101- تلك القرى التي بعد عهدها ، وطال الأمد على تاريخها ، نقُص عليك الآن بعض أخبارها مما فيه عبرة . ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم ، فلم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجيء البينات ، لتمرسهم بالتكذيب للصادقين ، فكذَّبوا رسلهم ولم يهتدوا ، وهكذا يجعل الله حجاباً على قلوب الكافرين وعقولهم ، فيخفي عليهم طريق الحق ويَنْأوْن عنه .
والآن - وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية ، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية - يتجه بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى ، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان ، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام :
( تلك القرى نقص عليك من أنبائها ، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل . كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين . وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . .
فهو قصص من عند الله ، ما كان للرسول [ ص ] به من علم ، إنما هو وحي الله وتعليمه .
( ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ) . .
فلم تنفعهم البينات . وظلوا يكذبون بعدها ، كما كذبوا قبلها . ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه . فالبينات لا تؤدي بالمكذبين الى الإيمان . وليس البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا . إنما كان ينقصهم القلب المفتوح ، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى . كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب . فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها ، فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب :
لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب [ عليهم الصلاة والسلام ]{[11989]} وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين ، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين ، قال تعالى : { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي : يا محمد { مِنْ أَنْبَائِهَا } أي : من أخبارها ، { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] وقال تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ هود : 101 ، 102 ]
وقوله تعالى : { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } الباء سببية ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم . حكاه ابن عطية ، رحمه الله ، وهو متجه حسن ، كقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ [ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون ]{[11990]} } [ الأنعام : 110 ، 111 ] ؛ ولهذا قال هنا : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } .
{ تلك } ابتداء ، و { القرى } قال قوم هو نعت والخبر { نقصّ } ويؤيد هذا أن القصد إنما الإخبار بالقصص .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أن { القرى } هي خبر الابتداء ، وفي ذلك معنى التعظيم لها ولمهلكها ، وهذا كما قيل في { ذلك الكتاب } إنه ابتداء وخبر ، وكما قال صلى الله عليه وسلم «أولئك الملأ » ، وكقول أبي الصلت : تلك المكارم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا كثير ، وكأن في اللفظ معنى التحسر على القرى المذكورة ، والمعنى : نقص عليك من أنباء الماضين لتتبين العبر وتعلم المثلات التي أوقعها الله بالماضين ثم ابتدأ الخبر عن جميعهم بقوله { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام يحتمل أربعة وجوه من التأويل ، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما تبين به تكذيبهم من قبل ، وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصرامة عليه ويؤيد هذا قوله { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليؤمنوا أي ما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد ، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر ، بل كفر كلهم ومشى بعضهم عن سنن بعض في الكفر .
قال القاضي أبو محمد : أشار إلى هذا القول النقاش ، فكأن الضمير في قوله { كانوا } يختص بالآخرين ، والضمير في قوله { كذبوا } يختص بالقدماء منهم ، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد : فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم — لو ردوا ?لى الدنيا ومكنوا من العودة — ليؤمنوا بما كذبوا في حال حياتهم ودعاء الرسول لهم ، قاله مجاهد وقرنه بقوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وهذه أيضاً صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر ، بل هي غاية في ذلك ، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى أنهم مكذبون به ، فجعل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرسل ، وذكر هذا التأويل المفسرون وقرنوه بأن الله عز وجل حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق ، وهو قول أبي بن كعب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.