ومع الإطماع في الفضل والنعمة ، التحذير من اليوم الذي يأتي وصفه :
( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) . .
فالتبعة فردية ، والحساب شخصي ، وكل نفس مسؤولة عن نفسها ، ولا تغني نفس عن نفس شيئا . . وهذا هو المبدأ الإسلامي العظيم . مبدأ التبعة الفردية القائمة على الإرادة والتمييز من الإنسان ، وعلى العدل المطلق من الله . وهو أقوم المباديء التي تشعر الإنسان بكرامته ، والتي تستجيش اليقظة الدائمة في ضميره . وكلاهما عامل من عوامل التربية ، فوق أنه قيمة إنسانية تضاف إلى رصيده من القيم التي يكرمه بها الإسلام .
( ولا يقبل منها شفاعة . ولا يؤخذ منها عدل ) .
فلا شفاعة تنفع يومئذ من لم يقدم إيمانا وعملا صالحا ؛ ولا فدية تؤخذ منه للتجاوز عن كفره ومعصيته .
فما من ناصر يعصمهم من الله ، وينجيهم من عذابه . . وقد عبر هنا بالجمع باعتبار مجموع النفوس التي لا تجزي نفس منها عن نفس ، ولا يقبل منها شفاعة ، ولا يؤخذ منها عدل ، وانصرف عن الخطاب في أول الآية إلى صيغة الغيبة في آخرها للتعميم . فهذا مبدأ كلي ينال المخاطبين وغير المخاطبين من الناس أجمعين .
{ واتقوا يوما } أي ما فيه من الحساب والعذاب .
{ لا تجزي نفس عن نفس شيئا } لا تقضي عنها شيئا من الحقوق ، أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدر ، وقرئ لا { تجزئ } من أجزأ عنه إذا أغنى وعلى هذا تعين أن يكون مصدرا ، وإيراده منكرا مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلي والجملة صفة ليوما ، والعائد فيها محذوف تقديره لا تجزي فيه ، ومن لم يجوز حذف العائد المجرور قال اتسع : فيه فحذف عنه الجار وأجري مجرى المفعول به ثم حذف كما حذف من قوله : أم مال أصابوا .
{ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } أي من النفس الثانية العاصية ، أو من الأولى ، وكأنه أريد بالآية نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه محتمل ، فإنه إما أن يكون قهرا أو غيره ، والأول النصرة ، والثاني إما أن يكون مجانا أو غيره . والأول أن يشفع له والثاني إما بأداء ما كان عليه وهو أن يجزي عنه ، أو بغيره وهو أن يعطى عنه عدلا . والشفاعة من الشفع كأن المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا بضم نفسه إليه ، والعدل الفدية . وقيل : البدل وأصله التسوية سمي به الفدية لأنها سميت بالمفدى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ولا تقبل بالتاء .
{ ولا هم ينصرون } يمنعون من عذاب الله ، والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفس من النفوس الكثيرة ، وتذكيره بمعنى العباد . أو الأناسي والنصر أخص من المعونة لاختصاصه بدفع الضر . وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة ، ويؤيده أن الخطاب معهم ، والآية نزلت ردا لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم .
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 48 )
وقوله عز وجل : { واتقوا يوماً } نصب يوماً ب { اتقوا } على السعة ، والتقدير عذاب يوم ، أو هول يوم ، ثم حذف ذلك وأقام اليوم مقامه ، ويصح أن يكون نصبه على الظرف لا للتقوى ، لأن يوم القيامة ليس بيوم عمل ، ولكن معناه : جيئوا متقين يوماً . و { لا تجزي } معناه : لا تغني .
وقال السدي : معناه لا تقضي ، ويقويه قوله { شيئاً }( {[572]} ) وقيل المعنى : لا تكافىء ، ويقال : جزى وأجزأ بمعنى واحد( {[573]} ) ، وقد فرق بينهما قوم ، فقالوا : جزى بمعنى : قضى وكافأ ، وأجزأ بمعنى أغنى وكفى .
وقرأ أبو السمال «تُجزىءُ » بضم التاء والهمز ، وفي الكلام حذف( {[574]} ) .
وقال البصريون : التقدير لا تجزي فيه ، ثم حذف فيه .
وقال غيرهم : حذف ضمير متصل ب { تجزي } تقديره لا تجزيه ، على أنه يقبح حذف هذا الضمير في الخبر ، وإنما يحسن في الصلة .
وقال بعض البصريين : التقدير لا تجزي فيه ، فحذف حرف الجر واتصل الضمير ، ثم حذف الضمير بتدريج .
وقوله تعالى : { ولا تقبل منها شفاعة } قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالتاء ، وقرأ الباقون : بالياء من تحت على المعنى إذ تأنيت الشفاعة ليس بحقيقي ، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان لأن الشافع والمشفوع له شفع ، وكذلك الشفيع فيما لم يقسم .
وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا : نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا ، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعة ، و { لا تجزي نفس عن نفس } ، وهذا إنما هو في الكافرين ، للإجماع وتواتر الحديث بالشفاعة في المؤمنين( {[575]} ) .
وقوله تعالى : { ولا يؤخذ منها عدل } ، قال أبو العالية : «العدل الفدية » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وعدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدراً وإن لم يكن من جنسه ، «والعِدل » بكسر العين هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه .
وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية ، فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير ، والضمير في قوله { ولا هم } عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآية ، ويحتمل أن يعود على النفسين المتقدم ذكرهما ، لأن اثنين جمع( {[576]} ) ، أو لأن النفس للجنس وهو جمع ، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا ، فإن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدى .