المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

35- وإن حدث خلاف بين الزوجين وخفتم منه حدوث انشقاق بينهما يعرضهما للانفصال ، فاختاروا حكمين : أحدهما من أهله والآخر من أهلها ، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما في الوصول إلى ما هو خير للزوجين من معاشرة بالمعروف أو تسريح بإحسان . إن الله كان مطلَّعاً على ظواهر العباد وبواطنهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

24

ذلك حين لا يستعلن النشوز ، وإنما تتقى بوادره . فأما إذا كان قد استعلن ، فلا تتخذ تلك الإجراءات التي سلفت . إذا لا قيمة لها إذن ولا ثمرة . وإنما هي إذن صراع وحرب بين خصمين ليحطم أحدهما رأس الآخير ! وهذا ليس المقصود ، ولا المطلوب . . وكذلك إذا رئي أن استخدام هذه الإجراءات قد لا يجدي ، بل سيزيد الشقة بعدًا ، والنشوز استعلانًا ؛ ويمزق بقية الخيوط التي لا تزال مربوطة . أو إذا أدى استخدام تلك الوسائل بالفعل إلى غير نتيجة . . في هذه الحالات كلها يشير المنهج الإسلامي الحكيم بإجراء أخير ؛ لإنقاذ المؤسسة العظيمة من الانهيار . قبل أن ينفض يديه منها ويدعها تنهار :

( وإن خفتم شقاق بينهما ، فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها . إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما . إن الله كان عليمًا خبيرًا ) . .

وهكذا لا يدعو المنهج الإسلامي إلى الاستسلام لبوادر النشوز والكراهية ؛ ولا إلى المسارعة بفصم عقدة النكاح ، وتحطيم مؤسسة الأسرة على رؤوس من فيها من الكبار والصغار - الذين لا ذنب لهم ولا يد ولا حيلة - فمؤسسة الأسرة عزيزة على الإسلام ؛ بقدر خطورتها في بناء المجتمع ، وفي إمداده باللبنات الجديدة ، اللازمة لنموه ورقية وامتداده .

إنه يلجأ إلى هذه الوسيلة الأخيرة - عند خوف الشقاق - فيبادر قبل وقوع الشقاق فعلًا . . ببعث حكم من أهلها ترتضيه ، وحكم من أهله يرتضيه . يجتمعان في هدوء . بعيدين عن الانفعالات النفسية ، والرواسب الشعورية ، والملابسات المعيشية ، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين . طليقين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة ، وتعقد الأمور ، وتبدو - لقربها من نفسي الزوجين - كبيرة تغطي على كل العوامل الطيبة الأخرى في حياتهما . حريصين على سمعة الأسرتين الأصليتين . مشفقين على الأطفال الصغار . بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر - كما قد يكون الحال مع الزوجين في هذه الظروف - راغبين في خير الزوجين وأطفالهما ومؤسستهما المهددة بالدمار . . وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين ، لأنهما من أهلهما : لا خوف من تشهيرهما بهذه الأسرار . إذ لا مصلحة لهما في التشهير بها ، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها !

يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح . فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح ، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة ، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين ، يقدر الله الصلاح بينهما والتوفيق :

إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما . .

فهما يريدان الإصلاح ، والله يستجيب لهما ويوفق . .

وهذه هي الصلة بين قلوب الناس وسعيهم ، ومشيئة الله وقدره . . إن قدر الله هو الذي يحقق ما يقع في حياة الناس . ولكن الناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا ؛ وبقدر الله - بعد ذلك - يكون ما يكون .

ويكون عن علم بالسرائر وعن خبرة بالصوالح :

إن الله كان عليمًا خبيرًا .

وهكذا نرى - في هذا الدرس - مدى الجدية والخطورة في نظرة الإسلام إلى المرأة وعلاقات الجنسين ومؤسسة الأسرة ، وما يتصل بها من الروابط الاجتماعية . . ونرى مدى اهتمام المنهج الإسلامي بتنظيم هذا الجانب الخطير من الحياة الإنسانية . ونطلع على نماذج من الجهد الذي بذله هذا المنهج العظيم ، وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة - التي التقطها من سفح الجاهلية - في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة على هدى الله . الذي لا هدى سواه . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

{ وإن خفتم شقاق بينهما } خلافا بين المرأة وزوجها ، أضمرها وإن لم يجر ذكرهما لجرى ما يدل عليهما وإضافة الشقاق إلى الظرف إما لإجرائه مجرى المفعول به كقوله : يا سارق الليلة أهل الدار أو لفاعل كقولهم نهارك صائم . { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } فابعثوا أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما لتبيين الأمر أو إصلاح ذات البين ، رجلا وسطا يصلح للحكومة والإصلاح من أهله وآخر من أهلها ، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ، وهذا على وجه الاستحباب فلو نصبا من الأجانب جاز . وقيل الخطاب للأزواج والزوجات ، واستدل به على جواز التحكيم ، والأظهر أن النصب لإصلاح ذات البين أو لتبيين الأمر ولا يليان الجمع والتفريق إلا بإذن الزوجين ، وقال مالك لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه . { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين ، أي إن قصدا الإصلاح أوقع الله بحسن سعيهما الموافقة بين الزوجين . وقيل كلاهما للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما . وقيل للزوجين أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق ، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه . { إن الله كان عليما خبيرا } بالظواهر والبواطن ، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

عطف على جملة " والتي تخافون نشوزهن " [ النساء : 34 ] وهذا حكم أحوال أخرى تعرض بين الزوجين ، وهي أحوال الشقاق من مخاصمة ومغاضبة وعصيان ، ونحو ذلك من أسباب الشقاق ، أي دون نشوز من المرأة .

والمخاطب هنا وُلاَة الأمور لا محالة ، وذلك يرجّح أن يكونوا هم المخاطبين في الآية التي قبلها .

والشِّقَاق مصدرٌ كَالمُشَاقّة ، وهو مشتقّ من الشِّق بكسر الشين أي الناحية . لأنّ كلّ واحد يصير في ناحية ، على طريقة التخييل ، كما قالوا في اشتقاق العدوّ : إنّه مشتقّ من عدوة الوادي . وعندي أنّه مشتقّ من الشَّقّ بفتح الشين وهو الصدع والتفرّع ، ومنه قولهم : شقّ عصا الطاعة ، والخلاف شقاق . وتقدّم في سورة البقرة ( 137 ) عند قوله تعالى : { وإن تولوا فإنما هم في شقاق } وأضاف الشقاق إلى ( بين ) . إمّا لإخراج لفظ ( بين ) عن الظرفية إلى معنى البعد الذي يتباعده الشيئان ، أي شقاقَ تباعد ، أي تجَاف ، وإمّا على وجه التوسّع ، كقوله بل مكر اليل وقول الشاعر :

يا سارق الليلة أهلَ الدار

ومن يقول بوقوع الإضافة على تقدير ( في ) يجعل هذا شاهداً له كقوله : { هذا فراق بيني وبينك } [ الكهف : 78 ] ، والعرب يتوسّعون في هذا الظرف كثيراً ، وفي القرآن من ذلك شيء كثير ، ومنه قوله : { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] في قراءة الرفع .

وضمير { بينهما } عائد إلى الزوجين المفهومين من سياق الكلام ابتداء من قوله : { الرجال قوامون على النساء } [ النساء : 4 ] .

والحكم بفتحتين الحاكم الذي يُرضى للحكومة بغير ولاية سابقة ، وهو صفة مشبّهة مشتقّة من قولهم : حكّموه فحكُم ، وهو اسم قديم في العربية ، كانوا لا ينصبون القضاة ، ولا يتحاكمون إلاّ إلى السيف ، ولكنّهم قد يرضون بأحد عقلائهم يجعلونه حكماً في بعض حوادثهم ، وقد تحاكم عامر بن الطُّفيل وعلقمة بن عُلاَثَةَ لدى هَرِم بن سنان العبسي ، وهي المحاكمة التي ذكرها الأعشى في قصيدته الرائية القائل فيها :

عَلْقَمَ ما أنتَ إلى عامر *** الناقضِ الأوتارِ والواتر

وتحاكم أبناء نزار بن معدّ بن عدنان إلى الأفعى الجُرهمي ، كما تقدّم في هذه السورة .

والضميران في قوله : { من أهله } و { من أهلها } عائدان على مفهومين من الكلام : وهما الزوج والزوجة ، واشترط في الحكمين أن يكون أحدهما من أهل الرجل والآخر من أهل المرأة ليكونا أعلم بدخلية أمرهما وأبصر في شأن ما يرجى من حالهما ، ومعلوم أنّه يشترط فيهما الصفات التي تخوّلهما الحكم في الخلاف بين الزوجين . قال ملك : إذا تعذّر وجود حكمين من أهلهما فيبعث من الأجانب ، قال ابن الفرس : « فإذا بعث الحاكم أجنبيّين مع وجود الأهل فيشبه أن يقال ينتقض الحكم لمخالفة النصّ ، ويشبه أن يقال ماض بمنزلة ما لو تحاكموا إليهما » . قلت : والوجه الأوّل أظهر . وعند الشافعية كونهما من أهلهما مستحبّ فلو بعثا من الأجانب مع وجود الأقارب صحّ .

والآية دالّة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاعَ المستمرّ المعبّر عنه بالشقاق ، وظاهرها أنّ الباعث هو الحاكم ووليّ الأمر ، لا الزوجان ، لأنّ فعل { ابعثوا } مؤذن بتوجيههما إلى الزوجين ، فلو كانا معيّنين من الزوجين لما كان لفعل البعث معنى . وصريح الآية : أنّ المبعوثين حكمان لا وكيلان ، وبذلك قال أيمّة العلماء من الصحابة والتابعين . وقضى به عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفّان ، وعلي بن أبي طالب ، وقاله ابن عباس ، والنخعي ، والشعبي ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق . وعلى قول جمهور العلماء فما قضى به الحكمان من فرقة أو بقاء أو مخالعة يمضي ، ولا مقال للزوجين في ذلك لأنّ ذلك معنى التحكيم ، نعم لا يَمنع هؤلاء من أن يوكّل الزوجان رجلين على النظر في شؤونهما ، ولا من أن يحكّما حكمين على نحو تحكيم القاضي . وخالف في ذلك ربيعة فقال : لا يحكم إلاّ القاضي دون الزوجين ، وفي كيفية حكمهما وشروطه تفصيل في كتب الفقه .

وتأوّلت طائفة قليلة هذه الآية على أنّ المقصود بعث حكمين للإصلاح بين الزوجين وتعيين وسائل الزجر للظالم منهما ، كقطع النفقة عن المرأة مّدة حتّى يصلح حالها ، وأنّه ليس للحكمين التطليق إلاّ برضا الزوجين ، فيصيران وكيلين ، وبذلك قال أبو حنيفة ، وهو قولٌ للشافعي ، فيريد أنّهما بمنزلة الوكيل الذي يقيمه القاضي عَن الغائب . وهذا صرف للفظ الحكمين عن ظاهره ، فهو من التأويل . والباعث على تأويله عند أبي حنيفة : أنّ الأصل أنّ التطليق بيد الزوج ، فلو رأى الحكمان التطليق عليه وهو كاره كان ذلك مخالفة لدليل الأصل فاقتضى تأويل معنى الحكمين ، وهذا تأويل بعيد ؛ لأنّ التطليق لا يَطَّرِد كونه بيد الزوج ؛ فإنّ القاضي يطلّق عند وجود سبب يقتضيه .

وقوله تعالى : { إن يريدا إصلاحاً } الظاهر أنّه عائد إلى الحكمين لأنّهما المسوق لهما الكلام ، واقتصر على إرادة الإصلاح لأنّها التي يجب أن تكون المقصد لولاة الأمور والحكمين ، فواجبُ الحكمين أن ينظرا في أمر الزوجين نظراً منبعثاً عن نية الإصلاح ، فإن تيسّر الإصلاح فذلك وإلاّ صارا إلى التفريق ، وقد وعدهما الله بأن يوفّق بينهما إذا نويا الإصلاح ، ومعنى التوفيق بينهما إرشادهما إلى مصادفة الحقّ والواقعِ ، فإنّ الاتّفاق أطمَن لهما في حكمهما بخلاف الاختلاف ، وليس في الآية ما يدلّ على أنّ الله قصر الحَكَمين على إرادة الإصلاح حتّى يكون سنداً لتأويل أبي حنيفة أنّ الحكمين رسولان للإصلاح لا للتفريق ، لأنّ الله تعالى ما زاد على أن أخبر بأنّ نية الإصلاح تكون سبباً في التوفيق بينهما في حكمهما ، ولو فهم أحد غير هذا المعنى لكان متطوّحا عن مفاد التركيب .

وقيل : الضمير عائد على الزوجين ، وهذا تأويل مَن قالوا : إنّ الحكمين يبعثهما الزوجان وكيلين عنهما ، أي إن يُرد الزوجان من بعث الحكمين إصلاح أمرهما يوفّق الله بينهما ، بمعنى تيسير عَوْد معاشرتهما إلى أحسن حالها . وليس فيها على هذا التأويل أيضاً حجّة على قصر الحكمين على السعي في الجمع بين الزوجين دون التفريق : لأنّ الشرط لم يدلّ إلاّ على أنّ إرادة الزوجين الإصلاح تحقّقه ، وإرادتهما الشقاق والشغب تزيدهما ، وأين هذا من تعيين خطّة الحكمين في نظر الشرع .

وهذه الآية أصل في جواز التحكيم في سائر الحقوق ، ومسألة التحكيم مذكورة في الفقه .