75- ما كان ينبغي لكم أيها المؤمنون أن تطمعوا في أن يُؤمن اليهود بدينكم وينقادوا لكم وقد اجتمعت في مختلف فرقهم أشتات الرذائل التي تباعد بينهم وبين الإيمان بالحق ، فقد كان فريقا منهم - وهم الأحبار - يسمعون كلام الله في التوراة ويفهمونه حق الفهم ثم يتعمدون تحريفه وهم يعلمون أنه الحق ، وأن كتب الله المنزلة لا يجوز تغييرها .
وبهذا يختم هذا الشطر من الجولة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب ، والالتواء واللجاجة ، والكيد والدس ، والقسوة والجدب ، والتمرد والفسوق . .
( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟ ) . .
كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي . صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة ، ولا يلين لها ممس ، ولا تنبض فيها حياة . . وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية . . وفي ظل هذا التصوير ، وظل هذا الإيحاء ، يلتفت السياق إلى المؤمنين ، الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل ، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان ، وأن يفيضوا عليها النور . . يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة ، وبالقنوط من الطمع :
( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ؟ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ ) . .
إلا أنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء . فللإيمان طبيعة أخرى ، واستعداد آخر . إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة ، مفتحة المنافذ للأضواء ، مستعدة للاتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء . وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى . هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من بعد تعقله . تحرفه عن علم وإصرار . فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمة ، تتحرج من هذا التحريف والالتواء .
والفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار والربانيون ، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن مواضعه ، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته . لا عن جهل بحقيقة مواضعه ، ولكن عن تعمد للتحريف ، وعلم بهذا التحريف . يدفعهم الهوى ، وتقودهم المصلحة ، ويحدوهم الغرض المريض ! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد [ ص ] وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى - عليه السلام - ومن باب أولى - وهذا خراب ذممهم ، وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه - أن يعارضوا دعوة الإسلام ، ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب !
{ أفتطمعون } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { أن يؤمنوا لكم } أن يصدقوكم ، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم . يعني اليهود . { وقد كان فريق منهم } طائفة من أسلافهم { يسمعون كلام الله } يعني التوراة . { ثم يحرفونه } كنعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وآية الرجم . أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون . وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور ، ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا . { من بعد ما عقلوه } أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة . { وهم يعلمون } أنهم مفترون مبطلون ، ومعنى الآية : أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة ، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم ، وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك .
ّ{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ( 75 )
وقوله تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } الآية ، الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم ، ومعنى هذا الخطاب : التقرير( {[830]} ) على أمر فيه بعد ، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء ، وهؤلاء على ذلك السنن ، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب ، وقال مجاهد والسدي : عني بالفريق هنا الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل المراد كل من حرف في التوراة شيئاً حكماً أو غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها ، وقال ابن إسحاق والربيع : عُني السبعون الذين سمعوا مع موسى صلى الله عليه وسلم ثم بدلوا بعد ذلك .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي هذا القول ضعف ، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم ، وقرأ الأعمش ، «كَلِمَ الله » ، وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال( {[831]} ) ، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باقٍ ، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم وأن ذلك ممكنٌ في التوراة لأنهم استحفظوها ، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.