المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

24 - فأتاهم العذاب في صورة سحاب ، فلما رأوه ممتداً في الأفق متوجهاً نحو أوديتهم ، قالوا فرحين : هذا سحاب يأتينا بالمطر والخير . فقيل لهم : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب شديد الألم ، تهلك كل شئ بأمر خالقها ، فدمرتهم فأصبحوا لا يرى من آثارها إلا مساكنهم . كذلك الجزاء نجزى كل من ارتكب مثل جرمهم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

{ تُدَمِّرُ } أي : تخرب { كُلِّ شَيْءٍ } من بلادهم ، مما من شأنه الخراب { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : بإذن الله لها في ذلك ، كقوله : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [ الذاريات : 42 ] أي : كالشيء البالي . ولهذا قال : { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ } أي : قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية ، { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } أي : هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا ، وخالف أمرنا .

وقد ورد حديث في قصتهم وهو غريب جدًا من غرائب الحديث وأفراده ، قال الإمام أحمد :

حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي قال : حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمررت بالرَبْذَة ، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله ، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال : فحملتها فأتيت بها المدينة ، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس ؟ قالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها . قال : فجلست ، فدخل منزله - أو قال : رحله - فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، فقال : " هل كان بينكم وبين تميم شيء ؟ قلت : نعم ، وكانت لنا الدبرة{[26449]} عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع ، بها فسألتني أن أحملها إليك ، وها هي بالباب : فأذن لها فدخلت ، فقلت : يا رسول الله ، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء ، فحميت العجوز واستوفزت ، وقالت : يا رسول الله ، فإلى أين يضطر مضطرك ؟ قال : قلت : إن مثلي ما قال الأول : " مِعْزَى حَمَلَت حَتْفَها " ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما ، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد . قال : " هيه ، وما وافد عاد ؟ " - وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه{[26450]} - قلت : إن عادًا قحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له : قَيل ، فمر بمعاوية بن بكر ، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما " الجرادتان " - فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مَهْرة فقال : اللهم ، إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه ، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه . فمرت به سحابات سود ، فنودي منها : " اختر " ، فأومأ إلى سحابة منها سوداء ، فنودي منها : " خذها رمادًا رمددًا {[26451]} ، لا تبقي من عاد أحدا " . قال : فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا ، حتى هلكوا - قال أبو وائل : وصدق - وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا : " لا تكن كوافد عاد " .

رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، كما تقدم في سورة " الأعراف " {[26452]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو : أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة{[26453]} أنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكا حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم . قالت : وكان{[26454]} إذا رأى غيما - أو ريحا - عرف ذلك في وجهه ، قالت : يا رسول الله ، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ؟ فقال : " يا عائشة ، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا " . وأخرجاه{[26455]} من حديث ابن وهب {[26456]} .

طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ، ترك عمله ، وإن كان في صلاته ، ثم يقول : " اللهم ، إني أعوذ بك من شر ما فيه " {[26457]} . فإن كشفه الله حمد الله ، وإن أمطرت قال : " اللهم ، صيبا نافعا " {[26458]} .

طريق أخرى : قال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو الطاهر ، أخبرنا ابن وهب ، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : " اللهم ، إني أسألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به " . قالت : وإذا تَخَيَّلت السماء تغير لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سري عنه ، فعرفت ذلك عائشة ، فسألته ، فقال : " لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } {[26459]} .

وقد ذكرنا قصة هلاك عاد{[26460]} في سورتي " الأعراف وهود " {[26461]} بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة .

وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا إسماعيل بن زكريا الكوفي ، حدثنا أبو مالك ، عن مسلم الملائي ، عن مجاهد وسعيد بن جبير{[26462]} ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فتح على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم ، ثم أرسلت عليهم [ فحملتهم ] البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا : هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا . وكان أهل البوادي فيها ، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا . قال : عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الأبواب{[26463]} " {[26464]} .


[26449]:- (4) في ت، أ: "الدائرة".
[26450]:- (5) في أ: "يستعظمه".
[26451]:- (1) في ت: "رمدا".
[26452]:- (2) المسند (3/482) وانظر تخريج بقية هذا الحديث عند الآية: 73 من سورة الأعراف.
[26453]:- (3) في ت: "عائشة رضي الله عنها".
[26454]:- (4) في ت، م: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[26455]:- (5) في ت: "أخرجه".
[26456]:- (6) المسند (6/66) وصحيح البخاري برقم (4828، 4829) وصحيح مسلم برقم (899).
[26457]:- (7) في م: "من سوء عاقبته".
[26458]:- (8) المسند (6/190).
[26459]:- (9) صحيح مسلم برقم (899).
[26460]:- (10) في ت، م، أ: "هلاك قوم عاد".
[26461]:- (11) راجع قصة هلاك قوم عاد عند تفسير الآيات: 65 - 72 من سورة الاعراف والآيات: 50 - 60 من سورة هود.
[26462]:- (1) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
[26463]:- (2) في ت: "البيوت".
[26464]:- (3) المعجم الكبير (12/42)، قال الهيثمي في المجمع (7/113): "فيه مسلم الملائي وهو ضعيف".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

و : { تدمر } معناه : تهلك . والدمار : الهلاك ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]

وكان لهم كبكر ثمود لمّا . . . رغا دهراً فدمرهم دمارا{[10320]}

وقوله : { كل شيء } ظاهره العموم ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره ، وروي أن هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر .

وقرأ جمهور القراء : { لا ترى إلا مساكنهم }{[10321]} ، أي لا ترى أيها المخاطب . وقرأ عاصم وحمزة : «لا يُرى » بالياء على بناء الفعل للمفعول «مساكنُهم » رفعاً . التقدير : لا يرى شيء منهم ، وهذه قراءة ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن بخلاف عنه ، ومجاهد وعيسى وطلحة{[10322]} . وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجحدري وقتادة وعمرو بن ميمون والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ومالك بن دينار بغير خلاف عنهما خاصة ممن ذكر{[10323]} : «لا تُرى » بالتاء منقوطة من فوق مضمومة «مساكُنهم » رفعاً ، ورويت عن ابن عامر ، وهذا نحو قول ذي الرمة : [ البسيط ]

كأنه جمل وهم وما بقيت . . . إلا النحيزة والألواح والعصب{[10324]}

ونحو قوله : [ الطويل ]

فما بقيت إلا الضلوع الجراشع . . . {[10325]}

وفي هذه القراءة استكراه{[10326]} . وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني : إلا مسكنهم «على الإفراد الذي هو اسم الجنس ، والجمهور على الجمع في اللفظة ، ووجه الإفراد تصغير الشأن وتقريبه كما قال تعالى : { ثم يخرجكم طفلاً }{[10327]} [ غافر : 67 ] .


[10320]:هذا البيت ليس لجرير، ولم أجده في ديوانه، ثم وجدته في ديوان الفرزدق، وهو من قصيدة له يرد بها على جرير ويناقضه، يقول الفرزدق في مطلع هذه القصيدة: جرّ المخزيات على كُليب جرير ثم ما منع الذمارا وكان لهم كبكر ثمود لما رغا ظهرا فدمرهم دمارا عوى فأثارا أغلب ضيغما فويل ابن المراغة ما استثارا يصفه بأنه جلب الفضائح لأهله، وعجز عن حمايتهم، وكان لهم نذير سوء، ويقول: إن شعر جرير يثيرني على كليب فأدمرهم كما أن رُغاء ابن ناقة ثمود أتاهم بالدمار والهلاك.
[10321]:أي بالتاء المفتوحة في [ترى] وبالنصب في [مساكنهم].
[10322]:اختلف النسخ في الفقرة التي وضعناها بين العلامتين[......]، فهي في بعض النسخ عقب قراءة حمزة وعاصم، وهي في بعضها الآخر عقب قراءة الجمهور، والله أعلم بالصواب.
[10323]:الذي في الأصل"يعني بخلاف عنهما"، والتصويب عن(المحتسب) لابن جني، فقد قال:"واختلف عن الكل إلا أبا رجاء، ومالك بن دينار"، وهي جملة صريحة في المعنى الذي أثبتناه.
[10324]:هذا البيت في وصف الناقة، وهو في الديوان، وفي لسان العرب-وهم-، والذي في الأصول هنا"كأنه"، والصواب ما أثبتناه لأن الكلام كما قلنا في وصف الناقة، والوهم: الجبل الضخم العظيم، قال ذلك في اللسان، وقال أيضا: وقيل: هو من الإبل الذلول المنقاد مع ضِخم وقوة، والجمع أوهام ووهوم وَوُهوم ووُهُم، والنحيزة: هَنَة من الشعر عرضها شبر يعلقونها على الهودج يزينونه بها، وربما رقموها بالعهن، وقيل هي مثل الحزام بيضاء. أو هي النِّسع، وهو سير مضفور يُجعل زماما للبعير، وقد تنسج هذه الضفيرة عريضة وتُجعل على صدر البعير، والألواح: جمع لوح وهو كل عظم عريض. والعَصَب: ما يشد إلا العظم والعصب والنِّسع، والشاهد في البيت هو التأنيث في الفعل"بقيت" مع أنه ضعيف في العربية، والأفصح التذكير، يقال: ما ضرب إلا هند، وما قام إلا فاطمة، ولا يقال: "ما ضربت إلا هند وما قامت إلا فاطمة" إلا على ضعف، وعليه جاء قول ذي الرمة.
[10325]:هذا عجز بيت لذي الرمة أيضا، والبيت بتمامه: برى النحز والأجرال ما في غروضها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع ويروى"طوى النحز" بدلا من "برى النحز"، و"الأجراز" بدلا من "الأجرال"، و"الصدور" بدلا من "الضلوع"، والنحز: النخس بالقدم، أو الضرب والركل بها، والأجرال: جمع جرل-بالتحريك-: المكان الصلب الغليظ الشديد الكثير الحجارة، أما الأجراز فجمع جرز، وهي الأرض التي لا تنبت، والغُروض: جمع غرض- كسهم- وهو للرحل كالحزام للسرج، والجراشع: جمع جرشع وهو العظيم الغليظ، وقيل: الطويل. والشاهد هو تأنيث الفعل في (بقيت) على ضعف
[10326]:ذلك لأن الفصيح من الكلام أن يُذكر الفعل قبل إلا في مثل قولنا"ما قام إلا فاطمة"؛ لأن الكلام محمول على معناه، أي ما قام أحد إلا فاطمة، فلما كان هذا هو المراد ذكّر الفعل لفظا للدلالة على ذلك، وقد خالفت هذه القراءة بالرفع الفصيح فكان هذا الاستكراه الذي ذكره ابن عطية، ومثل هذا يقال في قراءة أبي جعفر ومعاذ بن الحارث:{إن كانت إلا صيحة واحدة} بالرفع في [صيحة].
[10327]:من الآية(67) من سورة (غافر)، والمراد في هذه الآية: نخرجكم أطفالا، ولكن حسن لفظ هنا لأنه موضع لتصغير شأن الإنسان وتحقير أمره، فلاق به ذكر الواحد القليل عن الجماعة، وكذلك حسُن في آيتنا هذه لفظ الواحد في المسكن لأن الموضع موضع تحقير لهم وتصغير لشأنهم.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

و { كل شيء } مستعمل في كثرة الأشياء فإن ( كُلاَّ ) تأتي كثيراً في كلامهم بمعنى الكثرة . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ولو جاءتهم كل آية } في سورة يونس ( 97 ) .

والمعنى : تدمر ما من شأنه أن تُدمره الريح من الإنسان والحيوان والديار .

وقوله : { بأمر ربها } حال من ضمير { تدمر } . وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كلَّ شيء ، أي تدميراً عجيباً بسبب أمر ربها ، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية . وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرّة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين .

{ فأصبحوا } أي صاروا ، وأصبح هنا من أخوات صار . وليس المراد : أن تدميرهم كان ليلاً فإنهم دمّروا أياماً وليالي ، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلاً .

والخطاب في قوله : { لا ترى } لمن تتأتّى منه الرؤية حينئذٍ إتماماً لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة .

والمراد بالمساكن : آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها . والمعنى : أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم .

وقوله : { كذلك نجزي القوم المجرمين } أي مثل جزاء عاد نجزي القوم المجرمين ، وهو تهديد لمشركي قريش وإنذار لهم وتوطئة لقوله : { ولقد مكناهم فيما إن مكَّنَّاكم فيه } [ الأحقاف : 26 ] .

وقرأ الجمهور { لا ترى } بالمثناة الفوقية مبنياً للفاعل وبنصب { مساكنهم } وقرأه عاصم وحمزة وخلف بياء تحتية مبنياً للمجهول وبرفع { مساكنُهم } وأجرى على الجمع صيغة الغائب المفرد لأن الجمع مستثنى ب { إلاّ } وهي فاصلة بينه وبين الفعل .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله "تُدَمّرُ كُلّ شَيء بأَمْرِ رَبّهَا": يقول تعالى ذكره: تخرّب كلّ شيء، وترمي بعضه على بعض فتهلكه...

وإنما عنى بقوله: "تُدّمّرُ كُلّ شيْءٍ بأمْرِ رَبها "مما أرسلت بهلاكه، لأنها لم تدمر هودا ومن كان آمن به...

وقوله: "فَأصْبَحُوا لا يُرَى إلاّ مَساكِنُهُمْ" يقول: فأصبح قوم هود وقد هلكوا وفنوا، فلا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها...

وقوله: "وكَذَلكَ نَجْزِي القَوْمَ المجرِمينَ" يقول تعالى ذكره: كما جزينا عادا بكفرهم بالله من العقاب في عاجل الدنيا، فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزي القوم الكافرين بالله من خلقنا، إذ تمادوا في غيهم وطَغَوا على ربهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ثم وصف ذلك الريح، فقال: كما أخبر الله تعالى بقوله عز وجل: {تُدمِّر كل شيء بأمر ربها} يخرّج قوله: {تُدمِّر كل شيء بأمر ربها} على وجهين:

أحدهما: {تدمّر كل شيء} أُرسلَت، وأُمرَت بتدميره، لا تُجاوز أمر ربها، ولا تدمّر ما لم تُرسَل، وتُؤمَر بتدميره...

.ألا ترى أنها لا تُدمّر هودا وأتباعه، وهم فيهم، وبقرب منه؟...

{فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم} في ظاهر هذه الآية أنها قد أبقت مساكنهم، ولم تُدمّرها...

قال بعضهم: إنهم لمّا التجأوا إلى مساكنهم، وهربوا منها، كانت تدخل الريح مساكنهم، وتُخرِجهم منها، فتلقيهم في صحاريهم وأفنيتهم موتى...

فدل ما ذكرنا أنها لم تجاوز أمر ربها في الإهلاك، والله أعلم...

{كذلك نجزي القوم المجرمين} كأن المجرم هو الذي يُديم اكتساب الجرم والإثم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{تُدَمِّرُ كُلَّ شيء} تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير، فعبر عن الكثرة بالكلية. فإن قلت: ما فائدة إضافة الرب إلى الريح؟ قلت: الدلالة على أن الريح وتصريف أعنتها مما يشهد لعظم قدرته، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده. وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وجل يعضد ذلك ويقوّيه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله تعالى: {كذلك نجزي القوم المجرمين} والمقصود منه تخويف كفار مكة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{تدمر} أي تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً سريعاً تأتي بغتة على طريق الهجوم {كل شيء} أي أتت عليه-، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه الصلاة والسلام ومن آمن به رضي الله عنهم فسلامته أمر خارق للعادة كما أن أمرها في إهلاك كل ما مرت عليه أمر خارق للعادة...

{بأمر ربها} أي المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام بها من أعدائه. ولما ذكرها بهذا الذكر الهائل، وكان التقدير: جاءتهم فدمرتهم لم تترك منهم أحداً، سبب عن ذلك زيادة في التهويل قوله: {فأصبحوا} ولما اشتد إصغاء السامع إلى كيفية إصباحهم، قال مترجماً لهلاكهم: {لا ترى} أي أيها الرائي، فلما عظمت روعة القلب وهول النفس قال تعالى: {إلا مساكنهم} أي جزاء على إجرامهم، فانطبقت العبارة على المعنى، وعلم أن المراد بالإصباح مطلق الكون، ولكنه عبر به لأن المصيبة فيه أعظم، وعلم أنه لم يبق من المكذبين ديار ولا نافخ نار، وهذا كناية عن عموم الهلاك...

{كذلك} أي مثل هذا الجزاء الهائل في أصله أو جنسه أو نوعه أو شخصه من الإهلاك {نجزي} بعظمتنا دائماً إذا شئنا {القوم} وإن كانوا أقوى ما يكون {المجرمين *} أي العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل فيصلون ما حقه القطع، وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع، فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والنص القرآني يصور الريح حية مدركة مأمورة بالتدمير: (تدمر كل شيء بأمر ربها) وهي الحقيقة الكونية التي يحفل القرآن بإشعارها للنفوس. فهذا الوجود حي. وكل قوة من قواه واعية. وكلها تدرك عن ربها وتتوجه لما تكلف به من لدنه...

وقد أدت الريح ما أمرت به، فدمرت كل شيء (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم).. أما هم وأما أنعامهم وأما أشياؤهم وأما متاعهم فلم يعد شيء منه يرى. إنما هي المساكن قائمة خاوية موحشة، لا ديار فيها ولا نافخ نار.. (كذلك نجزي القوم المجرمين).. سنة جارية وقدر مطرد في المجرمين...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والخطاب في قوله: {لا ترى} لمن تتأتّى منه الرؤية حينئذٍ إتماماً لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة. وقوله: {بأمر ربها} حال من ضمير {تدمر}. وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كلَّ شيء، أي تدميراً عجيباً بسبب أمر ربها، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية. وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرّة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين. {فأصبحوا} أي صاروا، وأصبح هنا من أخوات صار. وليس المراد: أن تدميرهم كان ليلاً فإنهم دمّروا أياماً وليالي، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلاً. والمراد بالمساكن: آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها. والمعنى: أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

{تدمر كل شيء بأمر ربها}، إشارة إلى أن الظواهر الكونية على اختلافها – والريح من جملتها- إنما هي كائنات مسخرة بأمر الله، لا تتحرك إلا وفق مراده، طبقا لنواميس كونية معلومة، ولا تنفذ إلا خططا إلهية مرسومة...