يمتن الله في هذه السورة على قريش ببيته الحرام الذي دفع عنه أعداءه ، وأسكنهم بجواره ، فنالوا الشرف والأمن ، ورحلوا في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، يتاجرون ، لا يتعرض لهم أحد بسوء ، حين يتخطف الناس من حولهم ، وتلك نعمة توجب عليهم عبادة من أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف .
1 - أعجبوا لما يَسَّرْتُ لهم رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام في اطمئنان وأمن للاتجار وابتغاء الرزق .
استجاب الله دعوة خليله إبراهيم ، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) . . فجعل هذا البيت آمنا ، وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين ؛ وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان ، مما فصلته سورة الفيل . وحفظ الله للبيت أمنه ، وصان حرمته ؛ وكان من حوله كما قال الله فيهم : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ? ) .
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف .
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ؛ وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا !
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع ) . . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع ( وآمنهم من خوف ) . . وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف !
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته ! لم يواجهه بصنم ولا وثن ، ولم يقل له . . إن الآلهة ستحمي بيتها . إنما قال له : " أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه " . . ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق ، ولا يثوب إلى حق ، ولا يرجع إلى معقول .
وهي مكية بلا خلاف{[1]} .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي : { لإيلاف قريش إيلافهم } على إفعال ، والهمزة الثانية ياء ، وقرأ ابن عامر «لإلآف » على فعال { إيلافهم } على إفعال بياء في الثانية ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : بهمزتين فيهما الثانية ساكنة ، قال أبو علي : وتحقيق عاصم هاتين الهمزتين لا وجه له ، وقرأ أبو جعفر : «إلْفهم » بلام ساكنة ، و { قريش } ولد النضر بن كنانة ، والتقرش : التكسب ، وتقول : ألف الرجل الأمر وآلفه غيره ، فالله عز وجل آلف قريشاً ، أي جعلهم يألفون رحلتين في العام : رحلة في الشتاء وأخرى في الصيف ، ويقال أيضاً : ألف بمعنى آلف ، وأنشد أبو زيد : [ الطويل ]
من المؤلفات الرمل أدماء حرة . . . شعاع الضحى في جيدها يتوضح{[11995]}
فألف وإلاف مصدر ألف ، و «إيلاف » مصدر آلف ، قال بعض الناس : كانت الرحلتان إلى الشام في التجارة ، وقيل : الأرباح ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
سفرين بينهما له ولغيره . . . سفر الشتاء ورحلة الأصياف{[11996]}
سميت هذه السورة في عهد السلف { سورة لإيلاف قريش } قال عمرو بن ميمون الأودي صلى عمر بن الخطاب المغرب فقرأ في الركعة الثانية { ألم تر كيف } و{ لإيلاف قريش } وهذا ظاهر في إرادة التسمية ولم يعدها في الإتقان في السور التي لها أكثر من اسم .
وسميت في المصاحف وكتب التفسير { سورة قريش } لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها ، وبذلك عنونها البخاري في صحيحه .
والسورة مكية عند جماهير العلماء . وقال ابن عطية : بلا خلاف . وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية ، ولم يذكرها في الإتقان مع السور المختلف فيها .
وقد عدت التاسعة والعشرين في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة التين وقبل سورة القارعة .
وهي سورة مستقلة بإجماع المسلمين على أنها سورة خاصة .
وجعلها أبي بن كعب مع سورة الفيل سورة واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة التي كانوا يجعلونها علامة فصل بين السور ، وهو ظاهر خبر عمرو بن ميمون عن قراءة عمر بن الخطاب . والإجماع الواقع بعد ذلك نقض ذلك .
وعدد آياتها أربع عند جمهور العادين . وعدها أهل مكة والمدينة خمس آيات .
ورأيت في مصحف عتيق من المصاحف المكتوبة في القيروان عددها أربع آيات مع أن قراءة أهل القيروان قراءة أهل المدينة .
أمر قريش بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيرا لهم بنعمة أن الله مكن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عاديا يعدو عليهم .
وبأنه أمنهم من المجاعات وأمنهم من المخاوف لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم لأنهم سكان الحرم وعمار الكعبة .
وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة .
ورد القبائل فلا يغير على بلدهم أحد قال تعالى { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون } فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفا منهم .
افتتاح مُبدع إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثْره بالقرب ما يصلح للتعليق به ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور . وزاده الطول تشويقاً إذ فصل بينه وبين متعلَّقه ( بالفتح ) بخمس كلمات ، فيتعلق { لإيلاف } بقوله : { فليعبدوا } .
وتقديم هذا المجرور للاهتمام به إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام والمجرور متعلق بفعل « ليعبدوا » .
وأصل نظم الكلام : لتَعْبُدْ قريشٌ ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فلما اقتضى قصدُ الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله ، تولَّدَ من تقديمه معنى جعله شرطاً لعامله فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط ، فالفاء الداخلة في قوله : { فليعبدوا } مؤذنة بأن ما قبلها في قوة الشرط ، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه ، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه ، وهذا أسلوب من الإِيجاز بديع .
قال في « الكشاف » : دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى إمَّا لاَ فليعبدوه لإِيلافهم ، أي أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة اه .
وقال الزجاج في قوله تعالى : { وربك فكبر } [ المدثر : 3 ] دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : وما كان فلا تَدَعْ تكبيره اه . وهو معنى ما في « الكشاف » . وسكتا عن منشإ حصول معنى الشرط وذلك أن مثل هذا جار عند تقديم الجار والمجرور ، ونحوه من متعلقات الفعل وانظر قوله تعالى : { وإياي فارهبون } في سورة البقرة ( 40 ) ، ومنه قوله تعالى : { فبذلك فليفرحوا } في سورة يونس ( 58 ) وقوله : { فلذلك فادع واستقم } في سورة الشورى ( 15 ) . وقول النبي للذي سأله عن الجهاد فقال له : ألك أبوان ؟ فقال : نعم . قال : ففيهما فجاهدْ .
ويجوز أن تجعل اللام متعلقة بفعل ( اعْجَبوا ) محذوفاً ينبىء عنه اللام لكثرة وقوع مجرور بها بعد مادة التعجب ، يقال : عجباً لك ، وعجباً لتلك قضية ، ومنه قول امرىء القيس : فيا لَكَ من ليل لأن حرف النداء مراد به التعجب فتكون الفاء في قوله : { فليعبدوا } تفريعاً على التعجيب .
وجوّز الفراء وابن إسحاق في « السيرة » أن يكون { لإيلاف قريش } متعلقاً بما في سورة الفيل ( 5 ) من قوله : { فجعلهم كعصف مأكول } قال القرطبي : وهو معنى قول مجاهد ورواية ابن جبير عن ابن عباس . قال الزمخشري : وهذا بمنزلة التضمين في الشعر وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلاّ به اه . يعنون أن هذه السورة وإن كانت سورة مستقلة فهي ملحقة بسورة الفيل فكما تُلحق الآية بآية نزلت قبلها ، تلحق آيات هي سورة فتتعلق بسورة نزلت قبلها .
والإِيلاف : مصدر أألف بهمزتين بمعنى ألف وهما لغتان ، والأصل هو ألف ، وصيغة الإِفعال فيه للمبالغة لأن أصلها أن تدل على حصول الفعل من الجانبين ، فصارت تستعمل في إفادة قوة الفعل مجازاً ، ثم شاع ذلك في بعض الأفعال حتى ساوى الحقيقة مثل سَافَر ، وعافَاه الله ، وقاتَلَهُم الله .
وقرأه الجمهور في الموضعين { لإيلاف } بياء بعد الهمزة وهي تخفيف للهمزة الثانية . وقرأ ابن عامر « لإلاف » الأول بحذف الياء التي أصلها همزة ثانية ، وقرأه { إيلافهم } بإثبات الياء مثل الجمهور . وقرأ أبو جعفر « لِيلاَف قريش » بحذف الهمزة الأولى . وقرأ « إلافهم » بهمزة مكسورة من غير ياء .
وذكر ابن عطية والقرطبي أن أبا بكر عن عاصم قرأ بتحقيق الهمزتين في « لإِأَلاَفِ » وفي « إِأَلافهم » ، وذكر ابن عطية عن أبي علي الفارسي أن تحقيق الهمزتين لا وجه له . قلت : لا يوجد في كتب القراءات التي عرفناها نسبة هذه القراءة إلى أبي بكر عن عاصم . والمعروف أن عاصماً موافق للجمهور في جعل ثانية الهمزتين ياء ، فهذه رواية ضعيفة عن أبي بكر عن عاصم .
وقد كُتب في المصحف « إلافهم » بدون ياء بعد الهمزة وأما الألف المدّة التي بعد اللام التي هي عين الكلمة فلم تكتب في الكلمتين في المصحف على عادة أكثر المدَّات مثلها ، والقراءات روايات وليس خط المصحف إلا كالتذكرة للقارىء ، ورسم المصحف سُنّة متَّبعة سنَّها الصحابة الذين عُيّنوا لنسخ المصاحف وإضافة « إيلاف » إلى { قريش } على معنى إضافة المصدر إلى فاعله وحذف مفعوله لأنه هنا أطلق بالمعنى الاسمي لتلك العادة فهي إضافة معنوية بتقدير اللام .
وقريش : لقب الجد الذي يجمع بطوناً كثيرة وهو فهر بن مالك بن النضر بن كِنانة . هذا قول جمهور النّسابين وما فوق فِهر فهم من كنانة ، ولُقِّب فهرٌ بلقب قريش بصيغة التصغير وهو على الصحيح تصغير قَرْش ( بفتح القاف وسكون الراء وشين معجمة ) اسم نوع من الحوت قوي يعدو على الحيتان وعلى السفن .
وقال بعض النسابين : إن قريشاً لقب النضر بن كنانة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه سئل منْ قريشٌ ؟ فقال : مَنْ وَلَدَ النضْرُ " . وفي رواية أنه قال : " إنّا وَلَدُ النضر بن كنانة لا نقفو أمَّنا ولا ننتفي من أبينا " . فجميع أهل مكة هم قريش وفيهم كانت مناصب أهل مكة في الجاهلية موزعة بينهم وكانت بنو كنانة بخِيف منى . ولهم مناصب في أعمال الحج خاصة منها النَّسِيء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة قريش مكية في قول الأكثرين، ومدنية في قول الضحاك .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
هي مكية ، نزلت بعد سورة التين . ومناسبتها لما قبلها : أن كلا منهما تضمن ذكر نعمة من نعم الله على أهل مكة : فالأولى تضمنت إهلاك عدوهم الذي جاء ليهدم بيتهم ، وهو أساس مجدهم وعزهم ؛ والثانية ذكرت نعمة أخرى هي اجتماع أمرهم ، والتئام شملهم ، ليتمكنوا من الارتحال صيفا وشتاء في تجارتهم ، وجلب الميرة لهم . ولوثيق الصلة بين السورتين كان أبيّ بن كعب يعتبرهما سورة واحدة ، حتى روي عنه أنه لم يفصل بينهما ببسملة . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في عهد السلف سورة لإيلاف قريش، قال عمرو بن ميمون الأودي صلى عمر بن الخطاب المغرب فقرأ في الركعة الثانية ألم تر كيف ولإيلاف قريش، وهذا ظاهر في إرادة التسمية ولم يعدها في الإتقان في السور التي لها أكثر من اسم .
وسميت في المصاحف وكتب التفسير سورة قريش لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها ، وبذلك عنونها البخاري في صحيحه .
والسورة مكية عند جماهير العلماء . وقال ابن عطية : بلا خلاف . وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية ، ولم يذكرها في الإتقان مع السور المختلف فيها ...
أمر قريش بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيرا لهم بنعمة أن الله مكن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عاديا يعدو عليهم .
وبأنه أمنهم من المجاعات وأمنهم من المخاوف لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم لأنهم سكان الحرم وعمار الكعبة .
وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة .
ورد القبائل فلا يغير على بلدهم أحد قال تعالى { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون } فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفا منهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وذلك أن قريشا كانوا تجارا يختلفون إلى الأرض .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ } ... من آلفت الشيء أُولفه إيلافا ... واختلف أهل العربية في المعنى الجالب هذه اللام في قوله : "لإيلافِ قُرَيْشٍ" ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : الجالب لها قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } فهي في قول هذا القائل صلة لقوله : جعلهم ، فالواجب على هذا القول أن يكون معنى الكلام : ففعلنا بأصحاب الفيل هذا الفعل ، نعمة منا على أهل هذا البيت ، وإحسانا منا إليهم ، إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف ، فتكون اللام في قوله ( لإِيلافِ ) بمعنى إلى ، كأنه قيل : نعمة لنعمة وإلى نعمة ؛ لأن إلى موضع اللام ، واللام موضع إلى... عن مجاهد ، في قوله : { إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } قال : إيلافهم ذلك ، فلا يشقّ عليهم رحلة شتاء ولا صيف ... عن مجاهد { لإيلافِ قُرَيْشٍ } قال : نعمتي على قريش ...
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : قد قيل هذا القول ، ويقال : إنه تبارك وتعالى عجّب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : اعجب يا محمد لنِعَم الله على قريش ، في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . ثم قال : فلا يتشاغلوا بذلك عن الإيمان واتباعك ، يستدل بقوله : { فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ } .
وكان بعض أهل التأويل يوجّه تأويل قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } إلى أُلفة بعضهم بعضا ... قال ابن زيد ، في قول الله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } فقرأ : { ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأصحَابِ الْفِيلِ } إلى آخر السورة ، قال : هذا لإيلاف قريش ، صنعت هذا بهم لألفة قريش ، لئلا أفرّق أُلفتهم وجماعتهم ، إنما جاء صاحب الفيل ليستبيد حريمهم ، فصنع الله ذلك .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن هذه اللام بمعنى التعجب . وأن معنى الكلام : اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، فليعبدوا ربّ هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف . والعرب إذا جاءت بهذه اللام ، فأدخلوها في الكلام للتعجب ، اكتفوا بها دليلاً على التعجب من إظهار الفعل الذي يجلبها ...
وأما القول الذي قاله من حَكينا قوله ، أنه من صلة قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } فإن ذلك لو كان كذلك ، لوجب أن يكون «لإيلاف » بعض «ألم تر » ، وأن لا تكون سورة منفصلة من «ألم تر » ، وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامّتان كلّ واحدة منهما منفصلة عن الأخرى ، ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك . ولو كان قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } من صلة قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكُولٍ } لم تكن «ألم تر » تامّة حتى توصلَ بقوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } لأن الكلام لا يتمّ إلاّ بانقضاء الخبر الذي ذُكر .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ لإيلاف قريش } أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك ، وهو إيقاعهم الإيلاف ، وهو ألفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم ، وهيبة الناس لهم ، وذلك ملزوم لألفهم أولاً في أنفسهم ، فإذا كان لهم الألف بحرمهم بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه ، وكان لهم الألف بينهم ، فكان بعضهم يألف بعضاً ، قوي أمرهم فألفوا غيرهم ، أي جعلوه يألف ما ألفوه إياه ، أي سنوه له وأمروه به ، أو يكون اللام متعلقاً بفعل العبادة بدلالة { فليعبدوا } أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من ألفهم وإيلافهم ، وعلى التقديرين الألف علة للعبادة ، أو لما يوجب الشكر بالعبادة ، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى ، وأنه إذا أراد شيئاً يسر سببه ؛ لأن التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز ، ويرفع من يشاء وإن ذل ، ليثمر اعتقاد ذلك حبه ، والانقطاع لعبادته ، والاعتماد عليه في كل نفع ودفع ، وقريش ولد النضر بن كنانة ، واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب ... والمادة [ق.ر.ش] كلها للشدة والاختلاط ، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف . ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ؛ وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا ! هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء . يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . . يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع ) . . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع ( وآمنهم من خوف ) . . وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف ! وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح مُبدع إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثْره بالقرب ما يصلح للتعليق به ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور . وزاده الطول تشويقاً إذ فصل بينه وبين متعلَّقه ( بالفتح ) بخمس كلمات ، فيتعلق { لإيلاف } بقوله : { فليعبدوا } .
وتقديم هذا المجرور للاهتمام به إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام والمجرور متعلق بفعل « ليعبدوا » .
وأصل نظم الكلام : لتَعْبُدْ قريشٌ ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فلما اقتضى قصدُ الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله ، تولَّدَ من تقديمه معنى جعله شرطاً لعامله فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط ، فالفاء الداخلة في قوله : { فليعبدوا } مؤذنة بأن ما قبلها في قوة الشرط ، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه ، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه ، وهذا أسلوب من الإِيجاز بديع .