التفسير : في هذه اللام ثلاثة أقوال : الأول أنها لا تتعلق بظاهر ، وإنما هي لام العجب ، يقولون : " لزيد وما صنعنا به " ، أي اعجبوا له عجب الله تعالى من عظيم حلمه وكرمه بهم ، فإنهم كل يوم يزدادون جهلاً وانغماسا في عبادة الأوثان ، والله تعالى يؤلف شملهم ، ويدفع الآفات عنهم ، وينظم أسباب معاشهم ، وهذا القول اختيار الكسائي والأخفش والفراء . والثاني أنها متعلقة بما بعدها ، وهو قول الخليل وسيبويه ، والتقدير : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش . أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها . وفي الكلام معنى الشرط ، وفائدة الفاء وتقديم الجار أن نعم الله تعالى لا تحصى ، فكأنه قيل : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة . والقول الثالث أنها متعلقة بالسورة المتقدمة ، أي جعلهم كعصف مأكول لأجل إيلاف قريش ، وهذا لا ينافي أن يكونوا قد أهلكوا لأجل كفرهم أيضاً . ويجوز أن يكون الإهلاك لأجل الإيلاف فقط ، ويكون جزاء الكفر مؤخراً إلى يوم القيامة ، ويجوز أن تكون هذه اللام لام العاقبة ، ويحتمل أن تتعلق اللام بقوله :{ فعل ربك } ، كأنَّه قال : كل ما فعلنا بهم من تضليل كيدهم ، وإرسال الطير عليهم حتى تلاشوا ، إنما كان لأجل إيلاف قريش . ولا يبعد أن تكون اللام بمعنى " إلى " ، أي فعلنا كل ما فعلنا مضمومة إلى نعمة أخرى وهي إيلافهم الرحلتين ، تقول : نعمة إلى نعمة ، ونعمة لنعمة . قال الفراء : ومما يؤيد هذا القول الثالث ما روي أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة بلا فصل . وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب من غير فصل بينهما بالبسملة . والمشهور المستفيض هو الفصل بينهما بالبسملة ، فإن لم تكن اللام متعلقة بما قبلها فلا إشكال ، وإن تعلقت بما قبلها من السورة فالوجه فيه أن القرآن كله بمنزلة كلام واحد ، والفصل بين طائفة وطائفة منه لا يوجب انقطاع إحدى الطائفتين عن الأخرى بالكلية . ثم إن هؤلاء قالوا : لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع ، وكان أشراف مكَّة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ، ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب ، وأن ملوك النواحي كانوا يعظمونهم ويقولون : هؤلاء جيران بيت الله ، وقطان حرمه ، فلا يجترئ أحد عليهم ، فلو تم لأهل الحبشة ما عزموا عليهم من هدم الكعبة لزال منهم هذا العز ، فصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون ويغار عليهم ، ولا يتيسر لهم تجارة ولا ربح ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ، ورد كيدهم في نحورهم ، ازداد وقع أهل مكة في القلوب ، واحترمهم الملوك فضل احترام ، وازدادت تلك المنافع والمتاجر . قال علماء اللغة : ألفت الشيء وآلفته إلفاً وإيلافاً بمعنى أي لزمته ، وعلى هذا يكون قوله : { لإيلاف قريش } من إضافة المصدر إلى الفاعل ، وترك مفعوله الأول .
ثم جعل مقيداًً ثانياً في قوله { إيلافهم رحلة } إما لأن المقيد بدل من ذلك المطلق تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً لعظيم المنة فيه ، وإما لأن الأول عام في كل مؤانسة وموافقة كانت بينهم ، فيدخل فيه مقامهم وسفرهم وسائر أحوالهم . ثم خص إيلافهم الرحلة بالذكر كما في قوله { جبريل وميكائيل } [ البقرة :98 ] ؛ لأنه قوام معاشهم . وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة . والإلزام ضربان : إلزام بالتكليف والأمر ، وإلزام بالمودة والمؤانسة ، فإنه إذا أحب المرء شيئاً لزمه لقوة الداعي إليه ، ومنه { وألزمهم كلمة التقوى } [ الفتح :26 ] كما أن الالتجاء قد يكون لدفع الضرر كالهرب من السبع ، وقد يكون لجلب النفع العظيم كمن وجد كنزاً ، ولا مانع من أخذه لا عقلاً ولا شرعاً ولا حساً ، فإنه يأخذه البتة كاللجأ . وقال الفراء وابن الأعرابي : الإيلاف التجهيز والتهيئة ، والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا . وعلى هذا القول يكون المصدر مضافاً إلى الفاعل أيضاً . وقيل : ألف كذا فلان لزمه وآلفه غيره إياه فيكون الإيلاف متعدياً إلى اثنين ، والإضافة في { إيلافهم } إضافة المصدر إلى المفعول ، والمعنى إن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله ولطفه ، وذلك بانهزام أصحاب الفيل ، واتفقوا على أن قريشاً ولد النضر بن كنانة . عن معاوية أنه سأل ابن عباس بم سميت قريش ؟ قال : بدابة البحر تأكل ولا تؤكل ، تعلو ولا تعلى ، وهي التي تعبث بالسفن ، ولا تنطلق إلا بالنار ، وأنشد :
وقريش هي التي تسكن البح *** ربها سميت قريش قريشاً
فالتصغير للتعظيم ، والدابة القرش . وقيل : القرش الكسب ؛ لأنهم كانوا أهل كسب وتجارة ، فسموا بذلك . وقال الليث : كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكناً ، فسموا قريشاً ؛ لأن التقرش التجمع ، وتقرش القوم اجتمعوا ، ولذلك سمي قصي مجمعاً ، قال بعضهم :
أبوكم قصي كان يدعي مجمعاً *** به جمع الله القبائل من فهر
وقيل : القرش : التفتيش . قال ابن حلزة :
أيها الشامت المقرش عنا *** عند عمر ووهل لذاك بقاء
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.