ثم يمضي في الموازنة بين حال الفريقين ؛ ويعلل لم كان الله ولي المؤمنين يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ، بعد النصر والكرامة في الدنيا ? ولم كان الذين كفروا لا مولى لهم معرضين للهلاك في الدنيا - بعد حياة حيوانية هابطة - وللعذاب في الآخرة والثوي في النار والإقامة :
( أفمن كان على بينة من ربه ، كمن زين له سوء عمله ، واتبعوا أهواءهم ? ) . .
فهو فارق أصيل في الحالة التي عليها الفريقان ، وفي المنهج والسلوك سواء . فالذين آمنوا على بينة من ربهم . . رأوا الحق وعرفوه ، واستيقنوا من مصدره واتصلوا بربهم فتلقوا عنه ، وهم على يقين مما يتلقون . غير مخدوعين ولا مضللين . والذين كفروا زين لهم سوء عملهم ، فرأوه حسنا وهو سيء ؛ ولم يروا ولم يستيقنوا ، ( واتبعوا أهواءهم ) . بلا ضابط يرجعون إليه ، ولا أصل يقيسون عليه ، ولا نور يكشف لهم الحق من الباطل .
أهؤلاء كهؤلاء ? إنهم يختلفون حالا ومنهجا واتجاها . فلا يمكن أن يتفقوا ميزانا ولا جزاء ولا مصيرا !
يقول : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } أي : على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه ، بما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم ، وبما جَبَله الله عليه من الفطرة المستقيمة ، { كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } أي : ليس هذا ، كهذا كقوله : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } [ الرعد : 19 ] ، وكقوله : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"أَفَمَنْ كَانَ" على برهان وحجة وبيان "مِنْ أمر رَبّهِ "والعلم بوحدانيته، فهو يعبده على بصيرة منه، بأن له ربّا يجازيه على طاعته إياه الجنة، وعلى إساءته ومعصيته إياه النار، "كمَنْ زُيّنَ لَه سُوءُ عَمَلِهِ" يقول: كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله وسيئته، فأراه جميلاً، فهو على العمل به مقيم، "واتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ" واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم من معصية الله، وعبادة الأوثان من غير أن يكون عندهم بما يعملون من ذلك برهان وحجة. وقيل: إن الذي عُني بقوله: أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ نبينا عليه الصلاة والسلام، وإن الذي عُنِي بقوله: كمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هم المشركون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لم يخرج لهذا الحرف جواب لما هم عرفوا بالبديهة أن ليس من {كان على بيّنة من ربه كمن زُيّن له سوء عمله} واتبع هواه، يعرف ذلك بالبديهة؛ كمن يقول: ليس المُحسِن كالمسيء، وليس من يُحسن كمن يُسيء ونحو ذلك مما يعرفه كل أحد، لا يحتاج إلى بيان وجواب، فعلى ذلك هذا. ثم في ذلك وجهان:
أحدهما: يذكر سفههُم باختيارهم اتباع هواهم وما زُيّن لهم من سوء عملهم على اتباع من كان على بيّنة وبيان على علم بذلك ويقين، والله أعلم.
والثاني: فيه ذِكر دلالة البعث؛ يقول، والله أعلم: لما عرفتم أن من كان على بيّنة من ربه ليس كمن يتّبع هوى نفسه، وقد استويا في هذه الدنيا: انتفع هذا كما انتفع الآخر، وفي العقول لا استواء بينهما. فدلّ استواؤهما في هذه الدار على أن هناك دارا أخرى: ثم يُفرَّق بينهما ويُميَّز، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
من زين له: هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله، ومن كان على بينة من ربه أي على حجة من عنده وبرهان: وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات هو رسول الله صلى الله عليه وسلم...
{على بينة} فرق فارق، وقوله {من ربه} مكمل له...
{من ربه} ليس المراد إنزالها منه بل المراد كونها من الرب بمعنى قوله {يهدي من يشآء} وقولنا الهداية من الله، وكذلك قوله تعالى: {كمن زين له سوء عمله} فرق فارق، وقوله {واتبعوا أهواءهم} تكملة وذلك أن من زين له سوء عمله وراجت الشبهة عليه في مقابلة من يتبين له البرهان وقبله، لكن من راجت الشبهة عليه قد يتفكر في الأمر ويرجع إلى الحق، فيكون أقرب إلى من هو على البرهان، وقد يتبع هواه ولا يتدبر في البرهان ولا يتفكر في البيان فيكون في غاية البعد...
. {من ربه} معناه الإضافة إلى الله، كقولنا الهداية من الله...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{على بينة}... أي: على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه، بما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم، وبما جَبَله الله عليه من الفطرة المستقيمة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أفمن كان} أي في جميع أحواله {على بينة} أي حالة ظاهرة البيان في أنها حق {من ربه} المربي المدبر له المحسن إليه بما يقيم من الأدلة التي تعجز الخلائق أجمع عن أن يأتوا بواحد منها فبصر سوء عمله وأريه على حقيقته فرآه سيئاً فاجتنبه مخالفاً...
{كمن زين له} بتزيين الشيطان بتسليطنا له عليه وخلقنا للآثار بأيسر أمر {سوء عمله} من شرك أو معصية دونه. ولما كان التقدير: فرآه حسناً فعمله ملازماً له، فكان على عمى وضلال، وكان قد أفرد الضمير لقبول "من "له من جهة لفظها، جمع رداً على معناها بتعميم القبح مثنى وفرادى، وإشارة إلى أن- القبيح يكون أولاً قليلاً جداً، فمتى غفل عنه فلم تحسم مادته دب وانتشر فقال عاطفاً على ما- قدرته: {واتبعوا أهواءهم} فلا شبهة لهم في شيء من أعمالهم السيئة فضلاً عن دليل...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
والمعنى: أنه لا يستوي من كان على يقين من ربه، ولا يكون كمن زيّن له سوء عمله، وهو عبادة الأوثان والإشراك بالله، والعمل بمعاصي الله، واتبعوا أهواءهم في عبادتها، وانهمكوا في أنواع الضلالات بلا شبهة توجب الشك فضلاً عن حجة نيرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أفمن كان على بينة من ربه، كمن زين له سوء عمله، واتبعوا أهواءهم؟).. فهو فارق أصيل في الحالة التي عليها الفريقان، وفي المنهج والسلوك سواء. فالذين آمنوا على بينة من ربهم.. رأوا الحق وعرفوه، واستيقنوا من مصدره واتصلوا بربهم فتلقوا عنه، وهم على يقين مما يتلقون. غير مخدوعين ولا مضللين. والذين كفروا زين لهم سوء عملهم، فرأوه حسنا وهو سيء؛ ولم يروا ولم يستيقنوا، (واتبعوا أهواءهم). بلا ضابط يرجعون إليه، ولا أصل يقيسون عليه، ولا نور يكشف لهم الحق من الباطل. أهؤلاء كهؤلاء؟ إنهم يختلفون حالا ومنهجا واتجاها. فلا يمكن أن يتفقوا ميزانا ولا جزاء ولا مصيرا!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وبني فعل {زُيّن} للمجهول ليشمل المزيّنين لهم من أيمة كفرهم، وما سولته لهم أيضاً عقولهم الآفنة من أفعالهم السيئة اغتراراً بالإلف أو اتباعاً للذات العاجلة أو لِجلب الرئاسة، أي زَيَّن له مُزيّنَ سوءَ عمله، وفي هذا البناء إلى المجهول تنبيه لهم أيضاً ليرجعوا إلى أنفسهم فيتأمّلوا فيمن زيّن لهم سوء أعمالهم...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآية تساؤل إنكاري عما إذا كان الذين هم على بينة من ربهم سائرون على طريق الحق والهدى يصح أن يكونوا سواء مع الذين اتبعوا الهوى، وانقلبت الحقائق في عقولهم وزينت لهم أعمالهم السيئة. وتضمنت الآية نفي إمكان التسوية بين الفريقين على ما تلهمه روحها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زيّن له سوء عمله واتبعوا أهواءهم)؟ إنّ الفريق الأوّل قد اختاروا طريقهم عن معرفة صحيحة، ورؤية واقعية، وعن يقين ودليل وبرهان قطعي، وهم يرون طريقهم وهدفهم بوضوح...
أمّا الفريق الثّاني فقد ابتلوا بسوء التشخيص، وعدم إدراك الواقع، وظلمة المسير والهدف، فهم في ظلمات الأوهام حائرون. والعامل الأساس في هذه الحيرة والضلالة هو اتباع الهوى والشهوات، لأنّ الهوى والشهوات تلقي الحجب على عقل الإنسان وفكره، فتصوّر له القبيح حسناً...من الذي يزيّن أعمال السوء في أنظار عبدة الهوى ومتبعيه؟ أهو الله سبحانه، أم هم أنفسهم، أم الشياطين؟ ينبغي أن يقال: إنّها تصح جميعاً، لأنّ التزيين نسب إلى الثلاثة في آيات القرآن، فتقول الآية (4) من سورة النمل: (إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم). وجاء في آيات عديدة أخرى، ومن جملتها الآية (38) من سورة العنكبوت، التي تقول: (وزيّن لهم الشيطان أعمالهم). وظاهر الآية مورد البحث، وبملاحظة الجملة: (واتبعوا أهواءهم) أنّ هذا التزيين ناشئ عن اتباع الهوى، وقضية كون الهوى والشهوات تسلب الإنسان القدرة على الحس والتشخيص والإدراك الصحيح للحقائق، قضية يمكن إدراكها بوضوح. إنّ نسبة التزيين إلى الشيطان طبعاً صحيحة أيضاً، لأنّه هو الذي ينصب المكائد ويوسوس للإنسان أن يلجها، ويزيّن له اتباع الهوى. وأمّا نسبته إلى الله سبحانه فلأنّه مسبب الأسباب، وإليه يرجع كلّ سبب، فهو الذي أعطى النّار الإحراق، ومنح الهوى قدرة تغطية الحقائق وإلقاء الحجب عليها لئلا يدركها من يتبعه، وقد أظهر هذا التأثير وأعلنه من قبل، ولذلك فإنّ أصل المسؤولية يرجع إلى نفس الإنسان...