27- فقلنا له عن طريق الوحي : اصنع السفينة وعنايتنا ترعاك ، فتدفع عنك شرهم ونرشدك في عملك ، فإذا حل ميعاد عذابهم ، ورأيت التنور يفور ماء بأمرنا ، فأدخل في السفينة من كل نوع من الكائنات الحية ذكراً وأنثى ، وأدخل أهلك أيضاً إلا من تقرر تعذيبهم لعدم إيمانهم ، ولا تسألني نجاة الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بالكفر والطغيان ، فإني حكمت بإغراقهم لظلمهم بالإشراك والعصيان{[143]} .
( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك - إلا من سبق عليه القول منهم - ولا تخاطبني في الذين ظلموا . إنهم مغرقون ) . .
وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم . ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح ، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود . . كان العلاج هو الطوفان ، الذي يجتب كل شيء ، ويجرف كل شيء . ويغسل التربة ، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد ، فتنشأ على نظافة ، فتمد وتكبر حتى حين :
( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) . . والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان ، ولحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد . وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده ، لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل ، وبذل آخر ما في طوقه ، ليستحق المدد من ربه . فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين ، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا على الانتظار ! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني ؛ فدفع به إلى الأخذ بالأسباب ؛ مع رعاية الله له ، وتعليمه صناعة الفلك ، ليتم أمر الله ، وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق .
وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف : ( فإذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، وانبجس منه الماء ، فتلك هي العلامة ليسارع نوح ، فيحمل في السفينة بذور الحياة : ( فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) . . من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان ، الميسرة كذلك لبني الإنسان ( وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم )وهم الذين كفروا وكذبوا ، فاستحقوا كلمة الله السابقة ، وسنته النافذة ، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله .
وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد ، ولا يحاول إنقاذ أحد - ولو كان أقرب الأقربين إليه - ممن سبق عليهم القول .
( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) .
فسنة الله لا تحابي ، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم ، من أجل خاطر ولي ولا قريب !
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ، عليه السلام ، أنه دعا ربه يستنصره على قومه ، كما قال تعالى مخبرا [ عنه ]{[20537]} في الآية الأخرى : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر : 10 ] ، وقال هاهنا : { [ قَالَ ]{[20538]} رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها ، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، أي : ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار ، وغير ذلك ، وأن يحمل فيها أهله { إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } أي : سبق فيه القول من الله بالهلاك ، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله ، كابنه وزوجته ، والله أعلم .
وقوله : { وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } أي : عند معاينة إنزال المطر العظيم ، لا تأخذنك رأفة بقومك ، وشفقة عليهم ، وطَمَع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون ، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان . وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة " هود " {[20539]} بما يغني عن إعادة ذلك هاهنا .
{ فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا } بحفظنا نحفظه أن تخطىء فيه أو يفسده عليك مفسد . { ووحينا } وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع . { فإذا جاء أمرنا } بالركوب أو نزول العذاب . { وفار التنور } .
روي أنه قيل لنوح إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك ، فلما نبع الماء منه أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة . وقيل عين وردة من الشام وفيه وجوه أخر ذكرتها في " هود " { فاسلك فيها } فادخل فيها يقال سلك فيه وسلك غيره قال تعالى { ما سلككم في سقر } . { من كل زوجين اثنين } من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين ، وقرأ حفص " من كل " بالتنوين أي من كل نوع زوجين واثنين تأكيد . { وأهلك } وأهل بيتك أو من آمن معك . { إلا من سبق عليه القول منهم } أي القول من الله تعالى بإهلاكه لكفره ، وإنما جيء بعلى لأن السابق ضار كما جيء باللام حيث كان نافعا في قوله تعالى : { إن الذين سبقت لهممنا الحسنى } { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } بالدعاء لهم بالإنجاء . { إنهم مغرقون } لا محالة لظلمهم بالإشراك والمعاصي ، ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف وقد أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بقوله : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين } كقوله تعالى { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } .