افتتحت بنهي المؤمنين عن الحكم بشيء قبل أن يأمر به الله ورسوله ، وعن رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأثنت على الذين يخفضون أصواتهم في حضرته ، ونددت بمن يتركون الأدب فينادونه صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته ، ثم أمرت المؤمنين بالتثبت من أخبار الفاسقين وضعاف الإيمان ، وأمرت الولاة بما يفعلونه عند تقاتل فريقين من المؤمنين ، ونهت المؤمنين عن استهزاء بعضهم ببعض ، وتعييب بعضهم بعضا . وعن ظن السوء بأهل الخير ، وعن تتبع بعضهم ، ونهت الأعراب عن ادعاء الإيمان قبل أن يستقر في قلوبهم ، ثم أبانت من هم المؤمنون الصادقون ، وختمت الحديث بالنهي عن المن على رسول الله بالإسلام ، وبينت أن المنة لله عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ، وإن كانوا صادقين في دعواهم .
1- يا أيها الذين آمنوا : لا تقدِّموا أي أمر في الدين والدنيا دون أن يأمر به الله ورسوله ، واجعلوا لأنفسكم وقاية من عذاب الله بامتثال شريعته . إن الله عظيم السمع لكل ما تقولون ، محيط علمه بكل شيء .
وهي مدنية{[1]} .
هذه آداب {[27018]} ، أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ وَاتَّقُوا اللَّهَ ] } {[27019]} ، أي : لا تسرعوا في الأشياء بين يديه ، أي : قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ ، [ إذ ] {[27020]} قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ؟ " قال : بكتاب الله . قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : بسنة رسول الله . قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله ، لما يرضي رسول الله " .
وقد رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .
وقال العَوْفي عنه : نهى{[27021]} أن يتكلموا بين يدي كلامه .
وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ، حتى يقضي الله على لسانه .
وقال الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم .
وقال سفيان الثوري : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } بقول ولا فعل .
وقال الحسن البصري : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال : لا تدعوا قبل الإمام .
وقال قتادة : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا كذا ، وكذا لو صنع كذا ، فكره الله ذلك ، وتقدم فيه .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما أمركم به ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } أي : لأقوالكم { عَلِيمٌ } بنياتكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا : يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ، وبنبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهَ وَرَسُولِهِ يقول : لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم ، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله ، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله ، محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه ، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا تُقَدّموا بينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ يقول : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ ورَسُولِهِ . . . الاَية قال : نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا أيّها الّذينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ ذُكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا ، قال : فكره الله عزّ وجلّ ذلك ، وقدم فيه .
وقال : الحسن : أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ، فأمرهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا آخر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : إن أُناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، لو أنزل في كذا ، وقال الحسن : هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الذبح .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ يعني بذلك في القتال ، وكان من أمورهم لا يصلح أن يُقْضَى إلا بأمره ما كان من شرائع دينهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله جلّ ثناؤه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تقضوا أمرا دون رسول الله ، وبضم التاء من قوله : لا تُقَدّمُوا قرأ قرّاء الأمصار ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وقد حكي عن العرب قدّمت في كذا ، وتقدّمت في كذا ، فعلى هذه اللغة لو كان قيل : «لا تَقَدّمُوا » بفتح التاء كان جائزا .
وقوله : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول : وخافوا الله أيها الذين آمنوا في قولكم ، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله ، وفي غير ذلك من أموركم ، وراقبوه ، إن الله سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم ، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم ، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم .
بسم الله الرحمن الرحيم { يأيها الذين آمنوا لا تقدموا } أي لا تقدموا أمرا ، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن ، أو ترك لأن المقصود نفي التقديم رأسا أو لا تتقدموا ومنه مقدمة الجيش لمتقدميهم ، ويؤيده قراءة يعقوب " لا تقدموا " . وقرئ " لا تقدموا " من القدوم . { بين يدي الله ورسوله } مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان تهجينا لما نهوا عنه ، والمعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به . وقيل المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعظيم له وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله . { واتقوا الله } في التقديم أو مخالفة الحكم . { إن الله سميع } لأقوالكم . { عليم } بأفعالكم .