171- يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا الحق مغالين في دينكم ، ولا تفتروا على الله الكذب ، فتنكروا رسالة عيسى ، أو تجعلوه إلهاً مع الله ، فإنما المسيح رسول كسائر الرسل ، خلقه الله بقدرته وكلمته التي بُشَّر بها ، ونفخ روحه جبريل في مريم ، فهو سِرٌّ من أسرار قدرته ، فآمنوا بالله ورسله جميعاً إيماناً صحيحاً ولا تدَّعوا أن الآلهة ثلاثة ، انصرفوا عن هذا الباطل يكن خيراً لكم ، فإنما الله واحد لا شريك له ، وهو منزه عن أن يكون له ولد ، وكل ما في السماوات والأرض ملك له ، وكفى به - وحده - مدبِّراً لملكه .
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى ، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ، ممن زعم أنه على دينه ، فادَّعوْا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقًا أو باطلا أو ضلالا أو رشادًا ، أو صحيحًا أو كذبًا ؛ ولهذا قال تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم قال : زعم الزُّهْرِي ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد الله ورسوله " .
ثم رواه هو وعلي بن المديني ، عن سفيان بن عُيَيْنة ، عن الزُّهري كذلك . وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح سنده{[8761]} وهكذا رواه البخاري ، عن الحُميدي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، به . ولفظه : " فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله " {[8762]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حمَّاد بن سَلَمَة ، عن ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك : أن رجلا قال : محمد يا سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس ، عليكم بقولكم ، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ ، أنا محمدُ بنُ عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّهُ عز وجل " . تفرد به من هذا الوجه{[8763]} .
وقوله : { وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } أي : لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته - فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } أي : إنما هو عبد من عباد الله وخَلق من خلقه ، قال له : كن فكان ، ورسول من رسله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، أي : خَلقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ، عليه السلام ، إلى مريم ، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ، عز وجل ، فكان عيسى بإذن الله ، عز وجل ، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جَيْب درعها ، فنزلت حتى وَلَجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم{[8764]} والجميع مخلوق لله ، عز وجل ؛ ولهذا قيل لعيسى : إنه كلمة الله وروح منه ؛ لأنه لم يكن له أب تولد{[8765]} منه ، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها : كن ، فكان . والروح التي أرسل بها جبريل ، قال الله تعالى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } [ المائدة : 75 ] . وقال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] . وقال تعالى : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا{[8766]} مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] وقال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ]{[8767]} } [ التحريم : 12 ] . وقال تعالى إخبارا عن المسيح : { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ]{[8768]} } [ الزخرف : 59 ] .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } هو كقوله : { كُنْ } [ آل عمران : 59 ] فكان وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال : سمعت شَاذَّ بن يحيى يقول : في قول الله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } قال : ليس الكلمةُ صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى .
وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير{[8769]} في قوله : { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أي : أعلمها بها ، كما زعمه في قوله : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } [ آل عمران : 45 ] أي : يعلمك بكلمة منه ، ويجعل ذلك كما قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [ القصص : 86 ] بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم ، فنفخ فيها بإذن الله ، فكان عيسى ، عليه السلام .
وقال البخاري : حدثنا صَدَقَةُ بن الفضل ، حدثنا{[8770]} الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عُمَيْر بن هانئ ، حدثني جُنَادةُ بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ، والجنةَ حق ، والنارَ حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " . قال الوليد : فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عُمير بن هانئ ، عن جُنَادة زاد : " من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء " .
وكذا رواه مسلم ، عن داود بن رُشَيد ، عن الوليد ، عن ابن جابر ، به{[8771]} ومن وجه آخر ، عن الأوزاعي ، به{[8772]} .
فقوله في الآية والحديث : { وَرُوحٌ مِنْهُ } كقوله { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } الجاثية : 13 ] ي : مِنْ خَلْقه ومن عنده ، وليست " مِنْ " للتبعيض ، كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة - بل هي لابتداء الغاية ، كما في الآية الأخرى .
وقد قال مجاهد في قوله : { وَرُوحٌ مِنْهُ } أي : ورسول منه . وقال غيره . ومحبة منه . والأظهر الأول أنَّه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله ، في قوله : { هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ } [ هود : 64 ] . وفي قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، وكما ورد في الحديث الصحيح : " فأدخل على رَبِّي في داره " أضافها إليه إضافة تشريف لها ، وهذا كله من قبيل واحد ونمَط واحد .
وقوله : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : فصدقوا بأن الله واحد أحد ، لا صاحبة له ولا ولد ، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله ؛ ولهذا قال : { وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ } أي : لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
وهذه الآية والتي تأتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ المائدة : 73 ] . وكما قال في آخر السورة المذكورة : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [ وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ]{[8773]} } الآية [ المائدة : 116 ] ، وقال في أولها : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } الآية [ المائدة : 72 ] ، فالنصارى - عليهم لعنة الله - من جهلهم ليس لهم ضابط ، ولا لكفرهم حد ، بل أقوالهم وضلالهم منتشر ، فمنهم من يعتقده إلهًا ، ومنهم من يعتقده شريكا ، ومنهم من يعتقده ولدًا . وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة ، وأقوال غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولا . ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير ، وهو سعيد بن بَطْرِيق - بتْرَكُ الإسكندرية - في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية ، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم ، وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة ، وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة ، وأنهم اختلفوا عليه اختلافًا لا ينضبط ولا ينحصر ، فكانوا أزيد من ألفين أَسْقُفًا ، فكانوا أحزابًا كثيرة ، كل خمسين منهم على مقالة ، وعشرون على مقالة ، ومائة على مقالة ، وسبعون على مقالة ، وأزيد من ذلك وأنقص . فلما رأى عصابة منهم قد زادوا على الثلاثمائة بثمانية عشر نفرًا ، وقد توافقوا على مقالة ، فأخذها الملك ونصرها وأيدها - وكان فيلسوفًا ذا هيئة{[8774]} - ومَحَقَ ما عداها من الأقوال ، وانتظم دَسْتُ{[8775]} أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر ، وبنيت لهم الكنائس ، ووضعوا لهم كتبًا وقوانين ، وأحدثوا الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار{[8776]} - ليعتقدوها - ويُعَمّدونهم عليها ، وأتباع هؤلاء هم الملكية . ثم إنهم اجتمعوا مجمعا ثانيًا فحدث فيهم اليعقوبية ، ثم مجمعًا ثالثًا فحدث فيهم النسطورية . وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم ! هل اتحدا ، أو ما اتحدا ، بل امتزجا أو حل فيه ؟ على ثلاث مقالات ، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى ، ونحن نكفر الثلاثة ؛ ولهذا قال تعالى : { انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ } أي : يكن خيرا لكم { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي : تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } ي : الجميع ملكه وخلقه ، وجميع ما فيها عبيده ، وهم تحت تدبيره وتصريفه ، وهو وكيل على كل شيء ، فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد ؟ كما قال في الآية الأخرى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 101 ] ، {[8777]} وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . [ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ]{[8778]} } [ مريم : 88 : 95 ] .
{ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىَ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لّكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلََهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لّهُ وما فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : يا أهْلَ الكِتابِ : يا أهل الإنجيل من النصارى ، لا تَغْلُوا فِي دِيِنِكُمْ يقول : لا تجاوزوا الحقّ في دينكم فتفرِطوا فيه ، ولا تقولوا في عيسى غير الحقّ ، فإنّ قيلكم في عيسى إنه ابن الله قول منكم على الله غير الحقّ ، لأن الله لم يتخذ ولدا ، فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابنا . وَلا تَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ وأصل الغلوّ في كلّ شيء : مجاوزة حده الذي هو حده ، يقال منه في الدين قد غلا فهو يغلو غُلُوّا ، وغلا بالجارية عظمُها ولحمُها : إذا أسرعت الشباب ، فجاوزت لذاتها ، يغلو بها غُلُوّا وغَلاءً ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي :
خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشّحُها ***رُؤْدُ الشّبابِ غلاِ بها عَظْمُ
وقد حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : صاروا فريقين : فريق غَلَوا في الدين ، فكان غلوّهم فيه : الشكّ فيه والرغبة عنه . وفريق منهم قصروا عنه ففسقوا عن أمر ربهم .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : إنّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمُ : ما المسيح أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب بابن الله كما تزعمون ، ولكنه عيسى ابن مريم دون غيرها من الخلق ، لا نسب له غير ذلك . ثم نعته الله جلّ ثناؤه بنعته ووصفه بصفته ، فقال : هو رسول الله ، أرسله الله بالحق إلى من أرسله إليه من خلقه . وأصل المسيح : الممسوح ، صرف من مفعول إلى فعيل ، وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب وقيل : مسح من الذنوب والأدناس التي تكون في الاَدميين ، كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون فيه فيطهر منه ، ولذلك قال مجاهد ومن قال مثل قوله : المسيح : الصديق . وقد زعم بعض الناس أن أصل هذه الكلمة عبرانية أو سريانية «مَشِيحَا » فعرّبت ، فقيل المسيح ، كما عرّب سائر أسماء الأنبياء التي في القرآن مثل إسماعيل وإسحاق وموسى وعيسى .
قال أبو جعفر : وليس ما مثل به من ذلك للمسيح بنظير وذلك أن إسماعيل وإسحاق وما أشبه ذلك ، أسماء لا صفات ، والمسيح صفة ، وغير جائز أن تخاطب العرب وغيرها من أجناس الخلق في صفة شيء إلا بمثل ما يفهم عمن خاطبها ، ولو كان المسيح من غير كلام العرب ولم تكن العرب تعقل معناه ما خوطبت به . وقد أتينا من البيان عن نظائر ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته . وأما المسيح الدجال ، فإنه أيضا بمعنى الممسوح العين ، صرف من مفعول إلى فعيل ، فمعنى المسيح في عيسى صلى الله عليه وسلم : الممسوح البدن من الأدناس والاَثام ، ومعنى المسيح في الدجال : الممسوح العين اليمنى أو اليسرى كالذي رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .
وأما قوله : وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ فإنه يعني بالكلمة : الرسالة التي أمر الله ملائكته أن تأتي مريم بها ، بشارة من الله لها التي ذكر الله جلّ ثناؤه في قوله : إذْ قالَتِ المَلائِكَةِ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ يعني : برسالة منه ، وبشارة من عنده . وقد قال قتادة في ذلك ، ما :
حدثنابه الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة : وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ قال : هو قوله : كن فكان .
وقد بيّنا اختلاف المختلفين من أهل الإسلام في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله : ألْقاها إلى مَرْيَمَ يعني : أعلمها بها وأخبرها ، كما يقال : ألقيت إليك كلمة حسنة ، بمعنى أخبرتك بها ، وكلمتك بها .
وأما قوله : وَرُوحٌ مِنْه فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى قوله : وَرُوحٌ مِنْه : ونفخة منه ، لأنه حدّث عن نفخة جبريل عليه السلام في دِرْع مريم بأمر الله إياه بذلك ، فنسب إلى أنه رُوح من الله ، لأنه بأمره ، كان ، قال : وإنما سمي النفخ رُوحا لأنها ريح تخرج من الروح ، واستشهدوا على ذلك من قولهم بقول ذي الرمة في صفة نار نعتها :
فلمّا بَدَتْ كَفّنْتُها وَهْيَ طِفْلَةٌ ***بطَلْساءَ لَم تَكْمُل ذِرَاعا وَلا شِبْرَا
وقُلْتُ لَهُ ارْفَعْها إلَيْكَ وأحْيِها ***بُروحِكَ واقْتَتْهُ لهَا قِيتَةً قَدْرَا
وظاهِرْ لها مِن بائسِ الشّخْتِ واستعن ***علَيها الصّبا واجْعَلْ يدَيْكَ لها سِتْرا
فَلَمّا جَرَتْ للْجَزْلِ جَرْيا كأنّهُ ***سَنا البرْقِ أحدَثْنا لخالقها شُكْرَا
وقالوا : يعني بقوله : أحيها بُروحك : أي أحْيها بنفخك .
وقال بعضهم : يعني بقوله : وَرُوحٌ مِنْهُ : أنه كان إنسانا بإحياء الله له بقوله : «كن » ، قالوا : وإنما معنى قوله : وَرُوحٌ مِنْهُ : وحياة منه ، بمعنى : إحياء الله إياه بتكوينه .
وقال بعضهم : معنى قوله : وَرُوحٌ مِنْهُ ورحمة منه كما قال جلّ ثناؤه في موضع آخر : وأيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ . قال : ومعناه في هذا الموضع : ورحمة منه . قال : فجعل الله عيسى رحمة منه على من اتبعه وآمن به وصدّقه ، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد .
وقال آخرون : معنى ذلك : وروح من الله خلقها فصوّرها ، ثم أرسلها إلى مريم ، فدخلت في فيها ، فصيرها الله تعالى روح عيسى عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ، قال : أخبرني أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب في قوله : وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ قال : أخذهم فجعلهم أرواحا ، ثم صوّرهم ، ثم استنطقهم ، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق ، فأرسل ذلك الروح إلى مريم ، فدخل في فيها فحملت الذي خاطبها ، وهو روح عيسى عليه السلام .
وقال آخرون : معنى الروح ههنا : جبريل عليه السلام . قالوا : ومعنى الكلام : وكلمته ألقاها إلى مريم ، وألقاها أيضا إليها روح من الله ، ثم من جبريل عليه السلام . ولكلّ هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب .
القول في تأويل قوله تعالى : فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرا لَكُمْ .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ فصدّقوا يا أهل الكتاب بوحدانية الله وربوبيته ، وأنه لا ولد له ، وصدّقوا رسله فيما جاءوكم به من عند الله ، وفيما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له ، ولا صاحبة له ، ولا ولد له . وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني : ولا تقولوا الأرباب ثلاثة . ورفعت الثلاثة بمحذوف دلّ عليه الظاهر ، وهو «هم » . ومعنى الكلام : ولا تقولوا هم ثلاثة . وإنما جاز ذلك لأن القول حكاية ، والعرب تفعل ذلك في الحكاية ، ومنه قول الله : سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وكذلك كلّ ما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه ، ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم . ثم قال لهم جلّ ثناؤه متوعدا لهم في قولهم العظيم الذي قالواه في الله : انتهوا أيها القائلون الله ثالث ثلاثة عما تقولون من الزور والشك بالله ، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قِيله ، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قِيلكم ذلك ، إن أقمتم عليه ولم تنيبوا إلى الحقّ الذي أمرتكم بالإنابة إليه والاَجل في معادكم .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّمَا اللّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ وكَفَى بالله وَكِيلاً .
يعني بقوله : إنّمَا اللّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ : ما الله أيها القائلون : الله ثالث ثلاثة كما تقولون ، لأن من كان له ولد فليس بإله ، وكذلك من كان له صاحبة فغير جائز أن يكون ألها معبودا ، ولكن الله الذي له الألوهة والعبادة ، إله واحد معبود ، لا ولد له ، ولا والد ، ولا صاحبة ، ولا شريك . ثم نزّه جلّ ثناؤه نفسه وعظمها ورفعها عما قال فيه أعداؤه الكفرة به ، فقال : سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يقول : علا الله وجلّ وعزّ وتعظم وتنزّه عن أن يكون له ولد أو صاحبة . ثم أخبر جلّ ثناؤه عباده أن عيسى وأمه ، ومن في السموات ومن في الأرض ، عبيده ، وملكه ، وخلقه ، وأنه رازقهم وخالقهم ، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه ، احتجاجا منه بذلك على من ادّعى أن المسيح ابنه ، وأنه لو كان ابنه كما قالوا لم يكن ذا حاجة إليه ، ولا كان له عبدا مملوكا ، فقال : لَهُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ يعني : لله ما في السموات وما في الأرض من الأشياء كلها ، ملكا وخلقا ، وهو يرزقهم ويقوتهم ويدبرهم ، فكيف يكون المسيح ابنا لله وهو في الأرض أو في السموات غير خارج من أن يكون في بعض هذه الأماكن
وقوله : وكَفَى باللّهِ وَكِيلاً يقول : وحسب ما في السموات وما في الأرض بالله قيما ومدبرا ورازقا ، من الحاجة معه إلى غيره .