ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف ؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا ، فنزع الله الراية منهم ، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية . . فوق ما ينتظرهم من العذاب ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه :
( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) .
ثم قال تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ]{[5461]} } ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم ، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صَفْوان ، حدثني أزْهَر بن عبد الله الْهَوْزَنِي{[5462]} عن أبي عامر عبد الله بن لُحَيٍّ{[5463]} قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى [ صلاة ]{[5464]} الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ أهْلَ الْكَتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ عَلَى ثنتيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وإنَّ هذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يعني الأهواء - كُلُّهَا فِي النَّار إلا وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارى بِهِمْ تِلْكَ الأهْواء ، كَمَا يَتَجَارى الكَلبُ بصَاحِبِهِ ، لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إلا دَخَلَهُ . واللهِ - يَا مَعْشَر العَربِ - لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جاء بِهِ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم لَغَيْرُكم{[5465]} مِن النَّاسِ أحْرَى ألا يَقُومَ بِهِ " .
وهكذا رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى ، كلاهما عن أبي المغيرة - واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي - به ، وقد رُوي هذا الحديث من طرق{[5466]} .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ تَفَرّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا كالذين تفرّقوا من أهل الكتاب ، واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه ، من بعد ما جاءهم البينات ، من حجج الله ، فيما اختلفوا فيه ، وعلموا الحقّ فيه ، فتعمدوا خلافه ، وخالفوا أمر الله ، ونقضوا عهده وميثاقه ، جراءة على الله ، وأولئك لهم : يعني ولهؤلاء الذين تفرّقوا ، واختلفوا من أهل الكتاب ، من بعد ما جاءهم عذاب من عند الله عظيم . يقول جل ثناؤه : فلا تفرّقوا يا معشر المؤمنين في دينكم تفرّق هؤلاء في دينهم ، ولا تفعلوا فعلهم ، وتستنوا في دينكم بسنتهم ، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِما جاءَهُمُ البَيّناتُ } قال : هم أهل الكتاب ، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرّقوا ويختلفوا ، كما تفرّق واختلف أهل الكتاب ، قال الله عزّ وجلّ : { وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا } ونحو هذا في القرآن أمر الله جلّ ثناؤه المؤمنين بالجماعة ، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِما جاءَهُمُ البَيّناتُ وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال هم اليهود والنصارى .
ثم نهى الله تعالى هذه الأمة عن أن يكونوا كالمتفرقين من الأمم ، واختلفت عبارة المفسرين في المشار إليهم ، فقال ابن عباس : هي إشارة إلى كل من افترق في الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق ، وقال الحسن : هي إشارة إلى اليهود والنصارى ، وقال الزجاج : يحتمل أن تكون الإشارة أيضاً إلى فرق اليهود وفرق النصارى ، ومجيء { البينات } هو ببعث الرسل ، وإنزال الكتب ، وأسند الفعل دون علامة إلى { البينات } ، من حيث نزلت منزلة البيان ، ومن حيث لا حقيقة لتأنيثها ، وباقي الآية وعيد ، وقوله : { عذاب عظيم } يعني أنه أعظم من سواه ، ويتفاضل هذان العوضان بأن أحدهما يتخلله فتور ، وأما الجزء الفرد من هذا وذلك فسواء ، هذا تحرير مذهب أصحابنا الأصوليين رحمهم الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.