والآن وقد انتهى القصص ، وانتهت التعقيبات المباشرة على ذلك القصص . الآن يتوجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة . يتوجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو مخرج من بلده ، مطارد من قومه ، وهو في طريقه إلى المدينة لم يبلغها بعد ، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة ، قريبا من الخطر ، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه ، والذي يعز عليه فراقه ، لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه ، ومهد ذكرياته ، ومقر أهله . يتوجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو في موقفه ذاك :
( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) . .
فما هو بتاركك للمشركين ، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة . ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك ، ويستبدون بك وبدعوتك ، ويفتنون المؤمنين من حولك . إنا فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره ، وفي الوقت الذي فرضه ؛ وإنك اليوم لمخرج منه مطارد ، ولكنك غدا منصور إليه عائد .
وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب ، ليمضي [ صلى الله عليه وسلم ] في طريقه آمنا واثقا ، مطمئنا إلى وعد الله الذي يعلم صدقه ، ولا يستريب لحظة فيه .
وإن وعد الله لقائم لكل السالكين في الطريق ؛ وإنه ما من أحد يؤذى في سبيل الله ، فيصبر ويستيقن إلا نصره الله في وجه الطغيان في النهاية ، وتولى عنه المعركة حين يبذل ما في وسعه ، ويخلي عاتقه ، ويؤدي واجبه .
( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) . ولقد رد موسى من قبل إلى الأرض التي خرج منها هاربا مطاردا . رده فأنقذ به المستضعفين من قومه ، ودمر به فرعون وملأه ، وكانت العاقبة للمهتدين . . فامض إذن في طريقك ، ودع أمر الحكم فيما بينك وبين قومك لله الذي فرض عليك القرآن :
يقول تعالى آمرًا رسولَه ، صلوات الله وسلامه عليه ، ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس ، ومخبرًا له بأنه سيرده إلى معاد ، وهو يوم القيامة ، فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة ؛ ولهذا قال : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } أي : افترض عليك أداءه إلى الناس ، { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } أي : إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك ، كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] ، وقال { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ]{[22457]} } [ المائدة : 109 ] [ وقال ] :{[22458]} { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] .
وقال السدي عن أبي صالح ، عن{[22459]} ابن عباس : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } ، يقول : لرادُّك إلى الجنة ، ثم سائلك عن القرآن . قال السدي : وقال أبو سعيد مثلها .
وقال الحكم بن أَبان ، عن عِكْرمِة ، [ و ]{[22460]} عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : إلى يوم القيامة . ورواه مالك ، عن الزهري .
وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس{[22461]} : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } : إلى الموت .
ولهذا طُرُقٌ عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وفي بعضها : لرادك إلى معدنك من الجنة .
وقال مجاهد : يحييك يوم القيامة . وكذا روي عن عكرمة ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي قَزَعَةَ ، وأبي مالك ، وأبي صالح .
وقال الحسن البصري : أي والله ، إن له لمعادًا{[22462]} ، يبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة .
وقد رُوي عن ابن عباس غير ذلك ، كما قال البخاري في التفسير من صحيحه{[22463]} :
حدثنا محمد بن مقاتل ، أنبأنا يعلى ، حدثنا سفيان العُصْفُريّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : إلى مكة .
وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه ، وابن جرير من حديث يعلى - وهو ابن عبيد الطَّنَافِسيّ - به{[22464]} . وهكذا روى العَوْفيّ ، عن ابن عباس : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } أي : لرادك إلى مكة كما أخرجك منها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن مجاهد في قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } : إلى مولدك بمكة .
قال ابن أبي حاتم : وقد روى عن ابن عباس ، ويحيى بن الجزار ، وسعيد بن جبير ، وعطية ، والضحاك ، نحو ذلك .
[ وحدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر قال : قال سفيان : فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة ، عن الضحاك ]{[22465]} قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، فبلغ الجُحْفَة ، اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله عليه : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } إلى مكة .
وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية ، وإن كان مجموع السورة مكيا ، والله أعلم .
وقد قال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : هذه مما كان ابن عباس يكتمها ، وقد رَوَى ابنُ أبي حاتم بسنده عن نعيم القارئ أنه قال في قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : إلى بيت المقدس .
وهذا - والله أعلم - يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة ؛ لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر ، والله الموفق للصواب .
ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة ، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجله ، صلوات الله وسلامه عليه{[22466]} ، كما فسره ابن عباس بسورة { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } أنه أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه ، وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب ، ووافقه عمر على ذلك ، وقال : لا أعلم منها غير الذي تعلم . ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } بالموت ، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت ، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين : الجن والإنس ، ولأنه أكمل خلق الله ، وأفصح{[22467]} خلق الله ، وأشرف خلق الله على الإطلاق .
وقوله : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : قل - لِمَنْ خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومَنْ تبعهم على كفرهم - قل : ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني ، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار ، ولِمَنْ تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة .
{ إن الذي فرض عليك القرآن } أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه . { لرادك إلى معاد } أي معاد وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه ، أو مكة التي اعتدت بها أنه من العادة رده إليها يوم الفتح ، كأنه لما حكم بأن { العاقبة للمتقين } وأكد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين . روي أنه لما بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده ومولده آبائه فنزلت . { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يفسره أعلم . { ومن هو في ضلال مبين } وما استحقه من العذاب والإذلال يعني به نفسه والمشركين ، وهو تقرير للوعد السابق وكذا قوله : { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } .