاحيف ومزاحف، وتزجي: تسوق وتدفع دفعا رفيقا، وهو موضع الشاهد هنا، وفي الحديث الشريف (كان يتخلف في السير فيزجي الضعيف)، أي يسوقه ليلحق بالرفاق، والفرزدق يصور هنا رحيله مع صحبه إلى يزيد بن عبد الملك في شمال الشام، والريح ترميمهم بالثلج المتساقط كأنه نديف القطن، وهو يتناثر على عمائمهم وأرحلهم، وهم يقومون بهذه الرحلة على إبل تزحف من شدة الإعياء والتعب فيسوقونها سوقا رفيقا رحمة بها.
[8739]:وقيل: إن [بينه] في الآية لجماعة السحاب، كما تقول: هذا الشجر قد جلست بينه؛ لأنه جمع، وتذكير الكناية يأتي تبعا للفظ، قال الفراء في (معاني القرآن): هو واحد في اللفظ ومعناه جمع؛ ألا ترى قوله {ينشئ السحاب الثقال}؟ ألا ترى أن واحدته سحابة، فإذا ألقيت الهاء كان بمنزلة نخلة ونخل وشجرة وشجر، وأنت قائل: فلان بين الشجر وبين النخل".
[8740]:الآية (14) من سورة (النبأ).
[8741]:هذا البيت من قصيدة حسان التي تقول في مطلعها: "أسألت رسم الدار أم لم تسأل"، وقبل هذا البيت يقول في وصف الخمر: إن التي ناولتني فرددتها قتلت، قتلت، فهاتها لم تقتل وقد ورد بيت الشاهد هنا في لسان العرب بروايتين، إحداهما كما هنا، والثانية تقول: (كلتاهما عرق الزجاجة فاسقني)، والضمير في (كلتاهما) راجع إلى النوعين اللذين ذكرهما في البيت السابق، التي قتلت ـ أي مزجت بالماء فخفت حدتها ـ والتي لم تقتل، والعصير: ما تعصر من الشيء أو تحلب منه عند عصره. والحلب: المحلوب، وحلب العصير: الخمر، يطلب منه أن يقدم له خمرا خالصة غير ممزوجة لأنها هي التي تؤثر فيه.
[8742]:ذكر ذلك صاحب اللسان واستشهد عليه ببيت حسان هذا، ثم ذكر أن في الصحاح: المفصل ـ بكسر الميم ـ هو اللسان، وأنشد ابن بري هذا البيت شاهدا على ذلك، ومعنى هذا أنه ضبطه بالكسر للميم.
[8743]:هذا البيت لعامر بن جوين الطائي، وهو في اللسان (ودق)، وقد استشهد به على أن الودق: المطر كله شديده وهينه، وأنه يقال: ودق يدق ودقا، والمزن: السحاب عامة، وقيل: السحابة البيضاء، وقيل: السحاب الممطر، وأبقل إبقالها: أنبتت البقل، ولم يقل أبقلت لأن تأنيث الأرض ليس بتأنيث حقيقي، وقيل: إن هذا إذا أسند الفعل للظاهر نحو طلعت الشمس وطلع الشمس، أما إذا أسند للضمير فيستوي فيه الحقيقي والمجازي ويتعين التأنيث نحو: الشمس طلعت، ولا يجوز: الشمس طلع، وهذا البيت شاذ أو مؤول، نص على ذلك النحويون.
[8744]:من الآية (20) من سورة (المؤمنون)، وقد قيل فيها إن الباء زائدة على قراءة [تنبت] بضم الباء، فيكون التقدير: تنبت الدهن، وقيل: إن التقدير: تنبت جناها ومعه الدهن، فالمفعول محذوف، راجع تفسير هذه الآية في هذا الجزء صفحة (343).
[8745]:من الآية (25) من سورة (الحج).