غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الإيلاف مكية . حروفها ثلاثة وسبعون . آياتها أربع . كلمها سبع عشرة ) .

1

التفسير : في هذه اللام ثلاثة أقوال : الأول أنها لا تتعلق بظاهر ، وإنما هي لام العجب ، يقولون : " لزيد وما صنعنا به " ، أي اعجبوا له عجب الله تعالى من عظيم حلمه وكرمه بهم ، فإنهم كل يوم يزدادون جهلاً وانغماسا في عبادة الأوثان ، والله تعالى يؤلف شملهم ، ويدفع الآفات عنهم ، وينظم أسباب معاشهم ، وهذا القول اختيار الكسائي والأخفش والفراء . والثاني أنها متعلقة بما بعدها ، وهو قول الخليل وسيبويه ، والتقدير : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش . أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها . وفي الكلام معنى الشرط ، وفائدة الفاء وتقديم الجار أن نعم الله تعالى لا تحصى ، فكأنه قيل : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة . والقول الثالث أنها متعلقة بالسورة المتقدمة ، أي جعلهم كعصف مأكول لأجل إيلاف قريش ، وهذا لا ينافي أن يكونوا قد أهلكوا لأجل كفرهم أيضاً . ويجوز أن يكون الإهلاك لأجل الإيلاف فقط ، ويكون جزاء الكفر مؤخراً إلى يوم القيامة ، ويجوز أن تكون هذه اللام لام العاقبة ، ويحتمل أن تتعلق اللام بقوله :{ فعل ربك } ، كأنَّه قال : كل ما فعلنا بهم من تضليل كيدهم ، وإرسال الطير عليهم حتى تلاشوا ، إنما كان لأجل إيلاف قريش . ولا يبعد أن تكون اللام بمعنى " إلى " ، أي فعلنا كل ما فعلنا مضمومة إلى نعمة أخرى وهي إيلافهم الرحلتين ، تقول : نعمة إلى نعمة ، ونعمة لنعمة . قال الفراء : ومما يؤيد هذا القول الثالث ما روي أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة بلا فصل . وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب من غير فصل بينهما بالبسملة . والمشهور المستفيض هو الفصل بينهما بالبسملة ، فإن لم تكن اللام متعلقة بما قبلها فلا إشكال ، وإن تعلقت بما قبلها من السورة فالوجه فيه أن القرآن كله بمنزلة كلام واحد ، والفصل بين طائفة وطائفة منه لا يوجب انقطاع إحدى الطائفتين عن الأخرى بالكلية . ثم إن هؤلاء قالوا : لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع ، وكان أشراف مكَّة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ، ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب ، وأن ملوك النواحي كانوا يعظمونهم ويقولون : هؤلاء جيران بيت الله ، وقطان حرمه ، فلا يجترئ أحد عليهم ، فلو تم لأهل الحبشة ما عزموا عليهم من هدم الكعبة لزال منهم هذا العز ، فصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون ويغار عليهم ، ولا يتيسر لهم تجارة ولا ربح ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ، ورد كيدهم في نحورهم ، ازداد وقع أهل مكة في القلوب ، واحترمهم الملوك فضل احترام ، وازدادت تلك المنافع والمتاجر . قال علماء اللغة : ألفت الشيء وآلفته إلفاً وإيلافاً بمعنى أي لزمته ، وعلى هذا يكون قوله : { لإيلاف قريش } من إضافة المصدر إلى الفاعل ، وترك مفعوله الأول .

ثم جعل مقيداًً ثانياً في قوله { إيلافهم رحلة } إما لأن المقيد بدل من ذلك المطلق تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً لعظيم المنة فيه ، وإما لأن الأول عام في كل مؤانسة وموافقة كانت بينهم ، فيدخل فيه مقامهم وسفرهم وسائر أحوالهم . ثم خص إيلافهم الرحلة بالذكر كما في قوله { جبريل وميكائيل } [ البقرة :98 ] ؛ لأنه قوام معاشهم . وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة . والإلزام ضربان : إلزام بالتكليف والأمر ، وإلزام بالمودة والمؤانسة ، فإنه إذا أحب المرء شيئاً لزمه لقوة الداعي إليه ، ومنه { وألزمهم كلمة التقوى } [ الفتح :26 ] كما أن الالتجاء قد يكون لدفع الضرر كالهرب من السبع ، وقد يكون لجلب النفع العظيم كمن وجد كنزاً ، ولا مانع من أخذه لا عقلاً ولا شرعاً ولا حساً ، فإنه يأخذه البتة كاللجأ . وقال الفراء وابن الأعرابي : الإيلاف التجهيز والتهيئة ، والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا . وعلى هذا القول يكون المصدر مضافاً إلى الفاعل أيضاً . وقيل : ألف كذا فلان لزمه وآلفه غيره إياه فيكون الإيلاف متعدياً إلى اثنين ، والإضافة في { إيلافهم } إضافة المصدر إلى المفعول ، والمعنى إن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله ولطفه ، وذلك بانهزام أصحاب الفيل ، واتفقوا على أن قريشاً ولد النضر بن كنانة . عن معاوية أنه سأل ابن عباس بم سميت قريش ؟ قال : بدابة البحر تأكل ولا تؤكل ، تعلو ولا تعلى ، وهي التي تعبث بالسفن ، ولا تنطلق إلا بالنار ، وأنشد :

وقريش هي التي تسكن البح *** ربها سميت قريش قريشاً

فالتصغير للتعظيم ، والدابة القرش . وقيل : القرش الكسب ؛ لأنهم كانوا أهل كسب وتجارة ، فسموا بذلك . وقال الليث : كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكناً ، فسموا قريشاً ؛ لأن التقرش التجمع ، وتقرش القوم اجتمعوا ، ولذلك سمي قصي مجمعاً ، قال بعضهم :

أبوكم قصي كان يدعي مجمعاً *** به جمع الله القبائل من فهر

وقيل : القرش : التفتيش . قال ابن حلزة :

أيها الشامت المقرش عنا *** عند عمر ووهل لذاك بقاء

وكانت قريش يتفحصون عن حال الفقراء ، ويسدّون خلة المحاويج .

/خ4