المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

15- أقسم : قد كان لأهل سبأ في مسكنهم باليمن آية دالة على قدرتنا : حديقتان تحفَّان ببلدهم عن يمين وشمال ، قيل لهم : كلوا من رزق ربكم واشكروا نعمه بصرفها في وجوهها . بلدتكم بلدة طيبة ذات ظل وثمار ، وربكم كثير المغفرة لمن شكره .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

15

قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عبد الله بن هُبَيْرة ، عن عبد الرحمن بن وَعْلة قال : سمعت ابن عباس يقول{[24221]} : إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ : ما هو ؟ رجل{[24222]} أم امرأة أم أرض ؟ قال : «بل هو رجل ، ولد عَشَرة{[24223]} ، فسكن اليمن منهم ستة ، وبالشام منهم أربعة ، فأما اليمانيون : فَمَذْحِجُ ، وكِنْدَةُ ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير . وأما الشامية فلخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان » .

ورواه عَبد ، عن الحسن بن موسى ، عن ابن لَهِيعة ، به{[24224]} . وهذا إسناد{[24225]} حسن ، ولم يخرجوه ، [ وقد روي من طرق متعددة ]{[24226]} . وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتاب " القصد والأمَمْ ، بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم " ، من حديث ابن لهيعة ، عن علقمة بن وعلة ، عن ابن عباس فذكر نحوه . وقد روي نحوه من وجه آخر .

وقال [ الإمام ] أحمد{[24227]} أيضا وعبد بن حميد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أبو جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة الكلبي ، عن يحيى بن هانئ بن عُرْوَة ، عن فروة بن مُسيَك قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أقاتل بمقبل قومي مدبرهم ؟ قال : " نعم ، فقاتل بمقبل قومك مدبرهم " . فلما وليت دعاني فقال : " لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام " . فقلت : يا رسول الله ، أرأيت سبأ ؛ أواد هو ، أو رجل{[24228]} ، أو ما هو ؟ قال : " [ لا ]{[24229]} ، بل رجل من العرب ، ولد له عشرة فَتَيَامَنَ ستة وتشاءم أربعة ، تيامن الأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار الذين يقال لهم : بجيلة وخثعم . وتشاءم لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسَّان " .

وهذا أيضًا إسناد جيد{[24230]} وإن كان فيه أبو جَنَاب الكلبي ، وقد تكلموا فيه{[24231]} . لكن رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن العَنْقَزِي{[24232]} ، عن أسباط بن نصر ، عن يحيى بن هانئ المرادي ، عن عمه أو عن أبيه - يشك أسباط - قال : قدم فروة بن مُسَيك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره . {[24233]}

طريق أخرى لهذا الحديث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثني ابن لهيعة ، عن توبة بن نَمر{[24234]} ، عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال : كنا عند عبيدة{[24235]} بن عبد الرحمن بأفريقية فقال يومًا : ما أظن قوما بأرض إلا وهم من أهلها . فقال علي بن رباح : كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مُسَيك الغُطَيفي{[24236]} قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول{[24237]} الله ، إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية ، وإني أخشى أن يرتدّوا عن الإسلام ، أفأقاتلهم ؟ فقال : " ما أمرت فيهم بشيء بعد " . فأنزلت هذه الآية : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } الآيات ، فقال له رجل : يا رسول الله ، ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن سبأ : ما هو ؟ أبلد ، أم رجل ، أم امرأة ؟ قال : " بل رجل ، وَلَد له عَشَرَة فسكن اليمن منهم ستة ، والشام أربعة ، أما اليمانيون : فمذحج ، وكندة ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير غير ما حلها . وأما الشام : فلخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة " .

فيه غرابة من حيث ذكر [ نزول ]{[24238]} الآية بالمدينة ، والسورة مكية كلها ، والله{[24239]} أعلم .

طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو أسامة ، حدثني الحسن بن الحكم ، حدثنا أبو{[24240]} سَبْرَة النَّخَعِي ، عن فَرْوَة بن مُسَيْك الغُطَيْفي{[24241]} قال : قال رجل : يا رسول الله ، أخبرني عن سبأ : ما هو ؟ أرض ، أم امرأة ؟ قال : " ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد ، فتيامن ستة وتشاءم أربعة ، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وعاملة وغسان ، وأما الذين تيامنوا : فكندة ، والأشعريون ، والأزد ، ومذحج ، وحمير ، وأنمار " . فقال رجل : ما أنمار ؟ قال : " الذين منهم خثعم وبجيلة " .

ورواه الترمذي في جامعه ، عن أبي كُرَيْب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة ، فذكره أبسط من هذا ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب . {[24242]}

وقال أبو عمر بن عبد البر : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا ابن كثير - هو عثمان بن كثير - عن الليث بن سعد ، عن موسى بن على ، عن يزيد بن حصين ، عن تميم الداري ؛ أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ ، فذكر مثله ، فقوي هذا الحديث وحَسّن . {[24243]}

قال علماء النسب ، منهم محمد بن إسحاق : اسم سبأ : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان .

وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب ، وكان يقال له : الرائش ؛ لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه ، فسمي الرائش ، والعرب تسمي المال : ريشا ورياشا . وذكروا أنه بشَّر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه{[24244]} المتقدم ، وقال في ذلك شعرًا :

سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظيمًا *** نَبيّ لا يُرَخِّصُ في الحَرَام

وَيَْملك بَعْدَه منْهُم مُلُوك *** يدينوه العبادَ بغَير ذام

ويَملك بَعدهم منا مُلُوك *** يَصير المُلك فينَا باقْتسَام

وَيَمْلك بَعَْد قَحْطَان نَبي *** تَقي خَبْتَة خير الأنام

وسُميَ أحْمَدًا يَا لَيْتَ أني*** أُعَمَّرُ بَعْد مَبْعَثه بعام

فأعضُده وأَحْبوه بنَصْري *** بكُل مُدَجّج وبكُل رام

متى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصريه *** وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلغه سَلامي

ذكر ذلك الهمداني في كتاب " الإكليل " .

واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث{[24245]} طرائق .

والثاني : أنه من سلالة عَابَر ، وهو هود ، عليه الصلاة والسلام ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضًا .

والثالث : أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، عليهما السلام ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضا . وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النَّمري ، رحمه الله ، في كتابه [ المسمى ]{[24246]} : " الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة " {[24247]} .

ومعنى قوله عليه السلام : «كان رجلا من العرب » يعني : العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل ، عليه السلام ، من سلالة سام بن نوح . وعلى القول الثالث : كان من سلالة الخليل ، عليه السلام ، وليس هذا بالمشهور عندهم ، والله أعلم . ولكن في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بنفر من " أسلَمَ " ينتضلون ، فقال : «ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان راميا »{[24248]} . فأسلم قبيلة من الأنصار ، والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ، نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد ، حين بعث الله عليهم سيل العرم ، ونزلت طائفة منهم بالشام ، وإنما{[24249]} قيل لهم : غَسَّان بماء نزلوا عليه قيلَ : باليمن . وقيل : إنه قريب من المُشَلَّل{[24250]} ، كما قال حسان بن ثابت :

إمَّا سَألت فَإنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ *** الأزْدُ نِسْبَتُنَا ، والماء غَسَّانُ{[24251]}

ومعنى قوله : " ولد له عشرة من العرب " أي : كان{[24252]} من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن ، لا أنهم ولدوا من صلبه ، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر ، كما هو مقرر مبين في مواضعه من{[24253]} كتب النسب .

ومعنى قوله : " فتيامن منهم ستة ، وتشاءم منهم أربعة " أي : بعد ما أرسل الله عليهم سيل العرم ، منهم مَنْ أقام ببلادهم ، ومنهم مَنْ نزح عنها إلى غيرها ، وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم ، فعَمَدَ ملوكهم الأقادم ، فبنوا بينهما سدًا عظيما محكما حتى ارتفع الماء ، وحُكمَ على حافات ذينك الجبلين ، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن ، كما ذكر غير واحد من السلف ، منهم قتادة : أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل ، وهو الذي تخترف{[24254]} فيه الثمار ، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قُطَّاف ، لكثرته ونضجه واستوائه ، وكان هذا السد بمأرب : بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل ، ويعرف بسد مأرب .

وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ، ولا شيء من الهوام ، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ، ليوحدوه ويعبدوه ، كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } ، ثم فسرها بقوله : { جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي : من ناحيتي الجبلين والبلدة بين{[24255]} ذلك ، { كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي : غفور لكم إن استمررتم على التوحيد .


[24221]:- في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس قال".
[24222]:- في ت ، س: "أرجل".
[24223]:- في أ: "ولد له عشرة".
[24224]:- المسند (1/316).
[24225]:- في ت: "وإسناده".
[24226]:- زيادة من ت.
[24227]:- زيادة من ت ، س ، أ.
[24228]:- في أ: "أم جبل".
[24229]:- زيادة من أ.
[24230]:- في أ: "حسن".
[24231]:- ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (5/178) وليس في المطبوع من المسند.
[24232]:- في أ: "العبقري".
[24233]:- تفسير الطبري (22/53).
[24234]:- في س ، أ: "نمير".
[24235]:- في أ: "عبدة".
[24236]:- في أ: "القطيعي".
[24237]:- في س ، أ: "يا نبي".
[24238]:- زيادة من أ.
[24239]:- في س: "فالله".
[24240]:- في أ: "ابن".
[24241]:- في أ: "القطيعي".
[24242]:- تفسير الطبري (22/53) وسنن الترمذي برقم (3222).
[24243]:- القصد والأمم ص (20).
[24244]:- في ت ، أ: "الزمان".
[24245]:- في أ: "ثلاثة".
[24246]:- زيادة من أ.
[24247]:- في ت: "بالرواة".
[24248]:- صحيح البخاري برقم (3507) من حديث سلمة ، رضي الله عنه.
[24249]:- في ت: "وإن".
[24250]:- في ت: "المسلك" وفي أ: "المسكن".
[24251]:- البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/10).
[24252]:- في ت: "كانوا".
[24253]:- في ت: "في".
[24254]:- في ت: "يحترق".
[24255]:- في أ: "من".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

{ لقد كان لسبأ } لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو لأنه صار اسم القبيلة ، وعن ابن كثير قلب همزته ألفا ولعله أخرجه بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب . { في مساكنهم } في مواضع سكناهم ، وهي باليمن يقال لها مأرب . بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث أيام ، وقرأ حمزة وحفص بالإفراد والفتح ، والكسائي بالكسر حملا على ما شذ من القياس كالمسجد والمطلع . { آية } علامة دالة على وجود الصانع المختار ، وانه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء معاضدة للبرهان السابق كما في قصتي داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام . { جنتان } بدل من { آية } أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان ، وقرئ بالنصب على المدح والمراد جماعتان من البساتين . { عن يمين وشمال } جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة منهما في تقاربها وتضامنها كأنها جنة واحدة ، أو بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله . { كلوا من رزق ربكم واشكروا له } حكاية لما قال لهم نبيهم ، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك . { بلدة طيبة ورب غفور } استئناف للدلالة على موجب الشكر ، أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شركركم رب غفور فرطات من يشكره . وقرئ الكل بالنصب على المدح . قيل كانت أخصب البلاد وأطيبها لم يكن فيها عاهة ولا هامة .