148- وبعد أن ذهب موسى إلى الجبل لمناجاة ربه ، اتخذ قومه من حليهم المخصصة للزينة جسما على صورة العجل الذي لا يعقل ولا يميز ، له صوت يشبه صوت البقر ، مما أودع فيه من الصناعة ومرور الريح بداخله . . وقد صنعه لهم السامري وأمرهم بعبادته . يا لسفاهة عقولهم . ألم يروا حين اتخذوه إلها وعبدوه أنه لا يكلمهم ولا يقدر على هدايتهم إلى طريق الصواب ؟ ! إنهم ظلموا أنفسهم بهذا العمل الشنيع .
وبينما كان موسى - عليه السلام - في حضرة ربه ، في ذلك الموقف الفريد ، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه الأبصار ؛ وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار . . كان قوم موسى من بعده يرتكسون وينتكسون ، ويتخذون لهم عجلاً جسداً له خوار - لا حياة فيه - يعبدونه من دون الله !
ويفاجئنا السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع الى المشهد العاشر . نقلة هائلة من الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته الى الجو الهابط المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته :
( واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار . ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ؟ اتخذوه وكانوا ظالمين . ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ) . .
إنها طبيعة إسرائيل التي ما تكاد تستقيم خطوة حتى تلتوي عن الطريق ؛ والتي ما تكاد ترتفع عن مدى الرؤية الحسية في التصور والاعتقاد ؛ والتي يسهل انتكاسها كلما فتر عنها التوجيه والتسديد
ولقد راودوا نبيهم من قبل أن يجعل لهم إلهاً يعكفون عليه بمجرد رؤيتهم لقوم وثنيين يعكفون على أصنام لهم ! فصدهم نبيهم عن ذلك الخاطر وردهم رداً شديداً . فلما خلوا الى أنفسهم ، ورأوا عجلاً جسداً من الذهب - لا حياة فيه كما تفيد كلمة جسد - صنعه لهم السامري - رجل من السامرة كما يجيء تفصيل قصته في سورة طه - واستطاع أن يجعله بهيئة بحيث يخرج صوتاً كصوت خوار الثيران . . لما رأوا ذلك العجل الجسد طاروا إليه ، وتهافتوا عليه حين قال لهم السامري : " هذا إلهكم وإله موسى " الذي خرج موسى لميقاته معه ؛ فنسي موسى موعده معه - ربما لزيادة الليالي العشر الأخيرة في الميقات التي لم يكن القوم يعلمونها ، فلما زاد عن الثلاثين ولم يرجع قال لهم السامري : لقد نسي موسى موعده مع إلهه فهذا إلهه - ولم يتذكروا وصية نبيهم لهم من قبل بعبادة ربهم الذي لا تراه الأبصار - رب العالمين - ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم ! . . وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم . صورة يعجب منها القرآن الكريم ؛ وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام !
( ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ؟ اتخذوه وكانوا ظالمين ! ) . .
وهل أظلم ممن يعبد خلقاً من صنع أيدي البشر . والله خلقهم وما يصنعون ؟ !
وكان فيهم هارون - عليه السلام - فلم يملك لهم رداً عن هذا الضلال السخيف . وكان فيهم بعض عقلائهم فلم يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد - وبخاصة أنه من الذهب معبود إسرائيل الأصيل !
{ واتخذ قوم موسى من بعده } من بعد ذهابه للميقات . { من حُليّهم } التي استعاروا من القبط حين هموا بالخروج من مصر ، وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم . وهو جمع حلي كثدي وثدي . وقرأ حمزة والكسائي بالكسر بالاتباع كدلي ويعقوب على الإفراد . { عجلا جسدا } بدنا ذا لحم ودم ، أو جسدا من الذهب خاليا من الروح ونصبه على البدل . { له خوار } صوت البقر . روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فصار حيا . وقيل صاغه بنوع من الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت ، وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه إلها . وقرئ " جؤار " أي صياح . { ألم يروا أنه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا } تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر ، والمعنى ألم يروا حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر . { اتخذوه } تكرير للذم أي اتخذوه إلها . { وكانوا ظالمين } واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم .
{ اتخذ } أصله ?يَتَخذ وزنه افتعل ، من َتَخَذ ، هذا قول أبي علي الفارسي ، والضمير في { بعده } عائد على موسى أي بعد مضيه إلى المناجاة وأضاف الحليّ إلى بني إسرائيل وإن كان مستعاراً من القبط إذ كانوا قد تملكوه إما بأن نفلوه كما روي وحكى يحيى بن سلام عن الحسن أنه قال : استعار بنو إسرائيل حلي القبط ليوم الزينة فلما أمر موسى أن يسري بهم ليلاً تعذر عليهم رد العواري ، وأيضاً فخشوا أن يفتضح سرهم ، ثم إن الله نفلهم إياه ، ويحتمل أن يضاف الحلي إلى بني إسرائيل من حيث تصرفت أيديهم فيه بعد غزو آل فرعون ، ويروى أن السامري واسمه موسى بن ظفر وينسب إلى قرية تسمى سامرة قال لهارون حين ذهب موسى إلى المناجاة : يا هارون إن بني إسرائيل قد بددوا الحلي الذي استعير من القبط وتصرفوا فيه وأنفقوا منه ، فلو جمعته حتى يرى موسى فيه رأيه ، قال : فجمعه هارون فلما اجتمع قال للسامري : أنت أولى الناس بأن يختزن عندك ، فأخذه السامري وكان صائغاً فصاغ منه صورة عجل وهو ولد البقرة . { جسداً } أي جثة وجماداً وقيل كان جسداً بلا رأس وهذا تعلق بأن الجسد في اللغة ما عدا الرأس وقيل إن الله جعل له لحماً ودماً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآثار في أن موسى برده بالمبارد تكذب ذلك ، و «الخوار » صوت البقر ، ويروى أن هذا العجل إنما خار مرة واحدة ، وذلك بحيلة صناعية من السامري أو بسحر تركب له من قبضه القبضة من أثر الرسول ، أو بأن الله أخار العجل لفتن بني إسرائيل ، وقرأت فرقة له «جوار » بالجيم وهو الصياح قال أبو حاتم وشدة الصوت ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر وشيبة «من حُلِيهم » بضم الحاء وكسر اللام ، وهو جمع حلي على مثال ثدي ، وثديّ ، وأصله حلوي قلبت الواو ياء وأدغمت فجاء حلي فكسرت اللام لتناسب الياء ، وقرأ حمزة والكسائي «من حِليهم » بكسر الحاء على ما قدمنا من التعليل ، قال أبو حاتم إلا أنهم كسروا الحاء إتباعاً لكسرة اللام ، قال أبو علي وقوى التغيير الذي دخل على الجمع على هذا التغيير الأخير ، قال ومما يؤكد كسر الفاء في هذا النحو من الجمع قولهم قسيّ ، قال أبو حاتم وقرأ هكذا يحيى بن وثاب وطلحة والأعمش وأصحاب عبد الله ، وقرأ يعقوب الحضرمي «من حَلْيهم » بفتح الحاء وسكون اللام ، فإما أن يكون مفرداً يراد به الجميع وإما أن يكون جمع حلية كتمرة وتمر ومعنى الحلي ما يتجمل به من حجارة وذهب وفضة ، ثم بين الله تعالى سوء فطرهم وقرر فساد اعتقادهم بقوله { ألم يروا أنه لا يكلمهم } الآية ، وذلك أن الصامت الجماد لا يتصف بالإلهية والذي لا يرشد إلى خير ولا يكشف غماً كذلك ، والضمير في { اتخذوه } عائد على العجل ، وقوله { وكانوا } إخبار لنا عن جميع أحوالهم ماضياً وحالاً ومستقبلاً ، ويحتمل أن تكون الواو واو حال ، وقد مر في البقرة سبب اتخاذ العجل وبسط تلك الحال بما أغنى عن إعادته هاهنا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.