ذكر[ تعالى ]{[7448]} الحال الأول ، وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة ، ثم ذكر الحال الثاني وهو : إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا }
قال الفقهاء : إذا وقع الشقاق بين الزوجين ، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ، ينظر في أمرهما ، ويمنع الظالم منهما من الظلم ، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما ، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة ، وثقة من قوم الرجل ، ليجتمعا وينظرا في أمرهما ، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق{[7449]} وتَشَوف الشارع إلى التوفيق ؛ ولهذا قال : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله عز وجل ، أن يبعثوا رجلا صالحًا من أهل الرجل ، ورجلا مثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء ، فإن كان الرجل هو المسيء ، حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة ، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة . فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا ، فأمرهما جائز . فإن رأيا أن يجمعا ، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ، ثم مات أحدهما ، فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما ، وقال لهما : إن رأيتما أن تُجْمَعا جُمِعْتُما ، وإن رأيتما أن تُفَرَّقا فُرَّقْتما{[7450]} .
وقال : أنبأنا ابن جريج ، حدثني ابن أبي مليكة ، أن عَقيل بن أبي طالب تَزَوَّج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت : تصير إليَّ{[7451]} وأنفق عليك . فكان إذا دخل عليها قالت : أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ؟ قال : على يسارك في النار إذا دخلت . فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان ، فذكرت له ذلك{[7452]} فضحك وأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرِّقَن بينهما . فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف . فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها ، مع كل واحد منهما فِئَام من الناس ، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما ، فقال علي للحَكَمَين : أتدريان ما عليكما ؟ إن عليكما ؟ إن رأيتما أن تجمعا ، جمعتما . فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعَليّ . وقال الزوج : أما الفرقة فلا . فقال علي : كذبت ، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله ، عز وجل ، لك وعليك .
رواه ابن أبي حاتم ، ورواه ابن جرير ، عن يعقوب ، عن ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، مثله . ورواه من وجه آخر ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، به{[7453]} .
وهذا مذهب جمهور العلماء : أن الحكمين إليهما الجمع والتفرقة ، حتى قال إبراهيم النخعي : إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا . وهو رواية عن مالك .
وقال الحسن البصري : الحكمان يحكمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق ، وكذا قال قتادة ، وزيد بن أسلم . وبه قال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وداود ، ومأخذهم قوله تعالى : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } ولم يذكر التفريق .
وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين ، فإنه يُنَفَّذُ حكمهما{[7454]} في الجمع والتفرقة بلا خلاف .
وقد اختلف الأئمة في الحكمين : هل هما منصوبان من عند الحاكم ، فيحكمان وإن لم يرض الزوجان ، أو هما وكيلان من جهة الزوجين ؟ على قولين : فالجمهور على الأول ؛ لقوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } فسماهما حكمين ، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه ، وهذا{[7455]} ظاهر الآية ، والجديدُ من مذهب الشافعي ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .
الثاني منهما ، بقول علي ، رضي الله عنه ، للزوج - حين قال : أما الفرقة فلا - قال : كذبت ، حتى تقر بما أقرت به ، قالوا : فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج ، والله أعلم .
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : وأجمع العلماء على أن الحكمين - إذا اختلف قولهما - فلا عبرة بقول الآخر ، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان ، واختلفوا : هل ينفذ قولهما في التفرقة ؟ ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها{[7456]} أيضا{[7457]} .
قسمت هذه الآية النساء تقسيماً عقلياً ، لأنها إما طائعة ، وإما ناشزة ، والنشز إما من يرجع إلى الطواعية ، وإما من يحتاج إلى الحكمين ، واختلف المتأولون أيضاً في الخوف ها هنا حسب ما تقدم ، ولا يبعث الحكمان إلا مع شدة الخوف ، و «الشقاق » : مصدر شاق يشاق ، وأجري «البين » مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية ، إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما وصحبتهما ، وهذا من الإيجاز الذي يدل فيه الظاهر على المقدر ، واختلف من المأمور ب «البعثة » ، فقيل : الحاكم ، فإذا أعضل على الحاكم أمر الزوجين ، وتعاضدت عنده الحجج ، واقترنت الشبه ، واغتم وجه الإنفاذ على أحدهما ، بعث حكمين من الأهل ليباشرا الأمر ، وخص الأهل لأنهم مظنة العلم بباطن الأمر ، ومظنة الإشفاق بسبب القرابة ، وقيل : المخاطب الزوجان وإليهما تقديم الحكمين ، وهذا في مذهب مالك ، والأول لربيعة وغيره{[4011]} .
واختلف الناس في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان ، فقال الطبري : قالت فرقة : لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرحا بتقديمهما عليه ، ترجم بهذا ثم أدخل عن علي غيره ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : ينظر الحكمان في الإصلاح ، وفي الأخذ والإعطاء ، إلا في الفرقة فإنها ليست إليهما ، وقالت فرقة : ينظر الحكمان في كل شيء ، ويحملان على الظالم ، ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق ، وهذا هو مذهب مالك والجمهور من العلماء ، وهو قول علي بن أبي طالب في المدونة وغيرها ، وتأول الزجّاج عليه غير ذلك ، وأنه وكل الحكمين على الفرقة ، وأنها للإمام ، وذلك وهم من أبي إسحاق{[4012]} .
واختلف المتأولون في من المراد بقوله : { إن يريدا إصلاحاً } فقال مجاهد وغيره : المراد الحكمان ، أي إذا نصحا وقصدا الخير بورك في وساطتهما ، وقالت فرقة : المراد الزوجان ، والأول أظهر ، وكذلك الضمير في { بينهما } ، يحتمل الأمرين والأظهر أنه للزوجين ، والاتصاف ب «عليم خبير » يشبه ما ذكر من إرادة الإصلاح .