( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ، ويهديك صراطا مستقيما ، وينصرك الله نصرا عزيزا ) . .
تفتتح السورة بهذا الفيض الإلهي على رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] : فتح مبين . ومغفرة شاملة . ونعمة تامة . وهداية ثابتة . ونصر عزيز . . إنها جزاء الطمأنينة التامة لإلهام الله وتوجيهه . والاستسلام الراضي لإيحائه وإشارته . والتجرد المطلق من كل إرادة ذاتية . والثقة العميقة بالرعاية الحانية . . يرى الرؤيا فيتحرك بوحيها . وتبرك الناقة ، ويتصايح الناس : خلأت القصواء . فيقول . " ما خلأت . وما هو لها بخلق . ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلى أعطيتهم إياها " . . ويسأله عمر بن الخطاب في حمية : فلم نعطي الدنية في ديننا ? فيجيبه : " أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني " . . ذلك وحين يشاع أن عثمان قتل يقول [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا نبرح حتى نناجز القوم " . . ويدعو الناس إلى البيعة ، فتكون بيعة الرضوان التي فاض منها الخير على الذين فازوا بها وسعدوا .
وكان هذا هو الفتح ؛ إلى جانب الفتح الآخر الذي تمثل في صلح الحديبية ، وما أعقبه من فتوح شتى في صور متعددة :
كان فتحا في الدعوة . يقول الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه . إنما كان القتال حيث التقى الناس . فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس بعضهم بعضا ، والتقوا ، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه . ولقد دخل في تينك السنتين " بين صلح الحديبية وفتح مكة " مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر .
قال ابن هشام : والدليل على قول الزهري أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله . ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف .
وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .
وكان فتحا في الأرض . فقد أمن المسلمون شر قريش ، فاتجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودي - بعد التخلص من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة - وكان هذا الخطر يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام . وقد فتحها الله على المسلمين ، وغنموا منها غنائم ضخمة ، جعلها الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيمن حضر الحديبية دون سواهم .
وكان فتحا في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها . يقول الأستاذ محمد عزة دروزة بحق في كتابه : [ سيرة الرسول . صور مقتبسة من القرآن الكريم ] :
" ولا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق . بل إنه ليصح أن يعد من الأحداث الحاسمة العظمى في السيرة النبوية ، وفي تاريخ الإسلام وقوته وتوطده ، أو بالأحرى من أعظمها . فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما ، واعتبرت النبي والمسلمين أندادا لها ، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن ، في حين أنها غزت المدينة في سنتين مرتين ، وكانت الغزوة الأخيرة قبل سنة من هذه الزيارة وبحشد عظيم مؤلف منها ومن أحزابها لتستأصل شأفتهم ، وبعثت هذه الغزوة في نفوس المسلمين أشد الاضطراب والهلع لضعفهم وقلتهم إزاء الغزاة . ولهذا شأن عظيم في نفوس العرب ، الذين كانوا يرون في قريش الإمام والقدوة ، والذين كانوا متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر . وإذا لوحظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة ، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون . بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبعد مداه .
" ولقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيما فعل ، وأيده فيه القرآن ، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه . إذ قووا في عيون القبائل ، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار ، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتا وشأنهم ضآلة ، وإذ صار العرب يفدون على النبي[ صلى الله عليه وسلم ] من أنحاء قاصية ، وإذ تمكن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام ، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء ، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها ، وكان في ذلك النهاية الحاسمة ، إذ جاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجا " . .
ونحن نعود فنؤكد أنه كان هناك - إلى جانب هذا كله - فتح آخر . فتح في النفوس والقلوب ، تصوره بيعة الرضوان ، التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك الرضى الذي وصفه القرآن . ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة : محمد رسول الله . والذين معه . . . الخ . فهذا فتح في تاريخ الدعوات له حسابه ، وله دلالته ، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ .
ولقد فرح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بهذه السورة . فرح قلبه الكبير بهذا الفيض الرباني عليه وعلى المؤمنين معه . فرح بالفتح المبين . وفرح بالمغفرة الشاملة ، وفرح بالنعمة التامة ، وفرح بالهداية إلى صراط الله المستقيم . وفرح بالنصر العزيز الكريم . وفرح برضى الله عن المؤمنين ووصفهم ذلك الوصف الجميل . وقال - في رواية - : " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها " . . وفي رواية : " لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " . . وفاضت نفسه الطيبة بالشكر لربه على ما أولاه من نعمته . فاضت بالشكر في صورة صلاة طويلة مديدة ، تقول عنها عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى قام حتى تنفر رجلاه ، فقالت له عائشة - رضي الله عنها - يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ? فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ? " . .
وقوله : { ليغفر لك الله } بدل اشتمال من ضمير { لك } . والتقدير : إنا فتحنا فتحاً مبيناً لأجلك لغفران الله لك وإتمام نعمته عليك ، وهدايتك صراطاً مستقيماً ونصرك نصراً عزيزاً . . . وجُعلت مغفرة الله للنبيء صلى الله عليه وسلم علة للفتح لأنها من جملة ما أراد الله حصوله بسبب الفتح ، وليست لام التعليل مُقتضية حَصْرَ الغرض من الفعل المعلل في تلك العلة ، فإن كثيراً من الأشياء تكون لها أسباب كثيرة فيذكر بعضها ممّا يقتضيه المقام وإذ قد كان الفتح لكرامة النبيء صلى الله عليه وسلم على ربه تعالى كان من علته أن يغفر الله لنبيئه صلى الله عليه وسلم مغفرة عامة إتماماً للكرامة فهذه مغفرة خاصة بالنبيء صلى الله عليه وسلم هي غير المغفرة الحاصلة للمجاهدين بسبب الجهاد والفتح .
فالمعنى : أن الله جعل عند حصول هذا الفتح غفران جميع ما قد يؤاخذ الله على مثله رسلَه حتى لا يبقى لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يقصر به عن بلوغ نهاية الفضل بين المخلوقات . فجعل هذه المغفرة جزاء له على إتمام أعماله التي أرسل لأجلها من التبليغ والجهاد والنَصب والرغبة إلى الله . فلما كان الفتح حاصلاً بسعيه وتسببه بتيسير الله له ذلك جعل الله جزاءه غفران ذنوبه بعظم أثر ذلك الفتح بإزاحة الشرك وعلوّ كلمة الله تعالى وتكميل النفوس وتزكيتها بالإيمان وصالح الأعمال حتى ينتشر الخير بانتشار الدين ويصير الصلاح خُلقاً للناس يقتدي فيه بعضُهم ببعض وكل هذا إنما يناسب فتح مكة وهذا هو ما تضمنته سورة { إذا جاء نصر الله } من قوله : { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } [ النصر : 1 3 ] أي إنه حينئذٍ قد غفر لك أعظم مغفرة وهي المغفرة التي تليق بأعظمِ من تَابَ على تائب ، وليست إلا مغفرة جميع الذنوب سابقها وما عسى أن يأتي منها مِما يعده النبيء صلى الله عليه وسلم ذنباً لشدة الخشية من أقل التقصير كما يقال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وإن كان النبيء صلى الله عليه وسلم معصوماً من أن يأتي بعدها بما يؤاخَذ عليه . وقال ابن عطية : وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب ، ولهذا المعنى اللَّطيف الجليل كانت سورة { إذا جاء نصر الله } مؤذنة باقتراب أجل النبيء صلى الله عليه وسلم فيما فهم عمر بن الخطاب وابن عباس ، وقد روي ذلك عن النبيء صلى الله عليه وسلم .
والتقدم والتأخر من الأحوال النسبية للموجودات الحقيقية أو الاعتبارية يقال : تقدم السائر في سيره على الركب ، ويقال : تقدم نزول سورة كذا على سورة كذا ولذلك يكثر الاحتياج إلى بيان ما كان بينهما تقدم وتأخر بذكر متعلق بفعل تقدم وتأخّر .
وقد يترك ذلك اعتماداً على القرينة ، وقد يقطع النظر على اعتبار متعلِّق فيُنزَّل الفعل منزلة الأفعال غير النسبية لقصد التعميم في المتعلقات وأكثر ذلك إذا جمع بين الفعلين كقوله هنا { ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] . والمراد ب { ما تقدم } : تعميم المغفرة للذنب كقوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } [ البقرة : 255 ] ، فلا يقتضي ذلك أنه فرط منه ذنب أو أنه سيقع منه ذنب وإنما المقصود أنه تعالى رَفَعَ قَدره رفعَة عدم المؤاخذة بذنب لو قُدر صدوره منه وقد مضى شيء من بيان معنى الذنب عند قوله تعالى : { واستغفر لذنبك } في سورة القتال ( 55 ) .
وإنما أسند فعل { ليغفر } إلى اسم الجلالة العلَم وكان مقتضى الظاهر أن يسند إلى الضمير المستتر قصداً للتنويه بهذه المغفرة لأن الاسم الظاهر أنفذ في السمع وأجلب للتنبيه وذلك للاهتمام بالمسند وبمتعلقه لأن هذا الخبر أُنف لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم علم به ولذلك لم يبرز الفاعل في { ويُتمّ نعمته عليك ويهديك } لأن إنعام الله عليه معلوم وهدايته معلومة وإنما أخبر بازديادهما .
وإتمام النعمة : إعطاء ما لم يكن أعطاه إياه من أنواع النعمة مثل إسلام قريش وخلاص بلاد الحجاز كلّها للدخول تحت حكمه ، وخضوع من عانده وحاربه ، وهذا ينظر إلى قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] فذلك ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الآية وحصل بعد سنين .
ومعنى { ويهديك صراطاً مستقيماً } : يزيدك هديا لم يسبق وذلك بالتوسيع في بيان الشريعة والتعريف بما لم يسبق تعريفه به منها ، فالهداية إلى الصراط المستقيم ثابتة للنبيء صلى الله عليه وسلم من وقت بعثته ولكنها تزداد بزيادة بيان الشريعة وبسعة بلاد الإسلام وكثرة المسلمين مما يدعو إلى سلوك طرائق كثيرة في إرشادهم وسياستهم وحماية أوطانهم ودفع أعدائهم ، فهذه الهداية متجمعة من الثبات على ما سبق هديُه إليه ، ومن الهداية إلى ما لم يسبق إليه وكل ذلك من الهداية .
والصراط المستقيم : مستعار للدين الحق كما تقدم في سورة الفاتحة . وتنوين { صراطاً } للتعظيم . وانتصب { صراطاً } على أنه مفعول ثان ل { يهدي } بتضمين معنى الإعطاء ، أو بنزع الخافض كما تقدّم في الفاتحة .
النصر العزيز : غير نصر الفتح المذكور لأنه جعل علة الفتح فهو ما كان من فتح مكة وما عقبه من دخول قبائل العرب في الإسلام بدون قتال .
وبعثهم الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقوا أحكام الإسلام ويُعلموا أقوامهم إذا رجعوا إليهم . ووصف النصر بالعزيز مجاز عقلي وإنما العزيز هو النبي صلى الله عليه وسلم المنصور ، أو أريد بالعزيز المعز كالسميع في قول عمرو بن معد يكرب :
قال الشافعي: أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم، أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يعني قول الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اَللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} يعني: ـ والله أعلم ـ ما تقدم من ذنبه قبل الوحي، وما تأخر: أن يعصمه فلا يذنب. فعلم ما يفضل به من رضاه عنه، وأنه أول شافع، وأول مشفع يوم القيامة، وسيد الخلائق. (مناقب الشافعي: 1/424. ون الأم: 7/294. وأحكام الشافعي: 1/37-38.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم" إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا "يقول: إنا حكمنا لك يا محمد حكما لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر، لتشكر ربك، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم، وفتحه ما فتح لك، ولتسبحه وتستغفره، فيغفر لك بفعالك ذلك ربك ما تقدّم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح، وما تأخّر بعد فتحه لك ذلك ما شكرته واستغفرته.
وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عزّ وجلّ "إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْح، ورأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا، فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا" على صحته، إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة، وأن يستغفره، وأعلمه أنه توّاب على من فعل ذلك، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تعالى ذكره: "لَيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخّرَ" إنما هو خبر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام عن جزائه له على شكره له، على النعمة التي أنعم بها عليه من إظهاره له ما فتح، لأن جزاء الله تعالى عباده على أعمالهم دون غيرها.
وبعد ففي صحة الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم حتى ترِم قدماه، فقيل له: يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفَلا أكُونُ عَبْدا شَكُورا؟»، الدلالة الواضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول، وأن الله تبارك وتعالى، إنما وعد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة، فتح ما فتح عليه، وبعده على شكره له، على نعمه التي أنعمها عليه. وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأَسْتَغْفِرُ اللّهَ وأتُوبُ إلَيْهِ فِي كُلّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرّةٍ» ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى نبيه أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا، لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية، ولا لاستغفار نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ربه جلّ جلاله من ذنوبه بعدها معنى يعقل، إذ الاستغفار معناه: طلب العبد من ربه عزّ وجلّ غفران ذنوبه، فإذا لم يكن ذنوب تغفر، لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى، لأنه من المحال أن يقال: اللهمّ اغفر لي ذنبا لم أعمله. وقد تأوّل ذلك بعضهم بمعنى: ليغفر لك ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر إلى الوقت الذي قال: "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ"... وقوله تعالى: "وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ" بإظهاره إياك على عدوّك، ورفعه ذكرك في الدنيا، وغفرانه ذنوبك في الآخرة.
"ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما" يقول: ويرشدك طريقك من الدين لا اعوجاج فيه، يستقيم بك إلى رضا ربك. "وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْرا عَزِيزا" يقول: وينصرك على سائر أعدائك، ومن ناوأك نصرا، لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، للبأس الذي يؤيدك الله به، وبالظفر الذي يمدّك به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر} يخرّج على وجهين:
أحدهما: يرجع إلى ذنبه؛ أخبر أنه غفر له، ثم لا يجوز لنا أن نبحث عن ذنبه، ونتكلّف البحث أنه ما كان ذنبُه؟ وإيش كانت زلّتُه؟ لأن البحث عن زلّته مما يوجب النقص فيه؛ فمن يتكلّف البحث عن ذلك فيُخاف عليه الكفر. لكن ذنبه وذنب سائر الأنبياء عليهم السلام ليس نظير ذنبنا؛ إذ ذنبهم بمنزلة فعل مباح منا لكنهم نُهوا عن ذلك، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذبك وما تأخر} أن يغفر ذنبه ابتداء غفران، أي عصمه عن ذلك، وذلك جائز في اللغة، والله أعلم.
والوجه الثاني: يرجع إلى ذنوب أمّته، أي ليغفر لك الله ذنوب أمّتك، وهو ما يشفع لأمّته، فيغفر لأمّته بشفاعته، وهو كما رُوي في الخبر (يُغفر للمؤذن مدّ صوته) [أحمد: 2/136] أي يجعل له الشفاعة. فعلى ذلك جائز أن يكون قوله تعالى: {ليغفر لك الله} أن يغفر لأمّته بشفاعته، والله أعلم.
وقوله تعالى: {ويُتمّ نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} يحتمل إتمام نعمته عليه هو ما ذكرنا من الرسالة والنُّبوّة وفتح ما ذكر من أبواب الخيرات والحكمة في الدنيا والآخرة، أو الشفاعة له في الآخرة أو إظهار دينه على الأديان كلّها، أو إياس أولئك الكفرة عن عوده إلى دينهم كقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية [المائدة: 3] والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... فإتمام النعمة فعل ما يقتضيها من تبقيتها على صاحبها والزيادة منها، فالله تعالى قد أنعم على النبي" صلى الله عليه وآله "وتممها بنصره على أعدائه الرادين لها المكذبين بها حتى علا بالحجة والقهر لكل من ناوأه. وقيل يتم نعمته عليك بفتح مكة وخيبر والطائف. وقيل بخضوع من تكبر وطاعة من تجبر...
وقوله: "ويهديك صراطا مستقيما" أي يرشدك إلى الطريق الذي إذا سلكته أداك إلى الجنة، لا يعدل بك إلى غيرها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم عظم الله أمر نبيه بأن نبأه أنه غفر له {ما تقدم} من ذنبه {وما تأخر}، فقوله: {ليغفر} هي لام كي، لكنها تخالفها في المعنى والمراد هنا أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك، فكأنها لام صيرورة، ولهذا قال عليه السلام: «لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا». وقال الطبري وابن كيسان المعنى: {إنا فتحنا لك} فسبح بحمد ربك واستغفره ليغفر لك، وبنيا هذه الآية مع قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} [النصر: 1] السورة إلى آخرها.
وهذا ضعيف من وجهين أحدهما: أن سورة، {إذا جاء نصر الله والفتح} [النصر: 1] إنما نزلت من أخر مدة النبي عليه السلام ناعية له نفسه حسبما قال ابن عباس عندما سأل عمر عن ذلك. والآخر: أن تخصيص النبي عليه السلام بالتشريف كان يذهب، لأن كل أحد من المؤمنين هو مخاطب بهذا الذي قال الطبري، أي سبح واستغفر لكي يغفر الله، ولا يتضمن هذا أن الغفران قد وقع، وما قدمناه أولاً يقتضي وقوع الغفران للنبي عليه السلام، ويدل على ذلك قول الصحابة له حين قام حتى تورمت قدماه: أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبداً شكوراً»؟ فهذا نص في أن الغفران قد وقع. وقال منذر بن سعيد المعنى: مجاهدتك بالله المقترنة بالفتح هي ليغفر. وحكى الثعلبي عن الحسن بن الفضل أن المعنى: {إنا فتحنا لك} فاستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات {ليغفر لك} الآية، وهذا نحو قول الطبري.
وقوله: {ما تقدم من ذنبك وما تأخر} قال سفيان الثوري: {ما تقدم} يريد قبل النبوءة. {وما تأخر} كل شيء لم تعلمه وهذا ضعيف، وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب البتة.
وأجمع العلماء على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل، وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل، واختلفوا هل وقع ذلك من محمد عليه السلام أو لم يقع...
وإتمام النعمة عليه، هو إظهاره وتغلبه على عدوه والرضوان في الآخرة.
المسألة الثانية: قوله {ليغفر لك الله} ينبئ عن كون الفتح سببا للمغفرة، والفتح لا يصلح سببا للمغفرة، فما الجواب عنه؟ نقول: الجواب عنه من وجوه:
(الأول) ما قيل إن الفتح لم يجعله سببا للمغفرة وحدها، بل هو سبب لاجتماع الأمور المذكورة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة والهداية والنصرة، كأنه تعالى قال: ليغفر لك الله ويتم نعمته ويهديك وينصرك، ولا شك أن الاجتماع لم يثبت إلا بالفتح، فإن النعمة به تمت، والنصرة بعده قد عمت.
(الثاني) هو أن فتح مكة كان سببا لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان، وتطهير بيته صار سببا لتطهير عبده.
(الثالث) هو أن بالفتح يحصل الحج، ثم بالحج تحصل المغفرة، ألا ترى إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال في الحج: «اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا».
(الرابع) المراد منه التعريف، تقديره {إنا فتحنا لك} ليعرف أنك مغفور، معصوم، فإن الناس كانوا علموا بعد عام الفيل أن مكة لا يأخذها عدو الله المسخوط عليه، وإنما يدخلها ويأخذها حبيب الله المغفور له. المسألة الثالثة: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ذنب، فماذا يغفر له؟ قلنا الجواب عنه قد تقدم مرارا من وجوه؛
(رابعها) المراد العصمة، وقد بينا وجهه في سورة القتال. المسألة الرابعة: ما معنى قوله {وما تأخر}؟ نقول فيه وجوه؛
(أحدها) أنه وعد النبي عليه السلام بأنه لا يذنب بعد النبوة،
(ثانيها) ما تقدم على الفتح، وما تأخر عن الفتح،
(ثالثها) العموم يقال اضرب من لقيت ومن لا تلقاه، مع أن من لا يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم،
(رابعها) من قبل النبوة ومن بعدها، وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة...
{ويتم نعمته عليك} يحتمل وجوها:
(أحدها) هو أن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج، وهو آخر التكاليف، والتكاليف نعم،
(ثانيها) يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض لك عن معانديك، فإن يوم الفتح لم يبق للنبي عليه الصلاة والسلام عدو ذو اعتبار، فإن بعضهم كانوا أهلكوا يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح،
(ثالثها) ويتم نعمته عليك في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح، وفي الآخرة بقول شفاعتك في الذنوب ولو كانت في غاية القبح. وقوله تعالى: {ويهديك صراطا مستقيما} يحتمل وجوها؛
أظهرها: يديمك على الصراط المستقيم حتى لا يبقى من يلتفت إلى قوله من المضلين، أو ممن يقدر على الإكراه على الكفر، وهذا يوافق قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا} حيث أهلكت المجادلين فيه، وحملتهم على الإيمان،
(وثانيها) أن يقال جعل الفتح سببا للهداية إلى الصراط المستقيم، لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بالفوائد العاجلة بالفتح والآجلة بالوعد، والجهاد سلوك سبيل الله، ولهذا يقال للغازي في سبيل الله مجاهد،
(وثالثها) ما ذكرنا أن المراد التعريف، أي ليعرف أنك على صراط مستقيم، من حيث إن الفتح لا يكون إلا على يد من يكون على صراط الله...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}: هذا من خصائصه -صلوات الله وسلامه عليه- التي لا يشاركه فيها غيره. وليس صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو -صلوات الله وسلامه عليه- في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله لله، وأكثرهم تعظيما لأوامره ونواهيه. قال حين بركت به الناقة: "حبسها حابس الفيل " ثم قال: " والذي نفسي بيده، لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها " فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح، قال الله له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: في الدنيا والآخرة، {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر سبحانه بالفتح عقب سورة {الذين كفروا} بشارة بظهور أهل هذا الدين وإدبار الكافرين -كما سيأتي في إيلاء سورة النصر بسورة الكافرين، لذلك علل الفتح- بالمغفرة وما بعدها رمزاً إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- بروحي هو وأبي وأمي -وإيماء إلى أن المراد من إخراجه إلى دار الفناء إنما هو- إظهار الدين القيم وإزهاق الباطل لتعلو درجته وتعظم رفعته، فعند حصول الفتح ثم المراد كما كانت سورة النصر- الوالية للكافرين رامزة إلى ذلك كما هو مشهور ومذكور ومسطور، فالفتح الذي هو أحد العلامات الثلاث المذكورة كما في سورة النصر على جميع المناوين، الذي هو السبب الأعظم في ظهور دينه على الدين كله الذي هو العلامة العظمى على اقتراب أجله- نفسي فداؤه وإنسان عيني من كل سوء وقاؤه -فقال تعالى: {ليغفر لك الله} مشيراً بالانتقال من أسلوب العظمة بالنون إلى أسلوب الغيبة المشير إلى غاية الكبرياء بالإسناد إلى الاسم الأعظم إلى أن هذه المغفرة بحسب إحاطة هذا الاسم الجامع لجميع الأسماء الحسنى: {ما تقدم من ذنبك} أي الذي تقدم في القتال أمرك بالاستغفار له وهو مما ينتقل به من مقام كامل إلى مقام فوقه أكمل منه، فتراه بالنسبة إلى أكملية المقام الثاني ذنباً، وكذا قوله: {وما تأخر} ....
... {ويتم نعمته عليك} بنقلك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن عالم الكون والفساد إلى عالم الثبات والصلاح، الذي هو أخص بحضرته وأولى برحمته وإظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل، ويدحضون شبه الشيطان، ويدمغون كل كفران، وينشرون رايات الإيمان في جميع البلدان، بعد إذلال أهل العدوان، ومحو كل طغيان...
{ويهديك} أي بهداية جميع قومك {صراطاً مستقيماً} أي واضحاً جليلاً جلياً موصلاً إلى المراد من كتاب لا عوج فيه بوجه، هداية تقتضي لزومه والثبات عليه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمعنى: أن الله جعل عند حصول هذا الفتح غفران جميع ما قد يؤاخذ الله على مثله رسلَه حتى لا يبقى لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يقصر به عن بلوغ نهاية الفضل بين المخلوقات...
وإتمام النعمة: إعطاء ما لم يكن أعطاه إياه من أنواع النعمة مثل إسلام قريش وخلاص بلاد الحجاز كلّها للدخول تحت حكمه، وخضوع من عانده وحاربه...
{ويهديك صراطاً مستقيماً}: يزيدك هديا لم يسبق وذلك بالتوسيع في بيان الشريعة والتعريف بما لم يسبق تعريفه به منها، فالهداية إلى الصراط المستقيم ثابتة للنبيء صلى الله عليه وسلم من وقت بعثته ولكنها تزداد بزيادة بيان الشريعة وبسعة بلاد الإسلام وكثرة المسلمين مما يدعو إلى سلوك طرائق كثيرة في إرشادهم وسياستهم وحماية أوطانهم ودفع أعدائهم، فهذه الهداية متجمعة من الثبات على ما سبق هديُه إليه، ومن الهداية إلى ما لم يسبق إليه وكل ذلك من الهداية...