وقوله : { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات ، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم ، وأنه كل يوم هو في شأن .
قال الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، قال : من شأنه أن يجيب داعيا ، أو يعطي سائلا أو يفك عانيا ، أو يشفي سقيما .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كل يوم هو يجيب داعيا ، ويكشف كربا ، ويجيب مضطرا ويغفر ذنبا .
وقال قتادة : لا يستغني عنه أهل السموات والأرض ، يحيي حيا ، ويميت ميتا ، ويربي صغيرا ، ويفك أسيرا ، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ، ومنتهى شكواهم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان الحِمْصيّ ، حدثنا حرير بن عثمان ، عن سُوَيْد بن جبلة - هو الفزاري - قال : إن ربكم كل يوم هو في شأن ، فيعتق رقابا ، ويعطي رغابا ، ويقحم عقابا .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغُزّي ، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي ، حدثني عمرو بن بكر السَّكْسكي {[27871]} ، حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني ، عن أبيه ، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي ، عن أبيه قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، فقلنا : يا رسول الله ، وما ذاك الشأن ؟ قال : " أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين{[27872]} " {[27873]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، وسليمان بن أحمد الواسطي قالا حدثنا الوزير {[27874]} بن صَبِيح الثقفي أبو روح الدمشقي - والسياق لهشام - قال : سمعت يونس بن ميسرة بن حَلْبَس ، يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } قال : " من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين {[27875]} " {[27876]} .
وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة ، عن هشام بن عمار ، به . ثم ساقه من حديث أبي همام الوليد بن شجاع ، عن الوزير بن صَبِيح قال : ودلنا عليه الوليد بن مسلم ، عن مُطرِّف ، عن الشعبي ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . قال : والصحيح الأول . يعني إسناده الأول{[27877]} .
قلت : وقد روي موقوفا ، كما{[27878]} علقه البخاري بصيغة الجزم ، فجعله من كلام أبي الدرداء {[27879]} ، فالله أعلم .
وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن الحارث ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن أبيه عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، قال : " يغفر ذنبا ، ويكشف كربا " {[27880]} .
ثم قال ابن جرير : وحدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي حمزة الثُّمَالي ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، أن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء ، دفّتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور ، وكتابه نور ، عرضه ما بين السماء والأرض ، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة ، يخلق في كل نظرة ، ويحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء{[27881]} .
يسأله من في السموات والأرض فإنهم مفتقرون إليه في ذواتهم وصفاتهم وسائر ما يهمهم ويعن لهم المراد بالسؤال ما يدل على الحاجة إلى تحصيل الشيء في ذواتهم وصفاتهم نطقا كان أو غيره كل يوم هو في شأن كل وقت يحدث أشخاصا ويحدد أحوالا على ما سبق به قضاؤه وفي الحديث من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين وهو رد لقول اليهود إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا .
{ يَسْأَلُهُ مَن فِى السماوات والأرْض } .
استئناف ، والمعنى أن الناس تنقرض منهم أجيال وتبقى أجيال وكلُ باققٍ محتاج إلى أسباب بقائه وصلاح أحواله فهم في حاجة إلى الذي لا يفنى وهو غير محتاج إليهم . ولما أفضى الإِخبار إلى حاجة الناس إليه تعالى أتبع بأن الاحتياج عام أهل الأرض وأهل السماء . فالجميع يسألونه ، فسؤال أهل السماوات وهم الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ويسألون رضى الله تعالى ، ومَنْ في الأرض وهم البشر يسألونه نعم الحياة والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات في الآخرة . وحذف مفعول { يسئله } لإِفادة التعميم ، أي يسألونه حوائجهم ومهامهم من طلوع الشمس إلى غروبها .
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَانٍ } .
يجوز أن تكون الجملة حالاً من ضمير النصب في { يسئله } أو تذييلاً لجملة { يسئله من في السموات والأرض } ، أي كلّ يوم هو في شأن من الشؤون للسائلين وغيرهم فهو تعالى يُبرم شؤوناً مختلفة من أحوال الموجودات دواماً ، ويكون { كل يوم } ظرفاً متعلقاً بالاستقرار في قوله : { هو في شأن } ، وقدم على ما فيه متعلّقهُ للاهتمام بإفادة تكرر ذلك ودوامه . والمعنى : في شأن من شؤون من في السماوات والأرض من استجابة سُؤللٍ ، ومن زيادة ، ومن حرمان ، ومن تأخير الاستجابة ، ومن تعويض عن المسؤول بثواب ، كما ورد في أحاديث الدعاء أن استجابته تكون مختلفة ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] .
ومعنى { في } على هذا التفسير تقويَة ثبوت الشؤون لله تعالى وهي شؤون تصرّفه ومظاهر قدرته ، كما قال الحسين بن الفضل النيسابوري : « شؤون يبديها لا شؤون يبتديها » .
و { يوم } مستعمل مجازاً في الوقت بعلاقة الإِطلاق ، إذ المعنى : كل وقت من الأوقات ولو لحظة ، وليس المراد باليوم الوقت الخاص الذي يمتد من الفجر إلى الغروب .
وإطلاق اليوم ونحوه على مطلق الزمان كثير في كلام العرب كقولهم : الدهر يومان يوم نُعُم ويوم بُؤس ، وقال عمرو بن كلثوم :
وإنّ غَداً وإن اليومَ رهن *** وبَعد غَدٍ لِمَا لا تعلمين
أراد الزمان المستقبل والحاضر والمستقبل البعيد وإلا فأي فرق بين غد وبعد غد .
والشأن : الشيء العظيم والحدث المهم من مخلوقات وأعمال من السماوات والأرض ، وفي الحديث " أنه تعالى كل يوم يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع أقواماً ويضع آخرين " وهو تعالى يأمر وينهي ويحيي ويميت ويعطي ويمنع ونحو ذلك وإذا كان في تصرفه كل شأن فما هو أقل من الشأن أولى بكونه من تصرفه .
والظرفية المستعملة فيها حرف { في } ظرفية مجازية مستعارة لشدة التلبس والتعلق بتصرفات الله تعالى بمنزلة إحاطة الظرف بالمظروف أو بأسئلة المخلوقات الذين في السماء والأرض .
والمعنى : أنه تعالى كل يوم تتعلق قدرته بأمور يبرزها ويتعلق أمره التكويني بأمور من إيجاد وإعدامٍ .
ومن أحاسن الكلم في تفسير هذه الآية قول الحسين بن الفضل{[406]} لما سأله عبد الله بن طاهر{[407]} قائلاً : قد أشكل عليّ قوله هذا : وقد صح أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة . فقال : « إنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها » وقد أجمل الحُسين بن الفضل الجواب بما يقنع أمثال عبد الله بن طاهر ، وإن كان الإِشكال غير وارد إذ ليس في الآية أن الشؤون تخالف ما سطره قلم العلم الإِلهي ، على أن هذا الجواب لا يجري إلا على أحد الوجوه في تفسير قوله : { كل يوم هو في شأن } كما علمت آنفاً .