وحين يبلغ سياق السورة إلى هذا المقطع القوي الذي يصل قلب المؤمن بقلب هذا الوجود . ويشعره بمصدر القوة الحقيقي وهو الاهتداء إلى أسرار هذا الوجود . . عند هذا يدعو المؤمنين إلى الترفع والاستعلاء وسعة الأفق ورحابة الصدر في مواجهة الضعاف العاجزين الذين لا تتصل قلوبهم بذلك المصدر الثري الغني . كما يدعوهم إلى شيء من العطف على هؤلاء المساكين المحجوبين عن الحقائق المنيرة القوية العظيمة ؛ من الذين لا يتطلعون إلى أيام الله ، التي يظهر فيها عظمته وأسراره ونواميسه :
( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ، ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون . من عمل صالحاً فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم ترجعون ) . .
فهو توجيه كريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله . تسامح المغفرة والعفو . وتسامح القوة والاستعلاء . وتسامح الكبر والارتفاع . والواقع أن الذين لا يرجون أيام الله مساكين يستحقون العطف أحياناً بحرمانهم من ذلك النبع الفياض ، الذي يزخر بالنداوة والرحمة والقوة والثراء . نبع الإيمان بالله ، والطمأنينة إليه ، والاحتماء بركنه ، واللجوء إليه في ساعات الكربة والضيق . وحرمانهم كذلك من المعرفة الحقيقية المتصلة بصميم النواميس الكونية وما وراءها من القوى والثروات . والمؤمنون الذين يملكون كنز الإيمان وذخره ، ويتمتعون برحمته وفيضه أولى بالمغفرة لما يبدو من أولئك المحرومين من نزوات وحماقات .
هذا من جانب . ومن الجانب الآخر ، ليترك هؤلاء المؤمنون الأمر كله لله يتولى جزاء المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته . ويحسب لهم العفو والمغفرة عن المساءة في سجل الحسنات . ذلك فيما لا يظهر الفساد في الأرض ، ويعتدي على حدود الله وحرماته بطبيعة الحال :
إن كانت هذه متصلة بالآي التي قبلها في النزول ولم يصح ما روي عن ابن عباس في سبب نزولها فمناسبة وقعها هنا أن قوله : { ويل لكل أفّاك أثيم } إلى قوله : { لهم عذاب من رجز أليم } [ الجاثية : 7 11 ] يثير غضب المسلمين على المستهزئين بالقرآن . وَقد أخذ المسلمون يعتزون بكثرتهم فكان ما ذكر من استهزاء المشركين بالقرآن واستكبارهم عن سماعه يتوقع منه أن يبطش بعض المسلمين ببعض المشركين ، ويحتمل أن يكون بَدَرَ من بعض المسلمين غضب أو توعد وأن الله علم ذلك من بعضهم .
قال القرطبي والسدي : نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة أصابهم أذى شديد من المشركين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله بالتجاوز عن ذلك لمصلحة في استبقاء الهدوء بمكة والمتاركة بين المسلمين والمشركين ففي ذلك مصالح جمّة من شيوع القرآن بين أهل مكة وبين القبائل النازلين حولها فإن شيوعه لا يخلو من أن يأخذ بمجامع قلوبهم بالرغم على ما يبدونه من إِعراض واستكبار واستهزاء فتتهَيَّأ نفوسهم إلى الدخول في الدين عند زوال ممانعة سادتهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبعد استئصال صناديد قريش يوم بدر . وقد تكرر في القرآن مثل هذا من الأمر بالصفح عن المشركين والعفو عنهم والإعراض عن أذاهم ، ولكن كان أكثر الآيات أمراً للنبيء صلى الله عليه وسلم في نفسه وكانت هذه أمراً له بأن يبلغ للمؤمنين ذلك ، وذلك يشعر بأن الآية نزلت في وقت كان المسلمون قد كثروا فيه وأحسّوا بعزتهم . فأمروا بالعفو وأن يكلوا أمر نصرهم إلى الله تعالى ، وإن كانت نزلت على سبب خاص عرض في أثناء نزول السورة فمناسبتها لأغراض السورة واضحة لأنها تعليم لما يصلح به مقام المسلمين بمكة بين المضادين لهم واحتمال ما يلاقونه من صَلفهم وتجبرهم إلى أن يقضي الله بينهم .
وقد روي في سبب نزولها أخبار متفاوتة الضعف ، فروى مكي بن أبي طالب أن رجلاً من المشركين شتم عمر بن الخطاب فَهَمّ أن يبطش به قال ابن العربي : « وهذا لم يصح » . وفي « الكشاف » أن عمر شتمه رجل من غِفار فَهَمَّ أن يبطش به فنزلت . وعن سعيد بن المسيب « كنا بين يدي عمر بن الخطاب فقرأ قارىء هذه الآية فقال عمر : ليَجزِيَ عُمَرَ بما صنع » يعني أنه سبب نزول الآية . وروى الواحدي والقشيري عن ابن عباس : إنها نزلت في غزوة بني المصطلق : نزلوا على بئر يقال لها : المُرَيْسِيع فأرسَل عبدُ الله بن أُبَيّ غلامه ليستقي من البئر فأبطأ ، فلما أتاه قال : ما حسبك . قال : غلام عُمر قعد على فم البئر فما ترك أحداً يسقي حتى مَلأ قِرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم وقِرَب أبي بكر ومَلأ لمولاه ، فقال عبد الله بن أُبيّ : ما مَثلُنا ومثَلُ هؤلاء إلا كما قال القائل : « سَمِّن كلبَك يأكُلك » فهَمَّ عمر بن الخطاب بقتله ، فنزلت .
وروى ابن مهران عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] الآية قال فنحاص اليهودي : احتاج ربّ محمد ، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه فنزلت الآية ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فلما جاء قال : ضع سيفك . وهاتان روايتان ضعيفتان ومن أجلهما روي عن عطاء وقتادة وابن عباس أن هذه الآية مدنية .
وأقرب هذه الأخبار ما قاله مكي بن أبي طالب . ولو صحت ما كان فيه ما يفكك انتظام الآيات سواء صادف نزولها تلك الحادثة أو أمر الله بوضعها في هذا الموضع .
وجزْم { يغفروا } على تقدير لام الأمر محذوفاً ، أي قل لهم ليغفروا ، أو هو مجزوم في جواب { قل } ، والمقول محذوف دل عليه الجواب . والتقدير : قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا . وهذا ثقة بالمؤمنين أنهم إذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم امتثلوا . والوجهان يتأتَّيان في مثل هذا التركيب كلما وقع في الكلام ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } في سورة إبراهيم ( 31 ) .
و { الذين لا يرجون أيام الله } يراد بهم المشركون من أهل مكة .
والرجاء : ترقب وتطلب الأمر المحبوب ، وهذا أشهر إطلاقاته وهو الظاهر في هذه الآية .
والأيام : جمع يوم ، وهذا الجمع أو مفرده إذا أضيف إلى اسم أحد أو قوم أو قبيلة كان المراد به اليوم الذي حصل فيه لمَن أضيف هو إليه نَصر وغلب على معاند أو مُقاتل ، ومنه أطلق على أيام القتال المشهورة بين قبائل العرب : أيامُ العرب ، أي التي كان فيها قتال بين قبائل منهم فانتصر بعضهم على بعض ، كما يقال أيام عبس ، وأيام داحس والغبراء ، وأيام البَسوس ، قال عمرو بن كلثوم :
وأيام لنَا غرٌّ طِوال *** عَصينا المَلْك فيها إن نَدِينا
فإذا قالوا : أيام بني فلان ، أرادوا الأيام التي انتصر فيها من أضيفت الأيام إلى اسمه ، ويقولون : أيام بني فلان على بني فلان فيريدون أن المجرور بحرف الاستعلاء مغلوب لتضمن لفظ { أيام } أو ( يوم ) معنى الانتصار والغلب . وبذلك التضمّن كان المجرور متعلقاً بلفظ { أيام } أو ( يوم ) وإن كان جامداً ، فمعنى { أيام الله } على هذا هو من قبيل قولهم : أيام بني فلان ، فيحصل من محمل الرجاء على ظاهر استعماله .
ومحمل { أيام الله } على محمل أمثاله أن معنى الآية للذين لا تترقب نفوسهم أيام نصر الله ، أي نصر الله لهم : إما لأنهم لا يتوكلون على الله ولا يستنصرونه بل توجّههم إلى الأصنام ، وإما لأنهم لا يخطر ببالهم إلا أنهم منصورون بحولهم وقوتهم فلا يخطر ببالهم سؤال نصر الله أو رجاؤه وهم معروفون بهذه الصلة بين المسلمين فلذلك أجريت عليهم هنا وعرفوا بها .
وأوثر تعريفهم بهذه الصلة ليكون في ذلك تعريض بأن الله ينصر الذين يرجون أيام نصره وهم المؤمنون . والغرض من هذا التعريض الإيماء بالموصول إلى وجه أمر المؤمنين أن يغفِروا للمشركين ويصفحوا عن أذى المشركين ولا يتكلفوا الانتصار لأنفسهم لأن الله ضمن لهم النصر .
وقد يطلق { أيام الله } في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم ، وهو أحد تفسيرين لقوله تعالى : { وذَكِّرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] .
ومعنى { لا يرجون أيام الله } على هذا التأويل أنهم في شغل عن ترقب نعم الله بما هم فيه من إسناد فعل الخير إلى أصنامهم بانكبابهم على عبادة الأصنام دون عبادة الله ويأتي في هذا الوجه من التعريض والتحريض مثل ما ذكر في الوجه الأول لأن المؤمنين هم الذين يرجون نعمة الله . وفسر به قوله تعالى : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } [ الفرقان : 21 ] وقوله : { ما لكم لا تَرْجَون لله وقاراً } [ نوح : 13 ] ، فيكون المراد ب { أيام الله } : أيام جزائه في الآخرة لأنها أيام ظهور حكمه وعزته فهي تقارب الأيام بالمعنى الأول ، ومنه قوله تعالى : { ذلك اليوم الحقّ } [ النبأ : 39 ] ، أي ذلك يوم النصر الذي يحق أن يطلق عليه ( يوم ) فيكون معنى هذه الآية : أنهم لا يخافون تمكن الله من عقابهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث .
ومعنى الآية أن المؤمنين أمروا بالعفو عن أذى المشركين وقد تكرر ذلك في القرآن قال تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] . وفي « صحيح البخاري » عن أسامة بن زيد في هذه الآية : وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى .
وقوله : { ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون } تعليل للأمر المستفاد من قوله : { يغفروا } أي ليغفروا ويصفحوا عن أذى المشركين فلا ينتصروا لأنفسهم ليجزيهم الله على إيمانهم وعلى ما أوذوا في سبيله فإن الانتصار للنفس توفية للحق وماذا عساهم يبلغون من شفاء أنفسهم بالتصدّي للانتقام من المشركين على قلتهم وكثرة أولئك فإذا توكلوا على نصر ربّهم كان نصره لهم أتم وأخضد لشوكة المشركين كما قال نوح { إني مغلوب فانتصر } [ القمر : 10 ] . g وهذا من معنى قوله تعالى : { وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل } [ الحجر : 85 ] . وكان مقتضى الظاهر أن يقال ليجزيهم بما كانوا يكسبون ، فعدل إلى الإظهار في مقام الإضمار ليكون لفظُ { قوماً } مشعراً بأنهم ليسوا بمضيعة عند الله فإن لفظ ( قوم ) مشعر بفريق له قِوامه وعزته { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا } [ محمد : 11 ] .
وتنكير { قوماً } للتعظيم ، فكأنه قيل : ليجزي أيما قوم ، أي قوماً مخصوصين . وهذا مدح لهم وثناء عليهم . ونحْوُه ما ذكر الطيبي عن ابن جنِّي عن أبي علي الفارسي في قول الشاعر :
أفآت بنو مروان ظلماً دماءنا *** وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
قال أبو علي : هو تعالى أعرف المعارف وسماه الشاعر : حكماً عدلاً وأخرج اللفظ مخرج التنكير ، ألا ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف اه . قيل : والأظهر أن { قوماً } مراد به الإبهام وتنوينه للتنكير فقط .
والمعنى : ليجزي الله كل قوم بما كانوا يكسبون من خير أو شر بما يناسب كسبهم فيكون وعيداً للمشركين المعتدين على المؤمنين ووعداً للمؤمنين المأمورين بالصفح والتجاوز عن أذى المشركين ، وهذا وجه عدم تعليق الجزاء بضمير الموقنين لأنه أريد العموم فليس ثمة إظهار في مقام الإضمار ويؤيد هذا قوله : { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } [ فصلت : 46 ] . وهذا كالتفصيل للإجمال الذي في قوله : { ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون } . ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف على سابقتها ، وتقدم نظيره في سورة فصّلت . وقرأ الجمهور { ليجزي قوماً } بتحتية في أوله ، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { يَرْجُونَ أَيَّامَ } . وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بنون العظمة في أوله على الالتفات . وقرأه أبو جعفر بتحتية في أوله مضمومة وبفتح الزاي على البناء للمجهول ونَصبَ { قوماً } . وتأويلها أن نائب الفاعل مصدر مأخوذ من فعل ( يُجْزي ) . والتقدير : ليجزَى الجزاءُ . { وقوماً } مفعول ثان لفعل ( يجزى ) من باب كسا وأعطى . وليس هذا من إنابة المصدر الذي هو مفعول مطلق وقد منعه نحاة البصرة بل جعل المصدر مفعولاً أول من باب أعطى وهو في المعنى مفعول ثان لفعل جزى ، وإنابة المفعول الثاني في باب كسا وأعطى متفق على جوازه وإن كان الغالب إنابة المفعول الأول كقوله تعالى : { ثم يُجزاه الجزاءَ الأوفى } [ النجم : 41 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل للذين آمنوا يغفروا} يعني يتجاوزوا، نزلت في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وذلك أن رجلا من كفار مكة شتم عمر بمكة، فهم عمر أن يبطش به، فأمره الله بالعفو والتجاوز، فقال: {قل للذين آمنوا}، يعني عمر.
{يغفروا} يعني يتجاوزوا، {للذين لا يرجون أيام الله}، يعني لا يخشون عقوبات الله مثل عذاب الأمم الخالية...
{ليجزي} بالمغفرة، {قوما بما كانوا يكسبون} يعني يعملون من الخير...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين صدّقوا الله واتبعوك، يغفروا للذين لا يخافون بأس الله ووقائعه ونقمه إذا هم نالوهم بالأذى والمكروه.
"لِيَجْزِيَ قَوْما بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ" يقول: ليجزي الله هؤلاء الذين يؤذونهم من المشركين في الآخرة، فيصيبهم عذابه بما كانوا في الدنيا يكسبون من الإثم، ثم بأذاهم أهل الإيمان بالله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أمر تعالى عز وجل المؤمنين بالعفو والصّفح عمّن أساء إليهم، وظلمهم حتى أمرهم بالعفو والمغفرة عمّن ظلمهم، وأساء إليهم من الكَفرة؛ ليُعلم عظيم موقع العفو والصفح عن المظلمة والإساءة عند الله وما يكون لذلك من الثواب الجزيل، والله أعلم.
إن قيل: إن هذه الآيات إنما نزلت بمكة، ومن أسلم من أهل مكة بمكة كانوا مُستخفين مقهورين في أيدي الكفرة، ثم لا يتهيأ لهم الانتصار منهم والانتقام عن مساوئهم، وإنما يُؤمر المرء بالعفو عن مظلمة من ظلمه وأساء إليه، عند مقدرة الانتقام منه والانتصار، فأما من لا يكون على مقدرة من ذلك فلا معنى للأمر له بذلك، إذ هو عاجز عن ذلك، فيكون الأمر بالعفو والصّفح عنهم، وإن كان أهل الإسلام منهم مقهورين مغلوبين في أيدي أولئك الكفرة على ما ذكر ثم لوجهين: أحدهما: أنه أمرهم بذلك ليتقرّبوا بذلك إلى الله، ويجعلوا ذلك وسيلة وقُربة في ما بينهم وبين ربهم، وإن لم يكن لهم مقدرة الانتقام والانتصار منهم ليكون العفو عنهم بحق القربة لا بحق التذلّل والخشوع؛ إذ يعفو كلّ عن اختيار وطوع، ويصبر على ذلك ابتغاء وجه الله تعالى، ويترك الجزع في نفسه والمخاصمة، لو قدر على الانتقام، وهو ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة بعدما أخبره أنهم يريدون أن يقتلوه أو يُخرجوه حين قال: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك} الآية [الأنفال: 30] لتكون الهجرة له إلى الله تعالى بحق القُربة لا بحق التذلّل بإخراجهم إياه، والله أعلم.
والثاني: أن يرجع الأمر بالعفو إلى كل واحد منهم في خاصة نفسه، وقد كان من المسلمين منهم من يقدر على الانتقام والانتصار من الأفراد والآحاد منهم، وإن لم تكن لهم المقدرة على الانتقام من جُملتهم، والله أعلم.
وقوله تعالى: {لا يرجون أيام الله} هذا يُخرّج على وجوه:
أحدها: {أيام الله} أي نِعم الله الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع، التي وعدها في الآخرة لأهل الإيمان، وهي ما قال في آية أخرى في قصة موسى على نبينا وعليه السلام حين قال: {وذكّرهم بأيّام الله} [إبراهيم: 5] أي بنعم الله تعالى، ألا ترى أن موسى عليه السلام فسّر أيام الله بالنعمة حين قال على إثره: {وإذ قال موسى لقومه اذكُروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون} الآية؟ [إبراهيم: 6].
والثاني: {لا يرجون أيام الله} على حقيقة الأيام؛ لأنهم كانوا يرون هذه النّعم والسعة في الدنيا بجهد أنفسهم وكدّهم لا بما أجرى الله تعالى النعم إليهم في الأيام، والله أعلم.
{ليجزي قوما بما كانوا يكسِبون} أي ليجزي كل قوم بما كسبوا من خير أو شر؛ يجزي من عفا عنهم جزاء العفو، ويجزي المحسن جزاء الإحسان، والمُسيء جزاء الإساءة، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نَدَبَهم إلى حُسْنِ الخُلق، وجميلِ العِشْرَة، والتجاوزِ عن الجهل، والتنقي من كدورات البشرية، ومقتضياتِ الشُّحِّ. وَبيَّنَ أَنَّ اللَّهِ -سبحانه- لا يفوته أحدٌ. فَمَنْ أراد أَنْ يعرِفَ كيف يحفظ أولياءَه، وكيف يُدَمِّر أعداءَه، فَلْيَصبِرْ أياماً قلائلَ لَيَعْلَمَ كيف صارت عواقبُهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال أكثر الناس: وهذه آية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة: الآية محكمة، والآية تتضمن الغفران عموماً، فينبغي أن يقال: إن الأمور العظام كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك قد نسخ غفرانه آية السيف والجزية وما أحكمه الشرع لا محالة وإن الأمور المحقرة كالجفاء في القول ونحو ذلك يحتمل أن يتقى محكمه، وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علمت دلائل التوحيد على وجه علم منه أنه قد بسط نعمه على جميع خلقه طائعهم وعاصيهم، فعلمت بواسطة ذلك الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة، وكان على المقبل عليه المحب له- التخلق بأوصافه، أنتج قوله مخاطباً لأفهم خلقه عنه وأطوعهم له الذي الأوامر إنما هي له من شدة طواعته تكوين لا تكليف: {قل} أي بقالك وحالك {للذين آمنوا} أي ادعوا التصديق بكل ما جاءهم من الله: اغفروا تسنناً به من أساء إليكم.
ولما كان هذا الأمر في الذروة من اقتضاء الإحسان إلى المسيء فكيف بالصفح عنه، كان كأنه علة مستقلة في الإقبال عليه والقبول منه والإعراض عن مؤاخذة المسيء فإن ذلك يقدح في كمال الإقبال عليه مع أن من كان يريد هو سبحانه الانتقام منه فهو يكفي أمره، ومن لم يرد ذلك منه فلا حيلة في كفه بوجه فالاشتغال به عبث فنبه على ذلك بأن جعل جواب الأمر قوله: {يغفروا} أي يستروا ستراً بالغاً.
ولما كان العاقل من سعى جهده في نفع نفسه، وكان الأذى لعباد الله مظنة لتوقع الغضب منه وقادحاً فيما يرجى من إحسانه قال: {للذين} وعبر في موضع {أساؤوا إليهم} بقوله تعالى: {لا يرجون} أي حقيقة ومجازاً، والتعبير في موضع الخوف بالرجاء لما فيه من الاستجلاب والترغيب والتأليف والاستعطاف، وقال بعد ما نبه عليه- بتلك العبارة من جليل الإشارة: {أيام الله} أي مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال في الأمم الخالية بإدالة الدول تارة لهم وأخرى عليهم، وفيه أعظم ترغيب في الحث على الغفران للموافق في الدين، وتنبيه على أنه لا يقدم على الإساءة إلى عبيده إلا من أعرض عنه، فصار حاله حال الآئس من صنائعه سبحانه في جزائه للمسيء والمحسن في الأيام والليالي، وعبر بالاسم الشريف تنبيهاً على ما له من الجلال والجمال في معاملة كل منهما، قال ابن- برجان: وهذه الآية وشبهها من النسي المذكور في قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها} [البقرة: 106] وليس بنسخ بل هو حكم يجيء ويذهب بحسب القدرة على الانتصار، وكان ينزل مثل هذا بمكة والمسلمون في ضعف، ونزل بعد الهجرة آية الجهاد والأمر بالمعروف، وتركت هذه وأمثالها مسطورة في القرآن لما عسى أن يدور من دوائر أيام الله ومن أيامه إزالة أهل الكفر تنبيهاً للمسلمين ليراجعوا أمرهم ويصلحوا ما بينهم وبين ربهم. ولما كان من قوصص على جنايته في الدنيا، سقط عنه أمرها في الآخرة، وكان المسلط للجاني في الحقيقة إنما هو الله تعالى وكان تسليطه إياه لحكم بالغة تظهر غاية الظهور في الآخرة، علل الأمر بالغفران مهدداً للجاني ومسلياً للمجني عليه: {ليجزي} أي الله في قراءة الجماعة بالتحتانية والبناء للفاعل، ونحن بما لنا من العظمة في قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون، وبناه أبو جعفر للمفعول فيكون النائب عن الفاعل الخير أو الشر بتقدير حرف الجر لجزائهم في الدنيا وفي الآخرة حيث يظهر الحكم وينجلي الظلم.
ولما كان ربما جوزي جميع الجناة، وربما عفي عن بعضهم بالتوبة عليه أو غيرها تفضلاً لحكم أخرى ويثاب المظلوم على ظلامته لمثل ذلك قال: {قوماً} أي من الجناة وإن كانوا في غاية العلو الكبرياء والجبروت ومن المجني عليهم وإن كانوا في غاية الضعف {بما} أي بسبب الذي {كانوا} أي في جبلاتهم وأبرزوه إلى الخارج
{يكسبون} أي يفعلون على ظن أنه ينفعهم أو بسبب كسبهم من خير أو شر، والحاصل أنه تعالى يقول: أعرض عمن ظلمك، وكل أمره إليّ فإني لا أظلمك ولا أظلم أحداً، فسوف أجزيك على صبرك، أجزيه على بغيه وأنا قادر، وأفادت قراءة أبي جعفر الإبلاغ في تعظيم الفاعل وأنه معلوم، وتعظيم ما أقيم مقامه وهو الجزاء بجعله عمدة مسنداً إليه؛ لأن عظمته على حسب ما أقيم مقامه، فالتقدير لكون الفعل يتعدى إلى مفعولين كما قال تعالى (وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً} [الدهر: 12] ليجزي الملك الأعظم الجزاء الأعظم من الخير للمؤمن والشر للكافر قوماً، فجعل الجزاء كالفاعل وإن- كان مفعولاً كما جعل "زيد "فاعلاً في مات زيد وإن كان مفعولاً في المعنى: تنبيهاً على عظيم تأثير الفعل فإنه لا انفكاك عنه؛ لأنه يجعل متمكناً من المجزي تمكن المجزي- من جزائه ومحيصاً به؛ لأن الله تعالى بعظيم قدرته يجعل عمل الإنسان نفسه جزاء له، قال الله تعالى {سيجزيهم وصفهم} [الأنعام: 139] بما كانوا يعملون، ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير "الذين" بالنظر إلى لفظه فيكون المعنى: سيجزي الذين آمنوا ناساً كانوا أقوياء على القيام في أذاهم بسبب أذاهم لهم- فيجعل كلاًّ منهم فداء لكل منهم من النار، وربما رأوا بعض آثار ذلك في الدنيا. روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد إلا رفعه الله عز وجل" ولأحمد والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
توجيه كريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله. تسامح المغفرة والعفو. وتسامح القوة والاستعلاء. وتسامح الكبر والارتفاع. والواقع أن الذين لا يرجون أيام الله مساكين يستحقون العطف أحياناً بحرمانهم من ذلك النبع الفياض، الذي يزخر بالنداوة والرحمة والقوة والثراء. نبع الإيمان بالله، والطمأنينة إليه، والاحتماء بركنه، واللجوء إليه في ساعات الكربة والضيق. وحرمانهم كذلك من المعرفة الحقيقية المتصلة بصميم النواميس الكونية وما وراءها من القوى والثروات. والمؤمنون الذين يملكون كنز الإيمان وذخره، ويتمتعون برحمته وفيضه أولى بالمغفرة لما يبدو من أولئك المحرومين من نزوات وحماقات. هذا من جانب. ومن الجانب الآخر، ليترك هؤلاء المؤمنون الأمر كله لله يتولى جزاء المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته. ويحسب لهم العفو والمغفرة عن المساءة في سجل الحسنات. ذلك فيما لا يظهر الفساد في الأرض، ويعتدي على حدود الله وحرماته بطبيعة الحال: (ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إن كانت هذه متصلة بالآي التي قبلها في النزول ولم يصح ما روي عن ابن عباس في سبب نزولها، فمناسبة وقعها هنا أن قوله: {ويل لكل أفّاك أثيم} إلى قوله: {لهم عذاب من رجز أليم} [الجاثية: 7 11] يثير غضب المسلمين على المستهزئين بالقرآن. وَقد أخذ المسلمون يعتزون بكثرتهم فكان ما ذكر من استهزاء المشركين بالقرآن واستكبارهم عن سماعه يتوقع منه أن يبطش بعض المسلمين ببعض المشركين، ويحتمل أن يكون بَدَرَ من بعض المسلمين غضب أو توعد وأن الله علم ذلك من بعضهم.
قال القرطبي والسدي: نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة أصابهم أذى شديد من المشركين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله بالتجاوز عن ذلك لمصلحة في استبقاء الهدوء بمكة والمتاركة بين المسلمين والمشركين ففي ذلك مصالح جمّة من شيوع القرآن بين أهل مكة وبين القبائل النازلين حولها فإن شيوعه لا يخلو من أن يأخذ بمجامع قلوبهم بالرغم على ما يبدونه من إِعراض واستكبار واستهزاء فتتهَيَّأ نفوسهم إلى الدخول في الدين عند زوال ممانعة سادتهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبعد استئصال صناديد قريش يوم بدر. وقد تكرر في القرآن مثل هذا من الأمر بالصفح عن المشركين والعفو عنهم والإعراض عن أذاهم، ولكن كان أكثر الآيات أمراً للنبيء صلى الله عليه وسلم في نفسه وكانت هذه أمراً له بأن يبلغ للمؤمنين ذلك، وذلك يشعر بأن الآية نزلت في وقت كان المسلمون قد كثروا فيه وأحسّوا بعزتهم. فأمروا بالعفو وأن يكلوا أمر نصرهم إلى الله تعالى، وإن كانت نزلت على سبب خاص عرض في أثناء نزول السورة فمناسبتها لأغراض السورة واضحة لأنها تعليم لما يصلح به مقام المسلمين بمكة بين المضادين لهم واحتمال ما يلاقونه من صَلفهم وتجبرهم إلى أن يقضي الله بينهم.
وقد روي في سبب نزولها أخبار متفاوتة الضعف، فروى مكي بن أبي طالب أن رجلاً من المشركين شتم عمر بن الخطاب فَهَمّ أن يبطش به قال ابن العربي: « وهذا لم يصح». وفي « الكشاف» أن عمر شتمه رجل من غِفار فَهَمَّ أن يبطش به فنزلت. وعن سعيد بن المسيب « كنا بين يدي عمر بن الخطاب فقرأ قارىء هذه الآية فقال عمر: ليَجزِيَ عُمَرَ بما صنع» يعني أنه سبب نزول الآية. وروى الواحدي والقشيري عن ابن عباس: إنها نزلت في غزوة بني المصطلق: نزلوا على بئر يقال لها: المُرَيْسِيع فأرسَل عبدُ الله بن أُبَيّ غلامه ليستقي من البئر فأبطأ، فلما أتاه قال: ما حسبك. قال: غلام عُمر قعد على فم البئر فما ترك أحداً يسقي حتى مَلأ قِرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم وقِرَب أبي بكر ومَلأ لمولاه، فقال عبد الله بن أُبيّ: ما مَثلُنا ومثَلُ هؤلاء إلا كما قال القائل: « سَمِّن كلبَك يأكُلك» فهَمَّ عمر بن الخطاب بقتله، فنزلت.
وروى ابن مهران عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} [البقرة: 245] الآية قال فنحاص اليهودي: احتاج ربّ محمد، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه فنزلت الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فلما جاء قال: ضع سيفك. وهاتان روايتان ضعيفتان ومن أجلهما روي عن عطاء وقتادة وابن عباس أن هذه الآية مدنية.
وأقرب هذه الأخبار ما قاله مكي بن أبي طالب. ولو صحت ما كان فيه ما يفكك انتظام الآيات سواء صادف نزولها تلك الحادثة أو أمر الله بوضعها في هذا الموضع.
وجزْم {يغفروا} على تقدير لام الأمر محذوفاً، أي قل لهم ليغفروا، أو هو مجزوم في جواب {قل}، والمقول محذوف دل عليه الجواب. والتقدير: قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا. وهذا ثقة بالمؤمنين أنهم إذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم امتثلوا. والوجهان يتأتَّيان في مثل هذا التركيب كلما وقع في الكلام، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} في سورة إبراهيم (31).
و {الذين لا يرجون أيام الله} يراد بهم المشركون من أهل مكة.
والرجاء: ترقب وتطلب الأمر المحبوب، وهذا أشهر إطلاقاته وهو الظاهر في هذه الآية.
والأيام: جمع يوم، وهذا الجمع أو مفرده إذا أضيف إلى اسم أحد أو قوم أو قبيلة كان المراد به اليوم الذي حصل فيه لمَن أضيف هو إليه نَصر وغلب على معاند أو مُقاتل، ومنه أطلق على أيام القتال المشهورة بين قبائل العرب: أيامُ العرب، أي التي كان فيها قتال بين قبائل منهم فانتصر بعضهم على بعض...
ومحمل {أيام الله} على محمل أمثاله أن معنى الآية للذين لا تترقب نفوسهم أيام نصر الله، أي نصر الله لهم: إما لأنهم لا يتوكلون على الله ولا يستنصرونه بل توجّههم إلى الأصنام، وإما لأنهم لا يخطر ببالهم إلا أنهم منصورون بحولهم وقوتهم فلا يخطر ببالهم سؤال نصر الله أو رجاؤه وهم معروفون بهذه الصلة بين المسلمين فلذلك أجريت عليهم هنا وعرفوا بها.
وأوثر تعريفهم بهذه الصلة ليكون في ذلك تعريض بأن الله ينصر الذين يرجون أيام نصره وهم المؤمنون. والغرض من هذا التعريض الإيماء بالموصول إلى وجه أمر المؤمنين أن يغفِروا للمشركين ويصفحوا عن أذى المشركين ولا يتكلفوا الانتصار لأنفسهم لأن الله ضمن لهم النصر.
وقد يطلق {أيام الله} في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم، وهو أحد تفسيرين لقوله تعالى: {وذَكِّرهم بأيام الله} [إبراهيم: 5].
ومعنى {لا يرجون أيام الله} على هذا التأويل أنهم في شغل عن ترقب نعم الله بما هم فيه من إسناد فعل الخير إلى أصنامهم بانكبابهم على عبادة الأصنام دون عبادة الله ويأتي في هذا الوجه من التعريض والتحريض مثل ما ذكر في الوجه الأول لأن المؤمنين هم الذين يرجون نعمة الله. وفسر به قوله تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} [الفرقان: 21] وقوله: {ما لكم لا تَرْجَون لله وقاراً} [نوح: 13]، فيكون المراد ب {أيام الله}: أيام جزائه في الآخرة لأنها أيام ظهور حكمه وعزته فهي تقارب الأيام بالمعنى الأول، ومنه قوله تعالى: {ذلك اليوم الحقّ} [النبأ: 39]، أي ذلك يوم النصر الذي يحق أن يطلق عليه (يوم) فيكون معنى هذه الآية: أنهم لا يخافون تمكن الله من عقابهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث.
ومعنى الآية أن المؤمنين أمروا بالعفو عن أذى المشركين وقد تكرر ذلك في القرآن قال تعالى: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186]. وفي « صحيح البخاري» عن أسامة بن زيد في هذه الآية: وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى.
وقوله: {ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون} تعليل للأمر المستفاد من قوله: {يغفروا} أي ليغفروا ويصفحوا عن أذى المشركين فلا ينتصروا لأنفسهم ليجزيهم الله على إيمانهم وعلى ما أوذوا في سبيله فإن الانتصار للنفس توفية للحق وماذا عساهم يبلغون من شفاء أنفسهم بالتصدّي للانتقام من المشركين على قلتهم وكثرة أولئك فإذا توكلوا على نصر ربّهم كان نصره لهم أتم وأخضد لشوكة المشركين كما قال نوح {إني مغلوب فانتصر} [القمر: 10]. وهذا من معنى قوله تعالى: {وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85]. وكان مقتضى الظاهر أن يقال ليجزيهم بما كانوا يكسبون، فعدل إلى الإظهار في مقام الإضمار ليكون لفظُ {قوماً} مشعراً بأنهم ليسوا بمضيعة عند الله فإن لفظ (قوم) مشعر بفريق له قِوامه وعزته {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا} [محمد: 11].
وتنكير {قوماً} للتعظيم، فكأنه قيل: ليجزي أيما قوم، أي قوماً مخصوصين. وهذا مدح لهم وثناء عليهم... قيل: والأظهر أن {قوماً} مراد به الإبهام وتنوينه للتنكير فقط.
والمعنى: ليجزي الله كل قوم بما كانوا يكسبون من خير أو شر بما يناسب كسبهم فيكون وعيداً للمشركين المعتدين على المؤمنين ووعداً للمؤمنين المأمورين بالصفح والتجاوز عن أذى المشركين، وهذا وجه عدم تعليق الجزاء بضمير الموقنين لأنه أريد العموم فليس ثمة إظهار في مقام الإضمار ويؤيد هذا قوله: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} [فصلت: 46]. وهذا كالتفصيل للإجمال الذي في قوله: {ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون}. ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف على سابقتها، وتقدم نظيره في سورة فصّلت. وقرأ الجمهور {ليجزي قوماً} بتحتية في أوله، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {يَرْجُونَ أَيَّامَ}. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بنون العظمة في أوله على الالتفات. وقرأه أبو جعفر بتحتية في أوله مضمومة وبفتح الزاي على البناء للمجهول ونَصبَ {قوماً}. وتأويلها أن نائب الفاعل مصدر مأخوذ من فعل (يُجْزي). والتقدير: ليجزَى الجزاءُ. {وقوماً} مفعول ثان لفعل (يجزى) من باب كسا وأعطى. وليس هذا من إنابة المصدر الذي هو مفعول مطلق وقد منعه نحاة البصرة بل جعل المصدر مفعولاً أول من باب أعطى وهو في المعنى مفعول ثان لفعل جزى، وإنابة المفعول الثاني في باب كسا وأعطى متفق على جوازه وإن كان الغالب إنابة المفعول الأول كقوله تعالى: {ثم يُجزاه الجزاءَ الأوفى} [النجم: 41].