( ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) . .
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر ، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادى ء الهادي?
ألا إنهما طريقان مختلفان : شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان !
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله { بِالشَّرِّ } أي : بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك ، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 11 ] ، وكذا فسره ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقد تقدم في الحديث : " لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم ، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها " .
وإنما يحمل ابن آدم على ذلك عجلته وقلقه ؛ ولهذا قال تعالى { وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا }
وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس - رضي الله عنهما - هاهنا قصة آدم ، عليه السلام ، حين همّ بالنهوض قائمًا قبل أن تصل الروح إلى رجليه ، وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه ، فلما وصلت إلى دماغه عطس ، فقال : الحمد لله . فقال الله : يرحمك ربك يا آدم . فلما وصلت إلى عينيه فتحهما ، فلما سرت إلى أعضائه وجسده جعل ينظر إليه ويعجبه ، فهمّ بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع{[17237]} وقال : يا رب عجل{[17238]} قبل الليل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً } .
يقول تعالى ذكره مذكرا عباده أياديه عندهم ، ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشرّ ، فيقول : اللهمّ أهلكه والعنه عند ضجره وغضبه ، كدعائه بالخير : يقول : كدعائه ربه بأن يهب له العافية ، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده ، يقول : فلو استجيب له في دعائه على نفسه وماله وولده بالشرّ كما يستجاب له في الخير هلك ، ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَدْعُ الإنْسانُ بالشّرّ دعاءَه بالخَيْرِ وكانَ الإنْسان عَجُولاً يعني قول الإنسان : اللهمّ العنه واغضب عليه ، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجِل له الخير ، لهلك ، قال : ويقال : هو وإذَا مَسّ الإنْسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنِبِهْ أوْ قَاعِدا أَوْ قائِما أن يكشف ما به من ضرّ ، يقول تبارك وتعالى : لو أنه ذكرني وأطاعني ، واتبع أمري عند الخير ، كما يدعوني عند البلاء ، كان خيرا له .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَدْع الإنْسَانُ بالشّرّ دعاءَهُ بالخَيْرِ وكانَ الإنْسَانُ عَجُولاً يدعو على ماله ، فيلعن ماله وولده ، ولو استجاب الله له لأهلكه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ويَدْعُ الإنْسانُ بالشّرّ دُعاءَهُ بالخَيْرِ قال : يدعو على نفسه بما لو استجيب له هلك ، وعلى خادمه ، أو على ماله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَيَدْعُ الإنْسانُ بالشّرّ دُعاءَهُ بالخَيْرِ وكانَ الإنْسانُ عَجولاً قال : ذلك دعاء الإنسان بالشرّ على ولده وعلى امرأته ، فيعجل : فيدعو عليه ، ولا يحب أن يصيبه .
واختلف في تأويل قوله : وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً فقال مجاهد ومن ذكرت قوله : معناه : وكان الإنسان عَجولاً ، بالدعاء على ما يكره ، أن يُستجاب له فيه .
وقال آخرون : عنى بذلك آدم أنه عجل حين نفخ فيه الروح قبل أن تجري في جميع جسده ، فرام النهوض ، فوصف ولده بالاستعجال ، لما كان من استعجال أبيهم آدم القيام ، قبل أن يتمّ خلقه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شُعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، أن سلمان الفارسيّ ، قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه ، فجعل ينظر وهو يُخلق ، قال : وبقيت رجلاه فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ عَجّل قبل الليل ، فذلك قوله : وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : لما نفخ الله في آدم من روحه أتت النفخة من قبَل رأسه ، فجعل لا يجرى شيء منها في جسده ، إلا صار لحما ودما فلما انتهت النفخة إلى سرّته ، نظر إلى جسده ، فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول الله تبارك وتعالى : وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً قال : ضَجِرا لا صبر له على سرّاء ، ولا ضرّاء .
موقع هذه الآية هنا غامض ، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضاً ، ولم يأت فيها المفسرون بما ينثلج له الصدر . والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يس : 48 ] عُطف هذا الكلام على ما سبق تنبيهاً على أن لذلك الوعد أجلاً مسمى . فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } و { أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً } [ مريم : 66 67 ] وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن .
وفعل يدعو } مستعمل في معنى يطلب ويبتغي ، كقول لبيد
ادْعُو بهن لعَاقر أو مُطْفِل *** بُذِلَت لجيران الجميع لِحَامُها
وقوله : { دعاءه بالخير } مصدر يفيد تشبيهاً ، أي يستعجل الشر كاستعجاله الخير ، يعني يستبطىء حلول الوعيد كما يستبطىء أحد تأخر خير وعد به .
وقوله : { وكان الإنسان عجولاً } تذييل ، فالإنسان هنا مراد به الجنس لأنه المناسب للتذييل ، أي وما هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة إلا من نوع الإنسان ، وفي نوع الإنسان الاستعجال فإن ( كان ) تدل على أن اسمها متصف بخبرها اتصافاً متمكناً كقوله تعالى : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] .
والمقصود من قوله : { وكان الإنسان عجولاً } الكناية عن عدم تبصره وأن الله أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت الأشياء { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } [ يونس : 11 ] ، ولكنه دَرّج لهم وصول الخير والشر لطفاً بهم في الحالين .
والباء في قوله : بالشر وبالخير لتأكيد لصوق العامل بمعموله كالتي في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ؛ أو لتضمين مادة الدعاء معنى الاستعجال ، فيكون كقوله تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } [ الشورى : 18 ] .
وعجول : صيغة مبالغة في عاجل . يقال : عجل فهو عاجل وعجول .
وكتب في المصحف { ويدع } بدون واو بعد العين إجراء لرسم الكلمة على حالة النطق بها في الوصل كما كتب { سَنْدُع الزبانية } [ العلق : 18 ] ونظائرها . قال الفراء : لو كتبت بالواو لكان صواباً .