هذه السورة مكية ، نزلت في مكة قبل الهجرة ، وسميت الفاتحة لأنها أولي السور في ترتيب المصحف الشريف ، وهي تشتمل علي مجمل ما في القرآن ، وكأنها إجمال يحلو بعده التفصيل .
ومقاصد القرآن هي : بيان التوحيد ، وبيان الوعد والبشرى للمؤمن المحسن ، وبيان الوعيد والإنذار للكافر والمسيء ، وبيان العبادة ، وبيان طريق السعادة في الدنيا والآخرة ، وقصص الذين أطاعوا الله ففازوا ، وقصص الذين عصوه فخابوا .
والفاتحة تشتمل ، بطريق الإيجاز والإشارة ، علي هذه المقاصد ، ولذلك سميت أم الكتاب .
1- تبتدئ باسم الله الذي لا معبود بحق سواه ، والمتصف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وهو صاحب الرحمة الذي يفيض بالنعم جليلها ودقيقها ، عامها وخاصها ، وهو المتصف بصفة الرحمة الدائمة .
يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع ، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى ؛ وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن ؛ وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا ، غير الفرائض والسنن . ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول الله [ ص ] من حديث عبادة بن الصامت : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " .
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجيهات ، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة ، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها . .
تبدأ السورة : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . . ومع الخلاف حول البسملة : أهي آية من كل سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند القراءة كل سورة ، فإن الأرجح أنها آية من سورة الفاتحة ، وبها تحتسب آياتها سبعا . وهناك قول بأن المقصود بقوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) . . هو سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات ( من المثاني )لأنها يثنى بها وتكرر في الصلاة .
والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيه [ ص ] في أول ما نزل من القرآن باتفاق ، وهو قوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك . . . ) . . وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن الله ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) . . فهو - سبحانه - الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجود وجوده ، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه . فباسمه إذن يكون كل ابتداء . وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه .
ووصفه - سبحانه - في البدء بالرحمن الرحيم ، يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها . . وهو المختص وحده باجتماع هاتين الصفتين ، كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن . فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم ؛ ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن . ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان . . ومهما يختلف في معنى الصفتين : أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة ، فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال ؛ إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها .
وإذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي . . فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي الرحمن الرحيم يمثل الكلية الثانية في هذا التصور ، ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد .
وتسمى أم القرآن ، لأنها مفتتحه ومبدؤه ، فكأنها أصله ومنشؤه ، ولذلك تسمى أساسا .
أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله سبحانه وتعالى ، والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده . أو على جملة معانيه من الحكم النظرية ، والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء . وسورة الكنز والوافية والكافية لذلك . وسورة الحمد والشكر والدعاء . وتعليم المسألة لاشتمالها عليها والصلاة لوجوب قراءتها أو استحبابها فيها . والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسلام : " هي شفاء من كل داء " . والسبع المثاني لأنها سبع آيات بالاتفاق ، إلا أن منهم من عد التسمية دون { أنعمت عليهم } ، ومنهم من عكس ، وتثنى في الصلاة ، أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة ، وبالمدينة حين حولت القبلة ، وقد صح أنها مكية لقوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } ، وهو مكي بالنص .
{ بسم الله الرحمن الرحيم } من الفاتحة ، ومن كل سورة ، وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى والشافعي ، وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي ، ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده . وسئل محمد بن الحسن عنها فقال : ما بين الدفتين كلام الله تعالى . ولنا أحاديث كثيرة : منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ، أنه عليه الصلاة والسلام قال " فاتحة الكتاب سبع آيات ، أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم " . وقول أم سلمة رضي الله عنها " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين " آية ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها ، والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله سبحانه وتعالى ، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن .
حتى لم تكتب آمين والباء متعلقة بمحذوف تقديره : بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء . وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له ، وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه . أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه ، وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله : { بسم الله مجراها } وقوله { إياك نعبد } لأنه أهم وأدل على الاختصاص ، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة ، كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر " ، وقيل الباء للمصاحبة ، والمعنى متبركا باسم الله تعالى اقرأ ، وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ، ويحمد على نعمه ، ويسأل من فضله ، وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح ، لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء ، والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال ، وبينت أوائلها على السكون ، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل ، لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن . ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمى كهدى لغة فيه قال :
والله أسماك سمى مباركا *** آثرك الله به إيثاركا
والقلب بعيد غير مطرد ، واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له . ومن السمة عند الكوفيين ، وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله . ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم ، ومن لغاته سم وسم قال :
بسم الذي في كل سورة سمه *** . . .
والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى ، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة ، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار ، ويتعدد تارة ويتحد أخرى . والمسمى لا يكون كذلك ، وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى : { تبارك اسم ربك } و{ سبح اسم ربك } المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص ، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب . أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** . . .
وإن أريد به الصفة ، كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري ، انقسم انقسام الصفة عنده : إلى ما هو نفس المسمى ، وإلى ما هو غيره ، وإلى ما ليس هو ولا غيره . وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله ، لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه . أو للفرق بين اليمين والتيمن .
ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضا عنها . والله أصله إله ، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل : يا الله ، بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق . والإله في الأصل لكل معبود ، ثم غلب على المعبود بالحق . واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد ، ومنه تأله واستأله ، وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته . أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه ، لأن القلوب تطمئن بذكره ، والأرواح تسكن إلى معرفته . أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه ، وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه . أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد . أو من وله إذا تحير وتخبط عقله ، وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه ، فقيل إله كإعاء وإشاح ، ويرده الجمع على آلهة دون أولهة . وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها ، إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار ، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر :
كحلفة من أبي رباح *** يشهدها لاهه الكبار
وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به ، ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ، ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول : لا إله إلا الله ، توحيدا مثل : لا إله إلا الرحمن ، فإنه لا يمنع الشركة ، والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل : الثريا والصعق أجرى مجراه في أجراء الأوصاف عليه ، وامتناع الوصف به ، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه ، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر ، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى { وهو الله في السماوات } معنى صحيحا ، ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب ، وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة ، وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة ، وإدخال اللام عليه ، وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة ، وقيل مطلقا ، وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ، ولا ينعقد به صريح اليمين ، وقد جاء لضرورة الشعر :
ألا لا بارك الله في سهيل *** إذا ما الله بارك في الرجال
و{ الرحمن الرحيم } اسمان بنيا للمبالغة من رحم ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة في اللغة : رقة القلب ، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها . وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات . و{ الرحمن } أبلغ من { الرحيم } ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطع وقطع وكبار وكبار ، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتبار الكيفية ، فعلى الأول قيل : يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا ، لأن النعم الأخروية كلها جسام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة ، وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، لتقدم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها ، وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب ، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها ، والقدرة على إيصالها ، والداعية الباعثة عليه ، والتمكن من الانتفاع بها ، والقوى التي بها يحصل الانتفاع ، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره . أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها ، فيكون كالتتمة والرديف له .
والأظهر أنه غير مصروف وإن حظر اختصاصه بالله تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقا له بما هو الغالب في بابه . وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور ، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها ، جليلها وحقيرها ، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس ، ويتمسك بحبل التوفيق ، ويشغل سره بذكره والاستعداد به عن غيره .
قال ابن عباس ، وموسى بن جعفر عن أبيه ، وعلي بن الحسين ، وقتادة ، وأبو العالية ، ومحمد بن يحيى بن حبان( {[1]} ) : إنها مكية ، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] والحجر مكية بإجماع . ( {[2]} )
وفي حديث أُبَيّ بن كعب أنها السبع المثاني ، والسبع الطُّول( {[3]} ) نزلت بعد الحجر بمدد ، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة ، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير " الحمد لله رب العالمين " .
وروي عن عطاء بن يسار ، وسوادة بن زياد ، والزهري محمد بن مسلم ، وعبد الله بن عبيد بن عمير( {[4]} ) أن سورة الحمد مدنية .
وأما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب ، لأن موضعها يعطي ذلك .
واختلف هل يقال لها أم الكتاب ، فكره الحسن بن أبي الحسن ذلك وقال : «أم الكتاب الحلال والحرام » . قال الله تعالى : { آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }( {[5]} ) [ آل عمران : 7 ] .
وقال ابن عباس وغيره : «يقال لها أم الكتاب » .
وقال البخاري : سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة .
وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة( {[6]} ) رضي الله عنه .
واختلف هل يقال لها أم القرآن ؟ فكره ذلك ابن سيرين وجوزه جمهور العلماء . قال يحيى بن يعمر : «أم القرى مكة ، وأم خراسان مرو ، وأم القرآن سورة الحمد » . وقال الحسن بن أبي الحسن : اسمها أم القرآن .
وأما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة . وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخراً لها .
وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب «إنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها »( {[7]} ) ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن( {[8]} ) ، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني ، وإما أن يكون تفضيلاً من الله تعالى لا يعلل ، وكذلك يجيء عدل { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] وعدل { زلزلت } [ الزلزلة : 1 ] . وغيرها . ( {[9]} )
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ل " لحمد لله رب العالمين " فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام » . وورد حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرون حسنة ، ومن قال " الحمد لله رب العالمين " كتبت له ثلاثون حسنة »( {[10]} )
وهذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجراً طالب ثواب ، لأن قوله : { الحمد لله } في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله ، ففي قوله توحيد وحمد ، وفي قول : { لا إله إلا الله } توحيد فقط . فأما إذا أُخِذَ بموضعهما من شرع الملة ومَحَلِّهِما مِنْ دَفْعِ( {[11]} ) الكفر والإشراك فلا إله إلا الله أفضل ، والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :«أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله »( {[12]} )
القول في بسم الله الرحمن الرحيم
روي عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه أنه قال : البسملة تيجان السور . وروي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم تعس الشيطان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقل ذلك فإنه يتعاظم عنده ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يصغر حتى يصير أقل من ذباب » .
وقال علي بن الحسين رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } قال معناه إذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم .
وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «كيف تفتتح الصلاة يا جابر قلت بالحمد لله رب العالمين قال قل بسم الله الرحمن الرحيم » .
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أتاني جبريل فعلمني الصلاة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يجهر بها » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذان الحديثان يقتضيان أنها آية من الحمد . ويرد ذلك حديث أبي بن كعب الصحيح إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم «هل لك ألا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها ؟ قال فجعلت أبطىء في المشي رجاء ذلك فقال لي كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال فقرأت : الحمد لله رب العالمين . . حتى أتيت على آخرها .
ويرده الحديث الصحيح بقوله عز وجل { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ، يقول العبد الحمد لله رب العالمين . . . } .
ويرده أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أبي بكر ولا عن عمر ولا عثمان رضي الله عنهم أنهم قرؤوا في صلاتهم بسم الله الرحمن الرحيم .
ويرده عدد آيات السورة لأن الإجماع أنها سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست آيات وهذا شاذ لا يعول عليه . وكذلك روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل { إياك نعبد } آية ، فهي على عده ثماني آيات ، وهذا أيضا شاذ .
وقول الله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } هو الفصل في ذلك .
والشافعي رحمه الله يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية من الحمد . وكثير من قراء مكة والكوفة لا يعدون { أنعمت عليهم } .
ومالك رحمه الله وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء والقراء لا يعدون البسملة آية . والذي يحتمله عندي حديث جابر وأبي هريرة إذا صحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قراءة جابر وحكايته أمر الصلاة قراءة في غير صلاة على جهة التعلم فأمره بالبسملة لهذا لا لأنها آية .
وكذلك في حديث أبي هريرة رآها قراءة تعليم ، ولم يفعل ذلك مع أبي لأنه قصد تخصيص السورة ووسمها من الفضل بما لها ، فلم يدخل معها ما ليس منها ، وليس هذا القصد في حديث جابر وأبي هريرة والله أعلم .
وقال ابن المبارك : إن البسملة آية في كل سورة وهذا قول شاذ رد الناس عليه . وروى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب : " باسمك اللهم " ، حتى أمر أن يكتب " بسم الله " فكتبها ، فلما نزلت { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } كتب بسم الله الرحمن . فلما نزلت { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } كتبها .
وروى عمرو بن شرحبيل أن جبريل أول ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قال له قل بسم الله الرحمن الرحيم .
وروي عن ابن عباس أن أول ما نزل به جبريل بسم الله الرحمن الرحيم .
وفي بعض طرق حديث خديجة وحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ورقة أن جبريل قال للنبي عليهما السلام قل بسم الله الرحمن الرحيم فقالها فقال اقرأ قال ما أنا بقارىء . . . . الحديث .
والبسملة تسعة عشر حرفا . فقال بعض الناس : إن روايةً بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم { عليها تسعة عشر } ( المدثر 30 ) إنما ترتب عددهم على حروف بسم الله الرحمن الرحيم لكل حرف ملك ، وهم يقولون في كل أفعالهم " بسم الله الرحمن الرحيم " فمن هنالك هي قوتهم . وباسم الله استضلعوا .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذه من ملح التفسير وليست من متين العلم ، وهي نظير قولهم في ليلة القدر : إنها ليلة سبع وعشرين مراعاة للفظة هي في كلمات سورة { إنا أنزلناه } . ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل " ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه " فإنها بضعة وثلاثون حرفا قالوا فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول .
والباء في بسم الله متعلقة عند نحاة البصرة باسمٍ تقديره : ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله . وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره : ابتدأت بسم الله ، فبسم الله في موضع رفع على مذهب البصريين ، وفي موضع نصب على مذهب الكوفيين ، كذا أطلق القول قوم .
والظاهر من مذهب سيبويه أن الباء متعلقة باسم كما تقدم . وبسم الله في موضع نصب تعلقا بثابت أو مستقر بمنزلة في الدار من قولك زيد في الدار ، وكسرت باء الجر ليناسب لفظها عملها أو لكونها لا تدخل إلا على الأسماء ، فخصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء ، أو ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما نحو الكاف في قول الأعشى :
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفُتُل
وحذفت الألف من بسم الله في الخط اختصارا وتخفيفا لكثرة الاستعمال .
واختلف النحاة إذا كتب " باسم الرحمن " و " باسم القاهر " فقال الكسائي وسعيد الأخفش يحذف الألف . وقال يحيى بن زياد لا تحذف إلا مع " بسم الله " فقط لأن الاستعمال إنما كثر فيه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فأما في غير اسم الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف .
واسم أصله سمو بكسر السين أو سمو بضمها ، وهو عند البصريين مشتق من السمو ، يقال سما يسمو ؛ فعلى هذا تضم السين في قولك سمو . ويقال سمي يسمى ؛ فعلى هذا تكسر . وحذفت الواو من سمو وكسرت السين من سم كما قال الشاعر : ( *** باسم الذي في كل سورة سمه ***
وسكنت السين من بسم اعتلالا على غير قياس . وإنما استدل على هذا الأصل الذي ذكرناه بقولهم في التصغير : سمي ، وفي الجمع : أسماء ، وفي جمع الجمع : أسامي . وقال الكوفيون : أصل اسم وسم من السمة وهي العلامة ؛ لأن الاسم علامة لمن وضع له ، وحذفت فاؤه اعتلالا على غير قياس ، والتصغير والجمع المذكوران يردان هذا المذهب الكوفي . وأما المعنى فيه فجيد لولا ما يلزمهم من أن يقال في التصغير : وسيم وفي الجمع أوسام ؛ لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها .
وقد ذكر بعض المفسرين في هذا الموضع الاسم والمسمى هل هما واحد ؟ فقال الطبري رحمه الله : إنه ليس بموضع للمسألة ، وأنحى في خطبته على المتكلمين في هذه المسألة ونحوها ؛ ولكن بحسب ما قد تدوول القول فيها فلنقل إن الاسم كزيد وأسد وفرس قد يرد في الكلام ويراد به الذات كقولك : زيد قائم والأسد شجاع . وقد يراد به التسمية ذاتها كقولك : أسد ثلاثة أحرف ؛ ففي الأول يقال : الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى ، وفي الثاني لا يراد به المسمى . ومن الورود الأول قولك : يا رحمن اغفر لي وقوله تعالى { الرحمن علم القرآن } ( الرحمن 1 ) . ومن الورود الثاني قولك : الرحمن وصف الله تعالى .
وأما اسم الذي هو ألف وسين وميم فقد يجري في لغة العرب مجرى الذات . يقال ذات ونفس واسم وعين بمعنى . وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى { سبح اسم ربك الأعلى } ( الأعلى 1 ) وقوله تعالى { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } . وقوله تعالى { ما تعبدون من دون إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } . وعضدوا ذلك بقول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقد يجري اسم في اللغة مجرى ذات العبارة وهو الأكثر من استعمالها فمنه قوله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } على أشهر التأويلات فيه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة » وعلى هذا النحو استعمل النحويون الاسم في تصريف أقوالهم فالذي يتنخل من هذا أن الأسماء قد تجيء يراد بها ذوات المسميات ، وفي هذا يقال الاسم هو المسمى . وقد تجيء يراد بها ذواتها نفسها لا مسمياتها . ومر بي أن مالكا رحمه الله سئل عن الاسم أهو المسمى فقال ليس به ولا هو غيره ، يريد دائما في كل موضع ، وهذا موافق لما قلناه .
والمكتوبة التي لفظها " الله " أبهر أسماء الله تعالى وأكثرها استعمالا وهو المتقدم لسائرها في الأغلب وإنما تجيء الأخر أوصافا .
واختلف الناس في اشتقاقه فقالت فرقة من أهل العلم هو اسم مرتجل لا اشتقاق له من فعل وإنما هو اسم موضوع له تبارك وتعالى . والألف واللام لازمة له لا لتعريف ولا لغيره بل هكذا وضع الاسم .
وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من أله الرجل إذا عبد وتأله إذا تنسك . ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج :
لله در الغانيات المده *** سبحن واسترجعن من تألهي
ومن ذلك قول الله تعالى { ويذرك وآلهتك } على هذه القراءة فإن ابن عباس وغيره قال وعبادتك قالوا فاسم الله مشتق من هذا الفعل لأنه الذي يألهه كل خلق ويعبده . حكاه النقاش في صدر سورة آل عمران فإلاه فعال من هذا .
واختلف كيف تعلل " إله " حتى جاء " الله " ؟ فقيل حذفت الهمزة حذفا على غير قياس ودخلت الألف واللام للتعظيم على لاه وقيل بل دخلتا على اله ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام فجاء أَلِلاَه ثم أدغمت اللام في اللام . وقيل إن أصل الكلمة " لاه " وعليه دخلت الألف واللام . والأول أقوى .
وروي عن الخليل أن أصل إله ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما هي في إشاح ووشاح وإسادة ووسادة . وقيل : إن أصل الكلمة ولاه كما قال الخليل إلا أنها مأخوذة من وله الرجل إذا تحير لأنه تعالى تتحير الألباب في حقائق صفاته والفكر في المعرفة به . وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللات ، وقيل طرحت تخفيفا ، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط ، ومنها قول الشاعر ابن الأعرابي :
أقبل سيل جاء من أمر الله *** يحرد حرد الجنة المغله
والرحمن صفة مبالغة من الرحمة ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر وهي أبلغ من فعيل ، وفعيل أبلغ من فاعل لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة ، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك ، والرحمن النهاية في الرحمة .
وقال بعض الناس : الرحمن الرحيم بمعنى واحد كالندمان والنديم ، وزعم أنهما من فعل واحد ولكن أحدهما أبلغ من الآخر .
وأما المفسرون فعبروا عن الرحمن الرحيم بعبارات :
فمنها أن العرزمي قال : معناه : الرحمن بجميع خلقه في الأمطار ، ونعم الحواس ، والنعم العامة ، الرحيم بالمؤمنين بالهداية لهم واللطف بهم .
ومنها أن أبا سعيد الخدري وابن مسعود رويا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة » .
وقال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين كما قال تعالى { وكان بالمؤمنين رحيما } وهذه كلها أقوال تتعاضد .
وقال عطاء الخراساني : كان الرحمن فلما اختزل وسمي به مسيلمة الكذاب قال الله سبحانه لنفسه الرحمن الرحيم فهذا الاقتران بين الصفتين ليس لأحد إلا لله تعالى . وهذا قول ضعيف لأن بسم الله الرحمن الرحيم كان قبل أن ينجم أمر مسيلمة . وأيضا فتَسَمِّي مسيلمة بهذا لم يكن مما تأصل وثبت .
وقال قوم : إن العرب كانت لا تعرف لفظة الرحمن ، ولا كانت في لغتها ، واستدلوا على ذلك بقول العرب : { وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا } وهذا القول ضعيف وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له لا على نفس اللفظة . واختلف في وصل الرحيم بالحمد فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { الرحيمْ الْحمْدُ } تُسكن الميم ويوقف عليها ، ويبتدأ بألف مقطوعة . وقرأ به قوم من الكوفيين .
وقرأ جمهور الناس { الرحيمِ الْحَمْد } يعرب الرحيم بالخفض وتوصل الألف من الحمد ، ومن شاء أن يقدر أنه أسكن الميم ثم لما وصل حركها للالتقاء ولم يعتد بألف الوصل فذلك سائغ والأول أخصر .
وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ : ( الرحيمَ الحمد ) بفتح الميم وصلة الألف كأنها سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت . ولم ترو هذه قراءةً عن أحد فيما علمت ، وهذا هو نظر يحيى بن زياد في قول الله تعالى { الم الله }