ثم أمر الله نبيه أن يخبرهم أنهم سيبتلون بالدعوة إلى جهاد قوم أشداء ، يقاتلونهم على الإسلام ، فإذا نجحوا في هذا الابتلاء كان لهم الأجر ، وإن هم ظلوا على معصيتهم وتخلفهم فذلك هو الامتحان الأخير :
( قل للمخلفين من الأعراب : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ، تقاتلونهم أو يسلمون ، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ) .
وتختلف الأقوال كذلك في من هم القوم أولو البأس الشديد . وهل كانوا على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أم على عهود خلفائه . والأقرب أن يكون ذلك في حياة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليمحص الله إيمان هؤلاء الأعراب من حول المدينة .
والمهم أن نلحظ طريقة التربية القرآنية ، وطريقة علاج النفوس والقلوب . بالتوجيهات القرآنية ، والابتلاءات الواقعية . وهذا كله ظاهر في كشف نفوسهم لهم وللمؤمنين ، وفي توجيههم إلى الحقائق والقيم وقواعد السلوك الإيماني القويم .
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم ، الذين هم أولو بأس شديد ، على أقوال :
أحدها : أنهم هوازن . رواه شعبة عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير - أو عكرمة{[26846]} ، أو جميعا - ورواه هُشيم عن أبي بشر ، عنهما . وبه يقول قتادة في رواية عنه .
الثالث : بنو حنيفة ، قاله جويبر . ورواه محمد بن إسحاق ، عن الزهري . وروي مثله عن سعيد وعكرمة .
الرابع : هم أهل فارس . رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه يقول عطاء ، ومجاهد ، وعكرمة - في إحدى الروايات عنه .
وقال كعب الأحبار : هم الروم . وعن ابن أبي ليلى ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة : هم فارس والروم . وعن مجاهد : هم أهل الأوثان . وعنه أيضا : هم رجال أولو بأس شديد ، ولم يعين فرقة . وبه يقول ابن جريج ، وهو اختيار ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القواريري ، عن مَعْمَر{[26847]} ، عن الزهري ، في قوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : لم يأت أولئك بعد .
وحدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي خالد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة في قوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : هم البارزون .
قال : وحدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ، ذلف الآنف ، كأن وجوههم المجانّ المطرقة " . قال سفيان : هم الترك {[26848]} .
قال ابن أبي عمر : وجدت في مكان{[26849]} آخر : ابن أبي خالد عن أبيه قال : نزل علينا أبو هريرة ففسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقاتلون قومًا نعالهم الشَّعْر " قال : هم البارزون ، يعني الأكراد{[26850]} .
وقوله : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } يعني : يشرع لكم جهادهم وقتالهم ، فلا يزال ذلك مستمرا عليهم ، ولكم النصرة عليهم ، أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار .
ثم قال : { فَإِنْ تُطِيعُوا } أي : تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه ، { يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ } يعني : زمن الحديبية ، حيث دعيتم{[26851]} فتخلفتم ، { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
انتقال إلى طمأنة المخلفين بأنهم سينالون مغانم في غزوات آتية ليعلموا أن حرمانهم من الخروج إلى خيبر مع جيش الإسلام ليس لانسلاخ الإسلام عنهم ولكنه لِحكمة نوط المسبّبات بأسبابها على طريقة حكمة الشريعة فهو حرمان خاص بوقعة معينة كما تقدم آنفاً ، وأنهم سيدعون بعد ذلك إلى قتال قوم كافرين كما تُدعى طوائف المسلمين ، فذِكر هذا في هذا المقام إدخال للمسرة بعد الحزن ليزيل عنهم انكسار خواطرهم من جراء الحرمان . وفي هذه البشارة فرصة لهم ليستدركوا ما جنوه من التخلف عن الحديبية وكل ذلك دال على أنهم لم ينسلخوا عن الإيمان ، ألا ترى أن الله لم يعامل المنافقين المبطنين للكفر بمثل هذه المعاملة في قوله : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تَخْرجُوا معي أبداً ولن تقاتلوا معِي عدوّاً إنكم رضِيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين } [ التوبة : 83 ] .
وكرر وصف من { الأعراب } هنا ليظهر أن هذه المقالة قصد بها الذين نزل فيهم قوله : { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا } [ الفتح : 11 ] فلا يتوهم السامعون أن المعنى بالمخلفين كل من يقع منه التخلف .
وأسند { تدعون } إلى المجهول لأنّ الغرض الأمر بامتثال الدّاعي وهو وليّ أمر المسلمين بقرينة قوله بعد في تذييله { ومن يطع الله ورسوله } [ الفتح : 17 ] ودعوة خلفاء الرّسول صلى الله عليه وسلم من بعده ترجع إلى دعوة الله ورسوله لقوله : ( ومن أطاع أمري فقد أطاعني ) .
وعدي فعل { ستدعون } بحرف { إلى } لإفادة أنها مضمنة معنى المشي ، وهذا فرق دقيق بين تعدية فعل الدعوة بحرف { إلى } وبين تعديته باللام نحو قولكَ : دعوت فلاناً لما نَابني ، قال طرفة :
وإن أُدْع للجُلَّى أكن من حُماتِهَا
وقد يتعاقب الاستعمالان بضربٍ من المجاز والتسامح .
والقوم أولو البأس الشديد يتعين أنهم قوم من العرب لأن قوله تعالى : { تقاتلونهم أو يسلمون } يشعر بأن القتال لا يرفع عنهم إلا إذا أسلموا ، وإنما يكون هذا حُكماً في قتال مشركي العرب إذ لا تقبل منهم الجزية . فيجوز أن يكون المراد هوازنَ وثقيف . وهذا مروي عن سعيد بن جُبير ، وعكرمة وقتادة ، وذلك غزوة حنين وهي بَعد غزوة خيبر ، وأما فتح مكة فلم يكن فيه قتال . وعن الزهري ومقاتل : أنهم أهل الردة لأنهم من قبائل العرب المعروفة بالبأس ، وكان ذلك صدرَ خلافة أبي بكر الصديق . وعن رافع بن خديج أنه قال : والله لقد كنا نقرأ هذه الآية { ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد } فلا نعلم من هم حتى دَعَانَا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم ، وعن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ، وعطاء الخراساني ، والحسن هم فارس والروم .
وجملة { تقاتلونهم أو يسلمون } إمّا حال من ضمير { تدعون } ، وإما بدل اشتمال من مضمون { تدعون } .
و { أو } للترديد بين الأمرين والتنويع في حالة تُدعون ، أي تدعون إلى قتالهم وإسلامهم ، وذلك يستلزم الإمعان في مقاتلتهم والاستمرار فيها ما لم يسلموا ، فبذلك كان { أو يسلمون } حالاً معطوفاً على جملة { تقاتلونهم } وهو حال من ضمير { تدعون } .
وقوله : { وإن تتولوا كما توليتُم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً } تَعبير بالتوالي الذي مضى ، وتحذير من ارتكاب مثله في مثل هذه الدعوة بأنه تَوَلَّ يوقع في الإثم لأنه تولَ عن دعوة إلى واجب وهو القتال للجهاد . فالتشبيه في قوله : { كما توليتم من قبل } تشبيه في مطلق التولّي لقصد التشويه وليس تشبيهاً فيما يترتب على ذلك التولي .