24- وحرم عليكم نكاح المتزوجات من النساء عامة ، حرائر وغير حرائر ، إلا من سبيتم وملكتم منهن في حرب بينكم وبين الكفار ، فإن نكاحهن السابق ينفسخ بالسبي ، فيصرن حلالا لكم بعد استبراء أرحامهن ، فالزموا ما كتب الله عليكم في تحريم ما حرم ، ولكم فيما عدا هؤلاء المؤمنات المحرمات أن تطلبوا بأموالكم نساء تتزوجون بهن ، لا تقصدون الزنا أو المخادنة ، فأي نساء استمتعتم بهن بعد الزواج منهن أحل الله لكم الدخول بهن فوفُّوهن مهورهن التي قدَّرتم لهن حقاً عليكم لا تسامح فيه تؤدونه في موعد ، ولا حرج عليكم فيما تم بينكم عن تراض من تنازل زوجة عن بعض مهرها أو زيادة زوج فيه ، إن الله كان ولم يزل مُطَّلِعاً على شئون العباد ، مُدَبِّراً لهم في أحكام ما يصلح به أمرهم .
هذا الدرس تكملة لما جاء في هذه السورة عن تنظيم الأسرة ، على قواعد الفطرة ، ولا يعود السياق بعد ذلك إلا في موضعين لبيان بعض الأحكام التكميلية في هذا الموضوع الأساسي الهام ، الذي يترتب على تنظيمه جريان الحي
ومما يلاحظ - بوجه عام - أن السياق يربط ربطا دقيقا بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان : وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله . وهي مقتضى ألوهيته . فأخص خصائص الألوهية - كما كررنا ذلك في مطلع السورة - هو الحاكمية ، والتشريع للبشر ، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم .
والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق ؛ وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية . ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم . . وهي إشارة ذات مغزى . . فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل ، والحكمة المدركة البصيرة . . هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان ، فلا يصلح بعدها أبدا لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان ! ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم ، وراح يخبط في التيه بلا دليل ، ويزعم أنه قادر ، بجهله وطيشه وهواه ، أن يختار لنفسه ولحياته خيرا مما يختاره الله ! ! !
والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره : هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة ، من المناهج التى يريدها البشر ويهوونها ، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج ، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتا ومشقة ، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس .
وسنرى - عند استعراض النصوص بالتفصيل - مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع ، لولا أن الهوى يطمس القلوب ، ويعمي العيون ، عندما ترين الجاهلية على القلوب والعيون !
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما . ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بالمعروف ، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان . فإذا أحصن ، فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب - ذلك لمن خشي العنت منكم - وأن تصبروا خير لكم ، والله غفور رحيم . يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم . ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا . .
لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية . وذلك في قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا . حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم - الذين من أصلابكم - وأن تجمعوا بين الأختين - إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما ) .
فتتعلق بالمحرمات لأنهن في عصمة رجال آخرين . محصنات بالزواج منهم : فهن محرمات على غير أزواجهن ، لا يحل نكاحهن . . . وذلك تحقيقا للقاعدة الأولى في نظام المجتمع الإسلامي ، من قيامه على قاعدة الأسرة ، وجعلها وحدة المجتمع ، وصيانة هذه الأسرة من كل شائبة ، ومن كل اختلاط في الأنساب ، ينشأ من " شيوعية " الاتصال الجنسي ، أو ينشأ من انتشار الفاحشة ، وتلوث المجتمع بها .
والأسرة القائمة على الزواج العلني ، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه ، ويتم به الإحصان - وهو الحفظ والصيانة - هي أكمل نظام يتفق مع فطرة " الإنسان " وحاجاته الحقيقية ، الناشئة من كونه إنسانا ، لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية - وإن كانت تتضمن هذه الغاية في ثناياها - ويحقق أهداف المجتمع الإنساني ، كما يضمن لهذا المجتمع السلم المطمئنة : سلم الضمير . وسلم البيت . وسلم المجتمع في نهاية المطاف .
والملاحظ بصفة ظاهرة ، أن الطفل الإنساني يحتاج إلى فترة رعاية أطول من الفترة التي يحتاج إليها طفل أي حيوان آخر . كما أن التربية التي يحتاج إليها ليصبح قادرا على إدراك مقتضيات الحياة الإنسانية الاجتماعية المترقية - التي يتميز بها الإنسان - تمتد إلى فترة طويلة أخرى .
وإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار ، فإنها في الإنسان لا تنتهي عند تحقيق هذا الهدف ، إنما هي تمتد إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الذكر والأنثى - بين الرجل والمرأة - ليتم إعداد الطفل الإنساني لحماية نفسه وحفظ حياته ، وجلب طعامه وضرورياته ، كما يتم - وهذا هو الأهم بالنسبة لمقتضيات الحياة الإنسانية - تربية هذا الطفل وتزويده برصيد من التجارب الإنسانية والمعرفة الإنسانية يؤهله للمساهمة في حياة المجتمع الإنساني ، والمشاركة في حمل تبعته من اطراد الترقي الإنساني عن طريق الأجيال المتتابعة .
ومن ثم لم تعد اللذة الجنسية هي المقوم الأول في حياة الجنسين في عالم الإنسان ؛ إنما هي مجرد وسيلة ركبتها الفطرة فيهما ليتم الالتقاء بينهما ويطول بعد الاتصال الجنسي للقيام بواجب المشاركة في اطراد نمو النوع . ولم يعد " الهوى " الشخصي هو الحكم في بقاء الارتباط بين الذكر والأنثى . إنما الحكم هو " الواجب " . . . واجب النسل الضعيف الذي يجيء ثمرة للالتقاء بينهما ، وواجب المجتمع الإنساني الذي يحتم عليهما تربية هذا النسل إلى الحد الذي يصبح معه قادرا على النهوض بالتبعة الإنسانية ، وتحقيق غاية الوجود الإنساني .
وكل هذه الاعتبارات تجعل الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة ، هو النظام الوحيد الصحيح . كما تجعل تخصيص امرأة لرجل هو الوضع الصحيح الذي تستمر معه هذه العلاقة . والذي يجعل " الواجب " لا مجرد اللذة ولا مجرد الهوى ، هو الحكم في قيامها ، ثم في استمرارها ، ثم في معالجة كل مشكلة تقع فيأثنائها ، ثم عند فصم عقدتها عند الضرورة القصوى .
وأي تهوين من شأن روابط الأسرة ، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه - وهو " الواجب " لإحلال " الهوى " المتقلب ، و " النزوة " العارضة ، و " الشهوة " الجامحة محله ، هي محاولة آثمة ، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب ، بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع ؛ وتهدم الأساس الذي يقوم عليه .
ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة ، المسخرة لتوهين روابط الأسرة ، والتصغير من شأن الرباط الزوجي ، وتشويهه وتحقيره ، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب ، والعاطفة الهائجة ، والنزوة الجامحة . وتمجيد هذه الارتباطات ، بقدر الحط من الرباط الزوجي !
كما ندرك مدى الحكمة والعمق في قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجته ، معللا ذلك بأنه لم يعد يحبها : " ويحك ! ألم تبن البيوت إلا على الحب ؟ فأين الرعاية ؟ وأين التذمم ؟ " . . مستمدا قولته هذه من توجيه الله سبحانه وتربية القرآن الكريم لتلك الصفوة المختارة من عباده : ( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . وذلك للإمساك بالبيوت - ما أمكن - ومقاومة نزوات القلوب ، وعلاجها حتى تفيء ، وعدم بت هذه الصلة إلا حين تفلس المجادلات كلها ، رعاية للجيل الناشيء في هذه البيوت ؛ وصيانة لها من هزات العاطفة المتقلبة ، والنزوة الجامحة ، والهوى الذاهب مع الريح !
وفي ظل هذه النظرة السامية العميقة ، تتبدى التفاهة والسطحية فيما ينعق به اليوم أولئك المائعون ، وهم يمجدون كل ارتباط إلا الارتباط الذي يحكم الواجب ، والذي يرعى أمانة الجنس البشري كله ، وهي تنشئة أجيال تنهض بمقتضيات الحياة الإنسانية المترقية ، وتحكيم مصلحة هذه الأجيال ، لا مصلحة العواطف الوقتية الزائلة !
إن أقلاما دنسة رخيصة وأجهزة خبيثة لئيمة توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلا عن زوجها أن تسارع إلى خدين ؛ ويسمون ارتباطها بخدينها هذا " رباطا مقدسا ! " بينما يسمون ارتباطها بذلك الزوج " عقد بيع للجسد " !
والله سبحانه يقول : في بيان المحرمات من النساء : ( والمحصنات من النساء ) . . فيجعلهن " محرمات " . هذا قول الله . وذلك قول المائعين المسخرين لتحطيم هذا المجتمع ونشر الفاحشة فيه . . . ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) .
إن جهودا منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله . ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله . ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله . . والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي ، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية ، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان ، بعد أن تنهار عقائدها ، وتنهار أخلاقها ، وتنهار مجتمعاتها . . ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى . . إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله - لا المجتمع الإسلامي وحده - تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان . وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى . أمانة الحياة الإنسانية المترقية . وذلك بحرمانه منالأطفال المؤهلين - في جو الأسرة الهادى ء ، المطمئن ، الآمن من عواصف الشهوات الجامحة ، والنزوات المتقلبة والهوى الذاهب مع الريح - للنهوض بأمانة الجنس البشري كله . وهي شيء آخر غير مجرد التناسل الحيواني ! وغير مجرد الالتقاء الشهواني على أساس " العواطف " وحدها ، وتنحية " الواجب " المطمئن الثابت الهادى ء !
وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله ، إذ يحطم نفسه بنفسه ؛ ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة . لتحقيق لذاته هو ، وشهواته هو ، وعلى الأجيال القادمة اللعنة . وتحق كلمة الله على الخارجين على كلمته وفطرته وتوجيهه . ويذوق الجنس البشري كله وبال أمره . إلا أن يرحمه الله بالعصبة المؤمنة التي تقر كلمة الله ومنهجه في الأرض ، وتأخذ بيد الناس إليها ؛ وتعصمهم من الشر الماحق الذي يهيئونه لأنفسهم بأيديهم . وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية ، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة ! التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها .
( والمحصنات من النساء - إلا ما ملكت أيمانكم . . ) .
وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب . حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار ، بانقطاع الدار . ويصبحن غير محصنات . فلا أزواج لهن في دار الإسلام . ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة ؛ يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل . ويصبح بعدها نكاحهن حلالا - إن دخلن في الإسلام - أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه ، باعتبارهن ملك يمين . سواء أسلمن أم لم يسلمن .
ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال ، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها . . كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى : ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ؛ فإما منا بعد وإما فداء ؛ حتى تضع الحرب أوزارها ) . . في سورة " محمد " في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما .
ونكتفي هنا بالقول : بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق ، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلا كبيرا . ولم يكن له بد من ذلك . حيث كان استرقاق الأسرى نظاما عالميا لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد . وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقا ؛ بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحرارا . فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي ، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم ، بل وهي رابحة غانمة !
ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم . فكيف يصنع بهن ؟ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن . فهناك حاجة فطرية أخرى لا بد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه ! ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات . لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال وطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات - بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن ، وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب .
وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات ، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل . المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل ؛ أو يشرع للناس شيئا في أمور حياتهم جميعا :
هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه فليست المسألة هوى يتبع ، أو عرفا يطاع ، أو موروثات بيئة تتحكم . . إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه . . فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة ؛ وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه ، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك .
ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة ، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء ، والجمع بين الأختين - على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء . وقد كان يسمى عندهم " مقيتا نسبة إلى المقت " ! ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات ، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا ، إنما قال الله سبحانه : ( كتاب الله عليكم ) . .
هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام ، وحقيقة الأصل الفقهي . فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية :
إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه . بإعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير . فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف . فالجاهلية بكل ما فيها - والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح - باطلة بطلانا أصليا . باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها . والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها ، يأخذ الحياة جملة ، ويأخذ الأمر جملة ؛ فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها ، وكل عرفها ، وكل شرائعها ؛ لأنها باطلة بطلانا أصليا غير قابل للتصحيح المستأنف . . فإذا أقر عرفا كان سائدا في الجاهلية ، فهو لا يقره بأصله الجاهلي ؛ مستندا إلى هذا الأصل . إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه . أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية .
كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على " العرف " في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطانا من عنده هو - بأمر الله - فتصبح للعرف - في هذه المسائل - قوة الشريعة ، استمدادا من سلطان الشارع - وهو الله - لا استمدادا من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل . فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان . . كلا . . إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدرا في بعض المسائل . وإلا بقي على بطلانه الأصلي ، لأنه لم يستمد من أمر الله . وهو وحده مصدر السلطان . وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟ ) فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع . فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله ؟
هذا الأصل الكبير ، الذي تشير إليه هذه اللمسة : ( كتاب الله عليكم ) تقرره وتؤكده النصوص القرآنيةفي كل مناسبات التشريع ، فما من مرة ذكر القرآن تشريعا إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطانا . أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالبا بقوله : ما نزل الله بها من سلطان لتحريرها من السلطان ابتداء ، وبيان علة بطلانها ، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح .
وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي . من أن الأصل في الأشياء الحل ، ما لم يرد بتحريمها نص . فكون الأصل في الاشياء الحل ، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه . فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته . إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله . وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية ، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد ، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان .
فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات ، وربطها بأمر الله وعهده ، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج ، والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت ، وإقامة مؤسسات الأسرة ، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم :
( وأحل لكم - ما وراء ذلكم - أن تبتغوا بأموالكم . . محصنين غير مسافحين . . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن - فريضة - ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما ) . .
ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال ، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء ، بأموالهم - أي لأداء صداقهن - لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح ! ومن ثم قال :
وجعلها قيدا وشرطا للابتغاء بالأموال ، قبل أن يتم الجملة ، وقبل أن يمضي في الحديث . ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبته : ( محصنين ) بل أردفها بنفي الصورة الأخرى : ( غير مسافحين ) زيادة في التوكيد والإيضاح ، في معرض التشريع والتقنين . . ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها . . علاقة النكاح . . وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها . . علاقة المخادنة أو البغاء . . وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية ، ومعترفا بها كذلك من المجتمع !
جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - :
" ان النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم . يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر . يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان . تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا لهم القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه ، ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك "
فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه - سواء منه المخادنة والبغاء - والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه . . أما الثاني فما ندري كيف نسميه ! ! !
والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله . . فهو إحصان . . هو حفظ وصيانة . . هو حماية ووقاية . . هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة . ففي هذه القراءة( محصنين )بصيغة اسم الفاعل ، وفي قراءة أخرى : ( محصنين ) بصيغة اسم المفعول . وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة . وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال . إحصان لهذة المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة .
والآخر : سفاح . . مفاعلة من السفح ، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطى ء ! مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة ، فيريقان ماء الحياة ، الذي جعله الله لامتداد النوع ، ورقيه ، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها . فإذا هما يريقانه للذة العابرة ، والنزوة العارضة . يريقانه في السفح الواطى ء ! فلا يحصنهما من الدنس ، ولا يحصن الذرية من التلف ، ولا يحصن البيت من البوار !
وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة ؛ في كلمتين اثنتين . ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها ، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها ، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة . وذلك من بدائع التعبير في القرآن .
فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال . عاد ليقرر كيف يبتغى بالأموال :
( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) .
فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها . فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل - وهن ما وراء ذلكم من المحرمات - فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان - أي عن طريق النكاح [ الزواج ] لا عن أي طريق آخر - وعليه أن يؤدي لها صداقها حتما مفروضا ، لا نافلة ، ولا تطوعا منه ، ولا إحسانا ، فهو حق لها عليه مفروض . وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل - كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية - وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية . وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده ! كأنهما بهيمتان ! أو شيئان !
وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته ، يدع الباب مفتوحا لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة ، ووفق مشاعرهما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر :
( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) .
فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها - كله أو بعضه - بعد بيانه وتحديده . وبعد أن أصبح حقا لها خالصا تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية - ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر ، أو يزيدها فيه . فهذا شأنه الخاص . وهذا شأنهما معا يتراضيان عليه في حرية وسماحة .
ثم يجىء التعقيب . يربط هذه الأحكام بمصدرها ؛ ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف ، والحكمة البصيرة :
( إن الله كان عليما حكيما ) . .
فهو الذي شرع هذه الأحكام . وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة . . فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته - وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه - ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام ، الصادرة عن العلم وعن الحكمة ( إن الله كان عليما حكيما ) . . .
وقوله [ تعالى ]{[7007]} { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : وحرم عليكم الأجنبيات المحصنات وهي المزوجات { إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني : إلا ما{[7008]} ملكتموهن بالسبي ، فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن ، فإن الآية نزلت في ذلك .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان - هو الثوري - عن عثمان البَتِّي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا نساء{[7009]} من سبي أوطاس ، ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت هذه الآية : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ قال ]{[7010]} فاستحللنا فروجهن .
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع ، عن هُشَيم ، ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، ثلاثتهم عن عثمان البتي ، ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سواري عن عثمان البتي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة ، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم ، عن أبي سعيد الخدري ، فذكره ، وهكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد ، به{[7011]} .
وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل ، عن أبي عَلْقَمَةَ الهاشمي ، عن أبي سعيد قال الإمام أحمد :
حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي عَلْقَمَةَ ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس ، لهن أزواج من أهل الشرك ، فكان أناسًا{[7012]} من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا{[7013]} من غشيانهن قال : فنزلت هذه الآية في ذلك : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة - زاد مسلم : وشعبة - ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى ، ثلاثتهم عن قتادة ، بإسناده نحوه . وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة . كذا قال . وقد تابعه سعيد وشعبة ، والله أعلم{[7014]} .
وقد روى الطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في سبايا خيبر ، وذكر مثل حديث أبي سعيد ، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها ، أخذا بعموم هذه الآية . قال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه سُئل عن الأمة تباع ولها زوج ؟ قال : كان عبد الله يقول : بيعها طلاقها ، ويتلو هذه الآية{[7015]} { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
وكذا رواه سفيان{[7016]} عن منصور ، ومغيرة والأعمشن عن إبراهيم ، عن ابن مسعود قال : بيعها طلاقها . وهو منقطع .
وقال سفيان الثوري ، عن خالد ، عن أبي قِلابة ، عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها .
ورواه سعيد ، عن قتادة قال : إن أبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس قالوا : بيعها طلاقها .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، [ حدثنا ]{[7017]} ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طلاق الأمة ست{[7018]} بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب قوله : { وَالْمُحْصَناَتُ مِنَ النِّسَاءِ } قال : هُن{[7019]} ذوات الأزواج ، حرّم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك{[7020]} فبيعها طلاقها وقال معمر : وقال الحسن مثل ذلك .
وهكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قال : إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها .
وقال عوف ، عن الحسن : بيع الأمة طلاقها وبيعُه طلاقُها .
فهذا قول هؤلاء من السلف [ رحمهم الله ]{[7021]} وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا ، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقها{[7022]} ؛ لأن المشتري نائب عن البائع ، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها ، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما ؛ فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وَنَجَّزَتْ عتقها ، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ ، وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها - كما قال{[7023]} هؤلاء لما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما خيرها دل على بقاء النكاح ، وأن المراد من الآية المسبيات فقط ، والله أعلم .
وقد قيل : المراد بقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } يعني : العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين{[7024]} أو ثلاثًا أو أربعا . حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما . وقال عُمَر وعبيدة : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم .
وقوله : { كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } أي : هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم ، فالزموا كتابه ، ولا تخرجوا عن حدوده ، والزموا شرعه وما فرضه .
وقد قال عبيدة وعطاء والسّدّي في قوله : { كِتَابَ الله عَلَيْكُم } يعني الأربع . وقال إبراهيم : { كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } يعني : ما حرم عليكم .
وقوله : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } أي : ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال ، قاله عطاء وغيره . وقال عبيدة والسدي : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ما دون الأربع ، وهذا بعيد ، والصحيح قول عطاء كما تقدم . وقال قتادة { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يعني : ما ملكت أيمانكم .
وهذه الآية هي{[7025]} التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين ، وقول من قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية{[7026]} .
وقوله : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } أي : تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي ؛ ولهذا قال : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ }
وقوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } أي : كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، كقوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ{[7027]} إِلَى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] وكقوله { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } وكقوله [ النساء : 4 ] { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } [ البقرة : 229 ]
وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك . وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ ، ثم أبيح ثم نسخ ، مرتين . وقال آخرون أكثر من ذلك ، وقال آخرون : إنما أبيح مرة ، ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك .
وقد رُويَ عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القولُ بإباحتها للضرورة ، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمهم الله تعالى . وكان ابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وسعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّي يقرءون : " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة " . وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة ، ولكن الجمهور على خلاف ذلك ، والعمدة ما ثبت في الصحيحين ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[7028]} قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر{[7029]} ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب " الأحكام " .
وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سَبْرَة بن معبد الجهني ، عن أبيه : أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، فقال : " يأيها الناس ، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حَرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن{[7030]} شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا " وفي رواية لمسلم في حجة الوداع{[7031]} وله ألفاظ موضعها كتاب " الأحكام " .
وقوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى قال : فلا{[7032]} جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا{[7033]} على زيادة به وزيادة للجعل{[7034]} .
قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى - يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها - قبل انقضاء الأجل بينهما فقال : أتمتع منك أيضا بكذا وكذا ، فازداد{[7035]} قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة ، وهو قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } .
قال السدي : إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة ، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، فلا{[7036]} يرث واحد منهما صاحبه .
ومن قال بالقول الأول جعل معناه كقوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ]{[7037]} } [ النساء : 4 ] أي : إذا فرضت{[7038]} لها صداقًا فأبرأتك منه ، أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون{[7039]} المهر ، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة ، فقال : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الناس { فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرَيضَةِ } يعني : إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ ، واختار هذا القول ابن جرير ، وقال [ علي ]{[7040]} بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } والتراضي أن يُوَفيها صداقها ثم يخيرها ، ويعني{[7041]} في المقام أو الفراق .
وقوله : { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات [ العظيمة ]{[7042]} .
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُمْ مّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : حرّمت عليكم المحصنات من النساء ، إلا ما ملكت أيمانكم .
واختلف أهل التأويل في المحصنات التي عناهنّ الله في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هن ذوات الأزواج غير المسبيات منهنّ . وملكُ اليمين : السبايا اللواتي فرّق بينهنّ وبين أزواجهنّ السباء ، فحللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها الحربيّ لها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كل ذات زوج إتيانها زنا ، إلا ما سَبَيْتَ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكْتَ أيمَانُكُمْ } يقول : كل امرأة لها زوج فهي عليك حرام إلا أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب ، فهي لك حلال إذا استبرأتها .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن خالد ، عن أبي قلابة في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمانُكُمْ } قال : ما سبيتم من النساء ، إذا سَبَيْتَ المرأة ولها زوج في قومها ، فلا بأس أن تطأها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : كل امرأة محصنة لها زوج فهي محرمة إلا ما ملكت يمينك من السبي وهي محصنة لها زوج ، فلا تحرم عليك به . قال : كان أبي يقول ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي ، قال : حدثنا سعيد ، عن مكحول في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : السبايا .
واعتلّ قائلوا هذه المقالة بالأخبار التي رُويت أن هذه الاَية نزلت فيمن سُبي من أَوْطاس . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي علقمة الهاشمي ، عن أبي سعيد الخدريّ : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس ، فلقوا عدوا ، فأصابوا سبايا لهنّ أزواج من المشركين ، فكان المسلمون يتأثّمون من غشيانهنّ ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الاَية : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمانُكُمْ } أي هنّ حلال لكم إذا ما انقضت عِدَدُهن .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل : أن أبا علقمة الهاشمي حدّث ، أن أبا سعيد الخدريّ حدّث : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين سرية ، فأصابوا حيّا من أحياء العرب يوم أوطاس ، فهزموهم وأصابوا لهم سبايا ، فكان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثمون من غشيانهن من أجل أزواجهنّ ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ منهنّ ، فحلال لكم ذلك .
حدثني عليّ بن سعيد الكناني ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن أشعث بن سوار ، عن عثمان البتي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : لما سبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل أوطاس ، قلنا : يا رسول الله ، كيف نقع على نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهنّ ؟ قال : فنزلت هذه الاَية : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عثمان البتي ، عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري ، قال : أصبنا نساء من سبي أوطاس لهنّ أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهن أزواج ، فسألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { والمُحْصّناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } فاستحللنا فروجهنّ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أبي الخليل عن أبي سعيد ، قال : نزلت في يوم أوطاس ، أصاب المسلمون سبايا لهن أزواج في الشرك ، فقال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } يقول : إلا ما أفاء الله عليكم ، قال : فاستحللنا بها فروجهنّ .
وقال آخرون ممن قال : «المحصنات ذوات الأزواج في هذا الموضع » . بل هنّ كل ذات زوج من النساء حرام على غير أزواجهنّ ، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحلّ لمشتريها ، ويُبطل بيع سيدها إياها النكاحَ بينها وبين زوجها . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : كل ذات زوج عليك حرام إلا أن تشتريها ، أو ما ملكت يمينك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن مغيرة عن إبراهيم : أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج ، قال : كان عبد الله يقول : بيعها طلاقها ، ويتلو هذه الاَية : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : كل ذات زوج عليك حرام ، إلا ما اشتريت بمالك¹ وكان يقول : بيع الأمة : طلاقها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : هنّ ذوات الأزواج حرم الله نكاحهنّ إلا ما ملكت يمينك ، فبيعها طلاقها . قال معمر : وقال الحسن مثل ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أن أبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك قالوا : بيعها طلاقها .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أن أبيّ بن كعب وجابرا وابن عباس ، قالوا : بيعها طلاقها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله : بيع الأمة طلاقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ومغيرة والأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : بيع الأمة طلاقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمّل ، قال : حدثنا سعيد ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله . مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : طلاق الأمة ستّ : بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها .
حدثني أحمد بن المغيرة الحمصي . قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن عيسى بن أبي إسحاق ، عن أشعث ، عن الحسن ، عن أبيّ بن كعب : أنه قال : بيع الأمة طلاقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بيع الأمة طلاقها ، وبيعه طلاقها .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا خالد ، عن أبي قلابة ، قال : قال عبد الله : مشتريها أحقّ ببُضْعِها . يعني : الأمة تباع ولها زوج .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن ، قال : طلاق الأمة بيعها .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن أن أبيّا ، قال : بيعها طلاقها .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن ابن مسعود ، قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحقّ بُبْضعها .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنى سعيد ، عن قتادة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، قال : بيعها طلاقها . قال : فقيل لإبراهيم : فبيعه ؟ قال : ذلك ما لا نقول فيه شيئا .
وقال آخرون : بل معنى المحصنات في هذا الموضع : العفائف . قالوا : وتأويل الاَية : والعفائف من النساء حرام أيضا عليكم ، إلا ما ملكت أيمانكم منهنّ بنكاح وصداق وسنة وشهود من واحدة إلى أربع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن أبي جعفر ، عن أبي العالية ، قال : يقول : انكحوا ما طاب لكم من النساء : مثَنى ، وثلاثَ ، ورباع ، ثم حرم ما حرم من النسب والصهر ، ثم قال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : فرجع إلى أوّل السورة إلى أربع ، فقال : هنّ حرام أيضا ، ألا بصداق وسنّة وشهود .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين عن عبيدة ، قال : أحلّ الله لك أربعا في أوّل السورة ، وحرّم نكاح كلّ محصنة بعد الأربع ، إلا ما ملكت يمينك . قال معمر : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه : إلا ما ملكت يمينك ، قال : فزوجك مما ملكت يمينك ، يقول : حرّم الله الزنا ، لا يحلّ لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك .
حدثني عليّ بن مسروق الكندي ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن قول الله تعالى : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : أربع .
حدثني عليّ بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن أشعث بن سوار ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : الأربع ، فمابعدهنّ حرام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عنها ، فقال : حرّم الله ذوات القرابة ، ثم قال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } يقول : حرّم ما فوق الأربع منهنّ .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : الخامسة حرام كحرمة الأمهات والأخوات .
ذكر من قال : عَنَى بالمحصنات في هذا الموضع العفائفَ من المسلمين وأهل الكتاب :
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : ( والمُحْصَناتُ ) قال : العفيفة العاقلة من مسلمة ، أو من أهل الكتاب .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن بعض أصحابه ، عن مجاهد : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : العفائف .
وقال آخرون : المحصنات في هذا الموضع ذوات الأزواج ، غير أن الذي حرم الله منهن في هذه الاَية الزنا بهن ، وأباحهن بقوله : { إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } بالنكاح أو الملك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : { والمُحْصَناتُ } قال : نهى عن الزنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : نهى عن الزنا أن تنكح المرأة زوجين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : كل ذات زوج عليكم حرام ، إلا الأربع اللاتي ينكحن بالبينة والمهر .
حدثنا أحمد بن عثمان ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت النعمان بن راشد يحدث عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أنه سئل عن المُحصنات من النساء ، قال : هن ذوات الأزواج .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين . وقال علي : ذوات الأزواج من المشركين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : كل ذات زوج عليكم حرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن مكحول ، نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن الصلب بن بهرام ، عن إبراهيم ، نحوه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } . . . إلى : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يعني : ذوات الإزواج من النساء لا يحل نكاحهن ، يقول : لا يخلب ولا يعد فتنشُز على زوجها ، وكل امرأة لا تنكح إلا ببينة ومهر فهي من المحصنات التي حرم الله إلا ما ملكت أيمانكم ، يعني : التي أحل الله من النساء ، وهو ما أحل من حرائر النساء مثنى وثلاث ورباع .
وقال آخرون : بل هن نساء أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عيسى بن عبيد ، عن أيوب بن أبي العوجاء عن أبي مجلز في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : نساء أهل الكتاب .
وقال آخرون : بل هن الحرائر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنى حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا سليمان بن عرعرة ، في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } قال : الحرائر .
وقال آخرون : المحصنات : هن العفائف وذوات الأزواج ، وحرام كل من الصنفين إلا بنكاح أو ملك يمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى الليث ، قال : ثنى عقيل ، عن ابن شهاب ، وسئل عن قول الله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } . . . الاَية ، قال : نرى أنه حرم في هذه الاَية المحصنات من النساء ذوات الأزواج أن ينكحن مع أزواجهن والمحصنات : العفائف ولا يحللن إلا بنكاح ، أو ملك يمين . والإحصان إحصانان : إحصان تزويج ، وإحصان عفاف في الحرائر والمملوكات ، كل ذلك حرّم الله ، إلا بنكاح أو ملك يمين .
وقال آخرون : نزلت هذه الاَية في نساءكنّ يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهنّ أزواج ، فيتزوّجهن بعض المسلمين ، ثم يقدم أزواجهنّ مهاجرين ، فنهي المسلمون عن نكاحهن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثنى حبيب بن أبي ثابت عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان النساء يأتينا ثم يهاجر أزواجهنّ فمنعناهنّ¹ يعني قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .
وقد ذكر ابن عباس وجماعة غيره أنه كان ملتبسا عليهم تأويل ذلك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : قال رجل لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الاَية : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } فلم يقل فيها شيئا ؟ قال : فقال : كان لا يعلمها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن مجاهد ، قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الاَية لضربت إليه أكباد الإبل ، قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } . . . إلى قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } . . . إلى آخر الاَية .
قال أبو جعفر : فأما المحصنات فإنهنّ جمع محصنة ، وهي التي قد منع فرجها بزوج ، يقال منه : أحصن الرجل امرأته فهو يُحْصِنها إحصانا وحَصُنَتْ هي فهي تَحْصُنُ حَصَانَةً : إذا عفّت ، وهي حاصن من النساء : عفيفة ، كما قال العجاج :
وحاصِنٍ مِنْ حاصِنَاتٍ مُلْسِ ***عَنِ الأذَى وَعَنْ قِرَافِ الوَقْسِ
ويقال أيضا إذا هي عفت وحفظت فرجها من الفجور : قد أحصنت فرجها فيه محصنة ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها } بمعنى : حفظته من الريبة ومنعته من الفجور . وإنما قيل لحصون المدائن والقرى حصون لمنعها من أرادها وأهلها ، وحفظها ما وراءها ممن بغاها من أعدائها ، ولذلك قيل للدرع درع حصينة . فإذا كان أصل الإحصان ما ذكرنا من المنع والحفظ فبين أن معنى قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } : والممنوعات من النساء حرام عليكم { إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } . وإذ كان ذلك معناه ، وكان الإحصان قد يكون بالحرية ، كما قال جل ثناؤه : { والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ويكون بالإسلام ، كما قال تعالى ذكره : { فإذَا أُحْصِنّ فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ } ويكون بالعفة كما قال جل ثناؤه : { وَالّذِينَ يَرْمُون المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ويكون بالزوج¹ ولم يكن تبارك وتعالى خصّ محصنة دون محصنة في قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } فواجب أن يكون كل محصنة بأي معاني الإحصان كان إحصانها حراما علينا سفاحا أو نكاحا ، إلا ما ملكته أيماننا منهن بشراء ، كما أباحه لنا كتاب الله جل ثناؤه ، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل الله . فالذي أباحه تبارك وتعالى لنا نكاحا من الحرائر الأربع سوى اللواتي حرمن علينا بالنسب والصهر ، ومن الإماء ما سبينا من العدو سوى اللواتي وافق معناهن معنى ما حرم علينا من الحرائر بالنسب والصهر ، فإنهن والحرائر فيما يحل ويحرم بذلك المعنى متفقات المعاني ، وسوى اللواتي سبيناهن من أهل الكتابين ولهن أزواج ، فإن السباء يحلهن لمن سباهن بعد الاستبراء ، وبعد إخراج حق الله تبارك وتعالى الذي جعله لأهل الخمس منهن . فأما السّفاح فإن الله تبارك وتعالى حرمه من جميعهن ، فلم يحلّه من حرّة ولا أمة ولا مسلمة ولا كافرة مشركة . وأما الأمة التي لها زوج فإنها لا تحل لمالكها إلا بعد طلاق زوجها إياها ، أو وفاته وانقضاء عدتها منه ، فأما بيع سيدها إياها فغير موجب بينها وبين زوجها فراقا ولا تحليلاً لمشتريها ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنه خير بريرة إذ أعتقتها عائشة بين المقام مع زوجها الذي كان سادتها زوّجوها منه في حال رقها ، وبين فراقه » ولم يجعل صلى الله عليه وسلم عتق عائشة إياها طلاقا . ولو كان عتقها وزوال ملك عائشة إياها لها طلاقا لم يكن لتخيير النبيّ صلى الله عليه وسلم إياها بين المقام مع زوجها والفراق معنى ، ولوجب بالعتق الفراق ، وبزوال ملك عائشة عنها الطلاق¹ فلما خيرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الذي ذكرنا وبين المقام مع زوجها والفراق كان معلوما أنه لم يخير بين ذلك إلا والنكاح عقده ثابت ، كما كان قبل زوال ملك عائشة عنها ، فكان نظيرا للعتق الذي هو زوال ملك مالك المملوكة ذات الزوج عنها البيع الذي هو زوال ملك مالكها عنها ، إذ كان أحدهما زوالاً ببيع والاَخر بعتق في أن الفرقة لا يجب بها بينها وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما طلاق وإن اختلفا في معان أخر ، من أن لها في العتق الخيار في المقام مع زوجها والفراق ، لعلة مفارقة معنى البيع ، وليس ذلك لها في البيع .
فإن قال قائل : وكيف يكون معنيا بالاستثناء من قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } ما وراء الأربع من الخمس إلى ما فوقهنّ بالنكاح والمنكوحات به غير مملوكات ؟ قيل له : إن الله تعالى لم يخصّ بقوله : { إلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } المملوكات الرقاب دون المملوك عليها بعقد النكاح أمرها ، بل عمّ بقوله : { إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } كلا المعنيين ، أعني ملك الرقبة وملك الاستمتاع بالنكاح ، لأن جميع ذلك ملكته أيماننا ، أما هذه فملك استمتاع ، وأما هذه فملك استخدام واستمتاع وتصريف فيما أبيح لمالكها منها . ومن ادعى أن الله تبارك وتعالى عني بقوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } محصنة وغير محصنة ، سوى من ذكرنا أولاً بالاستثناء بقوله : { إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُم } بَعْضَ أملاك أيماننا دون بعض ، غير الذي دللنا على أنه غير معني به ، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير ، فلن يقول في ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله . فإن اعتل معتل منكم بحديث أبي سعيد الخدري أن هذه الاَية نزلت في سبايا أوطاس ، قيل له : إن سبايا أوطاس لم يوطأن بالملك والسباء دون الإسلام ، وذلك أنهن كن مشركات من عبدة الأوثان ، وقد قامت الحجة بأن نساء عبدة الأوثان لا يحللن بالملك دون الإسلام ، وأنهن إذا أسلمن فرق الإسلام بينهنّ وبين الأزواج ، سبايا كنّ أو مهاجرات ، غير أنهّ إذا كنّ سبايا حللن إذا هن أسلمن بالاستبراء . فلا حجة لمحتج في أن المحصنات اللاتي عناهن بقوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ } ذوات الأزواج من السبايا دون غيرهن بخبر أبي سعيد الخدري أن ذلك نزل في سبايا أوطاس¹ لأنه وإن كان فيهن نزل ، فلم ينزل في إباحة وطئهن بالسباء خاصة دون غيره من المعاني التي ذكرنا ، مع أن الاَية تنزل في معنى فتعمّ ما نزلت به فيه وغيره ، فيلزم حكمها جميع ما عمته لما قد بينا من القول في العموم والخصوص في كتابنا «كتاب البيان عن أصول الأحكام » .
القول في تأويل قوله تعالى : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } .
يعني تعالى ذكره : كتابا من الله عليكم . فأخرج الكتاب مُصَدّرا من غير لفظه . وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى : { حُرّمَتْ عَلَيْكُم أُمّهاتُكُمْ } . . . إلى قوله : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } بمعنى : كتب الله تحريم ما حرم من ذلك وتحليل ما حلل من ذلك عليكم كتابا .
وبما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } قال : ما حرم عليكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عنها فقال : { كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } قال : هو الذي كتب عليكم الأربع أن لا تزيدوا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، قال : قلت لعبيدة : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } وأشار ابن عون بأصابعه الأربع .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، عن قوله : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } قال : أربع .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } : الأربع .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } قال : هذا أمر الله عليكم ، قال : يريد ما حرم عليهم من هؤلاء وما أحلّ لهم . وقرأ : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ } . . . إلى آخر الاَية . قال : كتاب الله عليكم الذي كتبه ، وأمره الذي أمركم به . { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } : أَمْرَ الله .
وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله : { كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } منصوب على وجه الإغراء ، بمعنى : عليكم كتابَ الله ، الزموا كتابَ الله . والذي قال من ذلك غير مستفيض في كلام العرب ، وذلك أنه لا ( تكاد ) تنصب بالحرف الذي تغري به ، لا تكاد تقول : أخاك عليك وأباك دونك ، وإن كان جائزا . والذي هو أولى بكتاب الله أن يكون محمولاً على المعروف من لسان من نزل بلسانه هذا مع ما ذكرنا من تأويل أهل التأويل ذلك بمعنى ما قلنا ، وخلاف ما وجهه إليه من زعم أنه نصب على وجه الإغراء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وأُحِلّ لَكُم ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } : ما دون الأربع أن تبتغوا بأموالكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلمانيّ : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يعني : ما دون الأربع .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من سَمّى لكم تحريمه من أقاربكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عنها ، فقال : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } قال : ما وراءَ ذات القرابة ، { أن تَبْتَغُوا بأمْوالِكُمْ } . . . الاَية .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } : عدد ما أحل لكم من المحصنات من النساء الحرائر ومن الإماء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } قال : ما ملكت أيمانكم .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، ما نحن مبينوه¹ وهو أن الله جلّ ثناؤه بين لعباده المحرّمات بالنسب والصهر ، ثم المحرّمات من المحصنات من النساء ، ثم أخبرهم جلّ ثناؤه أنه قد أحلّ لهم ما عدا هؤلاء المحرّمات المبينات في هاتين الاَيتين أن نبتغيه بأموالنا نكاحا وملك يمين لا سفاحا .
فإن قال قائل : عرفنا المحللات اللواتي هنّ وراء المحرّمات بالأنساب والأصهار ، فما المحللات من المحصنات والمحرّمات منهنّ ؟ قيل : هو ما دون الخمس من واحدة إلى أربع على ما ذكرنا عن عبيدة والسديّ من الحرائر ، فأما ما عدا ذوات الأزواج فغير عدد محصور بملك اليمين .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن قوله : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُمْ } عامّ في كل محلّل لنا من النساء أن نبتغيها بأموالنا ، فليس توجيه معنى ذلك إلى بعض منهنّ بأولى من بعض ، إلا أن تقوم بأن ذلك كذلك حجة يجب التسليم لها ، ولا حجة بأن ذلك كذلك .
واختلف القراء في قراءة قوله : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } فقرأ ذلك بعضهم : «وأَحَلّ لَكُمْ » بفتح الألف من أحلّ ، بمعنى : كتب الله عليكم وأحلّ لكم ما وراء ذلكم . وقرأه آخرون : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُم } اعتبارا بقوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمّهاتُكُمْ . . . وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُمْ } .
قال أبو جعفر : والذي نقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة الإسلام غير مختلفتي المعنى ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الحقّ .
وأما معنى قوله : { ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } فإنه يعني : ما عدا هؤلاء اللواتي حرمتهن عليكم أن تبتغوا بأموالكم ، يقول : أن تطلبوا وتلتمسوا بأموالكم ، إما شراء بها وإما نكاحا بصداق معلوم ، كما قال جلّ ثناؤه : { ويكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } يعني : بما عداه وبما سواه . وأما موضع «أن » من قوله : { أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ } فرفعٌ ترجمةً عن «ما » التي في قوله : { وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } في قراءة من قرأ : { وأُحِلّ } بضم الألف . ونصبٌ على ذلك في قراءة من قرأ ذلك : «وأَحَلّ » بفتح الألف . وقد يحتمل النصب في ذلك في القراءتين على معنى : وأحلّ لكم ما وراء ذلكم لأن تبتغوا ، فلما حذفت اللام الخافضة اتصلت بالفعل قبلها فنصبت . وقد يحتمل أن تكون في موضع خفض بهذا المعنى إذ كانت اللام في هذا الموضع معلوما أن بالكلام إليها الحاجة .
القول في تأويل قوله تعالى : { مُحْصِنِينَ غيْرَ مُسافِحِينَ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { مُحْصِنِينَ } أعفاء بابتغائكم ما وراء ما حرّم عليكم من النساء بأموالكم { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } يقول : غير مزانين . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله { مُحْصِنِينَ } قال : متناكحين . { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } قال : زانين بكل زانية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : { مُحْصِنِينَ } متناكحين . { غير مُسَافِحِينَ } السفاح : الزنا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ } يقول : محصنين غير زناة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنّ فَآتُوهُنّ أجُورَهُنّ فَرِيضَةً } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } فقال بعضهم : معناه : فما نكحتم منهنّ فجامعتموهنّ ، يعني من النساء¹ { فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً } يعني : صدقاتهن فريضة معلومة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً } يقول : إذا تزوّج الرجل منكم ثم نكحها مرة واحدة فقد وجب صداقها كله . والاستمتاع هو النكاح ، وهو قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } قال : هو النكاح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } : النكاح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } قال : النكاح أراد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُوَرَهُنّ فَرِيضَة } . . . الاَية ، قال : هذا النكاح ، وما في القرآن الإنكاح إذا أخذتها واستمتعت بها ، فأعطها أجرها الصداق ، فإن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ فرض الله عليها العدة وفرض لها الميراث . قال : والاستمتاع هو النكاح ههنا إذا دخل بها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما تمتعتم به منهنّ بأجر تمتع اللذة ، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بولىّ وشهود ومهر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَريضَةِ » . فهذه المتعة الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى ، ويشهد شاهدين ، وينكح باذن وليها ، وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه برة ، وعليها أن تستبرىء ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، ليس يرث واحد منهما صاحبه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } قال : يعني نكاح المتعة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، قال : حدثنا نصير بن أبي الأشعث ، قال : ثنى حبيب ابن أبي ثابت ، عن أبيه ، قال : أعطاني ابن عباس مصحفا ، فقال : هذا على قراءة أبيّ . قال أبو كريب ، قال يحيى : فرأيت المصحف عند نصير فيه : «فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمّى » .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن أبي نضرة ، قال : سألت ابن عباس عن متعة النساء ، قال : أما تقرأ سورة النساء ؟ قال : قلت بلى . قال : فما تقرأ فيها : «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى » ؟ قلت : لا ، لو قرأتها هكذا ما سألتك ! قال : فإنها كذا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنى عبد الأعلى ، قال : ثنى داود ، عن أبي نضرة ، قال : سألت ابن عباس عن المتعة ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي سلمة ، عن أبي نضرة ، قال : قرأت هذه الاَية على ابن عباس : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } قال ابن عباس : «إلى أجل مسمى » ، قال قلت : ما أقرؤها كذلك ! قال : والله لأنزلها الله كذلك ثلاث مرات .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمير : أن ابن عباس قرأ : «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمّى » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة وثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : في قراءة أبيّ بن كعب : «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمى » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قاال : سألته عن هذه الاَية : { والمُحْصَنَاتُ مِن النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } إلى هذا الموضع : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ } أمنسوخة هي ؟ قال : لا . قال الحكم : قال عليّ رضي الله عنه : لولا أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شقّى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عيسى بن عمر القارىء الأسديّ ، عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقرأ : «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ » .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله : فما نكحتموه منهنّ فجامعتموه فآتوهنّ أجورهنّ¹ لقيام الحجة بتحريم الله متعة النساء على غير وجه النكاح الصحيح أو الملك الصحيح على لسان رسوله اصلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، قال : ثنى الربيع بن سبرة الجهنيّ ، عن أبيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ النّساءِ » والاستمتاع عندنا يومئذٍ التزويج .
وقد دللنا على أن المتعة على غير النكاح الصحيح حرام في غير هذا الموضع من كتبنا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وأما رُوي عن أبيّ بن كعب وابن عباس من قراءتهما : «فَمَا اسْتَمْتَعُتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمّى » فقراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين ، وغير جائز لأحد أن يلحق في كتاب الله تعالى شيئا لم يأت به الخبر القاطع العذر عمن لا يجوّز خلافه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : لا حرج عليكم أيها الإزواج إن أدركتكم عسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورهنّ فريضة فيما تراضيتم به ، من حطّ وبراءة ، بعد الفرض الذي سلف منكم لهن ما كنتم فرضتم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أن رجالاً كانوا يفرضون المهر ، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة ، فقال الله : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم أنتم والنساء واللواتي استمتعتم بهنّ إلى أجل مسمى ، إذا انقضى الأجل الذي أجلتموه بينكم وبينهم في الفراق ، أن يزدنكم في الأجل وتزيدوا من الأجر والفريضة قبل أن يستبرئن أرحامهنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى ، يعني : الأجرة التي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما ، فقال : أتمتع منك أيضا بكذا وكذا ، فازداد قبل أن يستبرىء رحمها ، ثم تنقضي المدة ، وهو قوله : { فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم بعد أن تؤتوهن أجورهم على استمتاعكم بهنّ من مقام وفراق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا جَناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } والتراضي أن يوفيها صداقها ، ثم يخيرها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا جناح عليكم فيما وضعت عنكم نساؤكم من صدقاتهنّ من بعد الفريضة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } قال : إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا حرج عليكم أيها الناس فيما تَراضيتم به أنتم ونساؤكم من عد إعطائهنّ أجورهنّ على النكاح الذي جرى بينكم وبينهنّ من حطّ ما وجب لهنّ عليكم ، أو إبراء أو تأخير ووضع . وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئَا } . فأما الذي قاله السدي فقول لا معنى له الفساد القول بإحلال جماع امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين .
وأما قوله : { إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حكِيما } فإنه يعني : إن الله كان ذا علم بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم وغيرها من أموركم وأمور سائر خلقه بما يدبر لكم ولهم من التدبير ، وفيما يأمركم وينهاكم¹ لا يدخل حكمته خلل ولا زلل .
{ والمحصنات من النساء } ذوات الأزواج ، أحصنهن التزويج أو الأزواج . وقرأ الكسائي بكسر الصاد في جميع القرآن لأنهن أحصن فروجهن . { إلا ما ملكت أيمانكم } يريد ما ملكت أيمانكم من اللاتي سبين ولهن أزواج كفار فهن حلال للسابين ، والنكاح مرتفع بالسبي لقول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه : أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج كفار ، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية فاستحللناهن . وإياه عنى الفرزدق بقوله :
وذات حليل أنكحتها رماحنا *** حلال لمن يبني بها لم تطلق
وقال أبو حنيفة لو سبي الزوجان لم يرتفع النكاح ولم تحل للسابي . وإطلاق الآية والحديث حجة عليه . { كتاب الله عليكم } مصدر مؤكد ، أي كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا وقرئ كتب الله بالجمع والرفع أي هذه فرائض الله عليكم " وكتب الله " بلفظ الفعل . { وأحل لكم } عطف على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفا على { حرمت } . { ما وراء ذلكم } ما سوى المحرمات الثمان المذكورة . وخص عنه بالسنة ما في معنى المذكورات كسائر محرمات الرضاع ، والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها . { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } مفعول له والمعنى أحل لكم ما وراء ذلكم إرادة أن تبتغوا النساء بأموالكم بالصرف في مهورهن ، أو أثمانهن في حال كونكم محصنين غير مسافحين ، ويجوز أن لا يقدر مفعول تبتغوا وكأنه قيل إرادة أن تصرفوا أموالكم محصنين غير مسافحين أو بدل مما وراء ذلكم بدل الاشتمال . واحتج به الحنفية على أن المهر لا بد وأن يكون مالا . ولا حجة فيه . والإحصان العفة فإنها تحصين للنفس عن اللوم والعقاب ، والسفاح الزنا من السفح وهو صب المني فإنه الغرض منه . { فما استمتعتم به منهن } فمن تمتعتم به من المنكوحات ، أو فما استمتعتم به منهن من جماع أو عقد عليهن . { فآتوهن أجورهن } مهورهن فإن المهر في مقابلة الاستمتاع . { فريضة } حال من الأجور بمعنى مفروضة ، أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا أو مصدر مؤكد . { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي ، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق . وقيل : نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أباحها ثم أصبح يقول : " يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة " . وهي النكاح المؤقت بوقت معلوم سمي بها إذ الغرض منه مجرد الاستمتاع بالمرأة ، أو تمتيعها بما تعطي . وجوزها ابن عباس رضي الله عنهما ثم رجع عنه . { إن الله كان عليما } بالمصالح . { حكيما } فيما شرع من الأحكام .
قوله عز وجل : { والمحصنات } عطف على المحرمات قبل ، والتحصن : التمنع ، يقال حصن المكان : إذا امتنع ، ومنه الحصن ، وحصنت المرأة : امتنعت بوجه من وجوه الامتناع ، وأحصنت نفسها ، وأحصنها غيرها ، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء ، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل ، فتستعمله في الزواج ، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا ، والحرة بخلاف ذلك ، ألا ترى إلى قولة هند بنت عتبة للنبي عليه السلام ، حين بايعته ، وهل تزني الحرة ؟ قالحرية منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك »{[3924]} ومنه قول الهذلي :
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أمَّ مَالِكٍ . . . ولكنْ أَحَاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ{[3925]}
قالَتْ هَلُمَّ إلى الحَديثِ فَقُلْتُ لا . . . يَأبى عَلَيْكِ اللَّهُ والإسْلامُ{[3926]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيا{[3927]}
رَمَتْني وَسِتْرُ اللّهِ بيني وبينَها . . . فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام ، ويستعملون الإحصان في العفة ، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها ، فهي منعة وحفظ{[3928]} .
وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني ، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض ، بحسب موضع وموضع ، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله .
فقوله في هذه الآية { والمحصنات } ، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري : هن ذوات الأزواج ، أي هن محرمات ، إلا ما ملكت اليمين بالسبي ، من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه ، وإن كان لها زوج{[3929]} .
وروى أبو سعيد الخدري : أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس{[3930]} فلقوا عدواً وأصابوا سبياً لهن أزواج من المشركين ، فتأثم{[3931]} المسلمون من غشيانهن ، فنزلت الآية مرخصة{[3932]} ، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضاً : معنى { المحصنات } ذوات الأزواج ، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج ، فإن بيعها طلاقها ، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها ، وأن تعتق طلاقها ، وأن تورث طلاقها ، وتطليق الزوج طلاقها ، وقال ابن مسعود : إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها ، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقاً ، ولا طلاق لها إلا الطلاق ، وقال قوم : { المحصنات } في هذه الآية العفائف ، أي كل النساء حرام ، وألبسهن اسم الإحصان ، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك ، { إلا ما ملكت إيمانكم } قالوا : معناه بنكاح أو شراء ، كل ذلك تحت ملك اليمين{[3933]} ، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء ، ورواه عبيده عن عمر رضي الله عنه ، وقال ابن عباس : { المحصنات } العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب .
قال القاضي أبو محمد : وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا ، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى : { والمحصنات } : هن الحرائر ، ويكون { إلا ما ملكت أيمانكم } معناه بنكاح ، هذا على اتصال الاستثناء ، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعاً ، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان نساء يأتيننا مهاجرات ، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى : { والمحصنات } الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال ، وأسند الطبري أن رجلاً قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية { والمحصنات من النساء } فلم يقل فيها شيئاً ؟ فقال سعيد : كان ابن عباس لا يعلمها وأسند أيضاً عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل قوله : { والمحصنات }إلى قوله : { حكيماً } .
قال القاضي أبو محمد : ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول{[3934]} ؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية { والمحصنات من النساء } فقال : يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات ، ولم يحل شيئاً من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك ، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين ، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ ، فإنه قال : هن ذوات الأزواج ، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا ، ففسر الإحصان بالزواج ، ثم عاد عليه بالعفة{[3935]} .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة ، «والمحصّنات » بفتح الصاد في كل القرآن ، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده ، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصِنات » كذلك ، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد ، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية . وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنَّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها ، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصُنات » بضم الصاد ، وهذا على إتباع الضمة الضمة{[3936]} .
وقرأ جمهور الناس «كتاب الله » وذلك نصب على المصدر المؤكد ، وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع اليماني «كَتَبَ اللهُ عليكم » على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى ، وقال عبيدة السلماني وغيره : قوله { كتاب الله عليكم } إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله : { مثنى وثلاث ورباع }{[3937]} وفي هذا بعد ، والأظهر لأن قوله { كتاب الله عليكم } إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله ، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فقال السدي : المعنى وأحل لكم ما دون الخمس ، أن تبتغوا بأموالكم ، على وجه النكاح ، وقال نحوه عبيدة السلماني ، وقال عطاء وغيره : المعنى «وأحل لكم ما وراء » من حرم من سائر القرابة ، فهن حلال لكم تزويجهن ، وقال قتادة : المعنى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } من الإماء .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال : وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأَحل لكم » بفتح الألف والحاء ، وهذا مناسبة لقوله { كتاب الله } إذ المعنى كتب الله ذلك كتاباً ، وقرأ حمزة والكسائي «وأحِل » بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله : { حرمت عليكم } والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات ، فهن وراء أولئك بهذا الوجه{[3938]} ، و { أن تبتغوا بأموالكم } ، لفظ يجمع التزويج والشراء و { أن } في موضع نصب ، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع ، ويحتمل النصب بإسقاط الباء{[3939]} ، و { محصنين } ، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك { غير مسافحين } ، أي غير زناة ، والسفاح : الزنا ، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه{[3940]} ، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف{[3941]} في عرس : هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر . واختلف المفسرون في معنى قوله : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر ، وهو المهر كله ، ولفظة { فما } تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر . وروي عن ابن عباس أيضاً ومجاهد والسدي وغيرهم : أن الآية في نكاح المتعة ، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير ، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنَّ أجورهن » وقال ابن عباس لأبي نضرة : هكذا أنزلها الله عز وجل ، وروى الحكم بن عتيبة ، أن علياً رضي الله عنه قال : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها ، وقيل قول الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }{[3942]} [ الطلاق : 1 ] وقالت عائشة : نسخها قوله : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم }{[3943]} ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق ، والعدة ، والميراث ، وكانت{[3944]} : أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى ، وعلى أن لا ميراث بينهما ، ويعطيها ما اتفقا عليه ، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وتستبرىء رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك ، فإن لم تحمل حلت لغيره .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب النحاس : في هذا خطأ فاحش في اللفظ ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة{[3945]} ، وحكى المهدوي عن ابن المسيب : أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود ، وفيما حكاه ضعف ، و { فريضة } نصب على المصدر في موضع الحال{[3946]} .
واختلف المفسرون في معنى قوله : { ولا جناح عليكم } الآية ، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن : إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة ، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض ، وقال القائلون بأنه الآية المتقدمة هي أمر المتعة : إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ ، وباقي الآية بين .
{ والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم كتاب الله عَلَيْكُمْ } .
عطف على { وأن تجمعوا } [ النساء : 23 ] والتقدير : وحُرّمت عليكم المحصنات من النساء إلخ . . . فهذا الصنف من المحرّمات لعارض نظيرَ الجمع بين الأختين .
والمحصنات بفتح الصاد من أحصنها الرجل إذا حفظها واستقّل بها عن غيره ، ويقال : امرأة محصنة بكسر الصاد أحصنت نفسها عن غير زوجها ، ولم يقرأ قوله : { والمحصنات } في هذه الآية إلاَّ بالفتح .
ويقال أحصَنَ الرجُلُ فهو محصِن بكسر الصاد لا غير ، ولا يقال محصَن : ولذلك لم يقرأ أحد : محصَنين غير مسافحين بفتح الصاد ، وقريء قوله : { ومحصنات } بالفتح والكسر وقوله : { فإذا أحصن } [ النساء : 25 ] بضم الهمزة وكسر الصاد ، وبفتح الهمزة وفتح الصاد . والمراد هنا المعنى الأول ، أي وحرّمت عليكم ذوات الأزواج ما دُمن في عصمة أزواجهنّ ، فالمقصود تحريم اشتراك رجلين فأكثر في عصمة امرأة ، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمّى الضِّمَاد ، ولنوع آخر ورد ذكره في حديث عائشة : أن يشترك الرجال في المرأة وهم دون العشرة ، فإذا حملت ووضعت حملها أرسلت إليهم فلا يستطيع أحد منهم أن يمتنع ، فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان ، تسمّي من أحبّت باسمه فيلحق به . ونوع آخر يسمّى نكاح الاستبضاع ؛ وهو أن يقول الزوج لامرأته إذا طَهرت من حيضها : أرسلي إلى فلان ، فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسّها حتّى يتبيّن حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها . قالت عائشة : وإنما يفعل هذا رغبة في نجابة الولد ، وأحسب أنّ هذا كان يقع بتراض بين الرجلين ، والمقصد لا ينحصر في نجابة الولد ، فقد يكون لبذل مال أو صحبة . فدَلّت الآية على تحريم كلّ عقد على نكاح ذات الزوج ، أي تحريم أن يكون للمرأة أكثر من زوج واحد . وأفادت الآية تعميم حرمتهنّ ولو كان أزواجهنّ مشركين ، ولذلك لزم الاستثناء بقوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } أي إلاّ اللائي سبَيتُموهنّ في الحرب ، لأنّ اليمين في كلام العرب كناية عن اليد حين تمسك السيف .
وقد جعل الله السبي هادما للنكاح تقريراً لمعتاد الأمم في الحروب ، وتخويفاً أن لا يناصبوا الإسلام لأنّهم لو رفع عنهم السبي لتكالبوا على قتال المسلمين ، إذ لا شيء يحذره العربي من الحرب أشدّ من سبي نسوته ، ثم من أسره ، كما قال النابغة :
حِذاراً على أن لا تُنال مقادتي *** ولاَ نسوتي حتّى يمُتْن حَرائراً
واتّفق المسلمون على أنّ سبي المرأة دون زوجها يهدم النكاح ، ويُحلّها لمن وقعت في قسمته عند قسمة المغانم . واختلفوا في التي تسبَى مع زوجها : فالجمهور على أنّ سبيها يهدم نكاحها ، وهذا إغضاء من الحكمة التي شرع لأجلها إبقاء حكم الاسترقاق بالأسر .
وأومأت إليها الصلة بقوله : { ملكت أيمانكم } وإلاّ لقال : إلاّ ما تركت أزواجهنّ .
ومن العلماء من قال : إنّ دخول الأمة ذاتِ الزوج في ملك جديد غير ملك الذي زوَّجها من ذلك الزوج يسوّغ لمالكها الجديد إبطال عقد الزوجية بينها وبين زوجها ، كالتي تباع أو توهب أو تورث ، فانتقال الملك عندهم طلاق . وهذا قول ابن مسعود ، وأبَي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وسعيد ، والحسن البصري ، وهو شذوذ ؛ فإنّ مالكها الثاني إنّما اشتراها عالماً بأنّها ذات زوج ، وكأنَّ الحامل لهم على ذلك تصحيح معنى الاستثناء ، وإبقاء صيغة المضيّ على ظاهرها في قوله : { ملكت } أي ما كن مملوكات لهم من قبل . والجواب عن ذلك أن المراد بقوله : { ملكت } ما تجدّد ملكها بعد أن كانت حرّة ذات زوج . فالفعل مستعمل في معنى التجدّد .
وقد نقل عن ابن عباس أنّه تحيّر في تفسير هذه الآية ، وقال : « لو أعلم أحداً يعلم تفسيرها لضربت إليه أكباد الإبل » . ولعلّه يعني من يعلم تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان بعض المسلمين في الزمن الأول يتوهّم أنّ أمة الرجل إذا زوَّجها من زوج لا يحرم على السيّد قِربانها ، مع كونها ذات زوج . وقد رأيت منقولاً عن مالك : أنّ رجلا من ثقيف كان فعل ذلك في زمان عُمر ، وأنّ عمر سأله عن أمته التي زوجّها وهل يطَؤها ، فأنكر ، فقال له : لو اعترفتَ لجعلتُكَ نَكَالاً .
وقوله : { كتاب الله عليكم } تذييل ، وهو تحريض على وجوب الوقوف عند كتاب الله ، ف { عليكم } نائب مناب ( الزَمُوا ) ، وهو مُصيَّر بمعنى اسم الفعل ، وذلك كثير في الظروف والمجرورات المنزَّلة منزلة أسماء الأفعال بالقرينة ، كقولهم : إليك ، ودُونك ، وعَليك . و { كتاب الله } مفعوله مُقدّم عليه عند الكوفيين ، أو يجعل منصوباً ب ( عليكم ) محذوفاً دلّ عليه المذكور بعده ، على أنّه تأكيد له ، تخريجاً على تأويل سيبويه في قول الراجز :
يأيُّها المائِحُ دلوي دُونك *** إنّي رأيت الناس يحمدونك
ويجوز أن يكون { كتاب } مصدراً نائباً مناب فعلِه ، أي كَتَب الله ذلك كتاباً ، و { عليكم } متعلّقاً به .
{ وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين }
عطف على قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] وما بعدَه ، وبذلك تلتئم الجمل الثلاث في الخبرية المراد بها الإنشاء ، وفي الفعلية والماضوية .
وقرأ الجمهور : { وأحل لكم } بالبناء للفاعل ، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة من قوله : { كتاب الله عليكم } .
وأسند التحليل إلى الله تعالى إظهاراً للمنّة ، ولِذلك خالف طريقة إسناد التحريم إلى المجهول في قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } لأنّ التحريم مشقّة فليس المقام فيه مقام منّة .
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر : { وأحل } بضم الهمزة وكسر الحاء على البناء للنائب على طريقة { حرمت عليكم أمهاتكم } .
والوراء هنا بمعنى غير ودُون ، كقول النابغة :
وليسَ وراءَ اللَّه للمرءِ مذهب
وهو مجاز ؛ لأنّ الوراء هو الجهة التي هي جهة ظهر ما يضاف إليه . والكلام تمثيل لحال المخاطبين بحال السائر يَترك ما وراءه ويتجاوزه .
والمعنى : أحلّ لكم ما عَدا أولئكم المحرّمات ، وهذا أنزِل قبل تحريم ما حرّمته السُّنة نحو ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ) ، ونحو ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
وقوله : { أن تبتغوا بأموالكم } يجوز أن يكون بدل اشتمال من ( ما ) باعتبار كون الموصول مفعولا ل ( أحَلَّ ) ، والتقدير : أن تبتغوهنّ بأموالكم فإنّ النساء المبَاحات لا تحلّ إلاّ بعد العقد وإعطاء المهور ، فالعقد هو مدلول ( تبتغوا ) ، وبذل المهر هو مدلول ( بأموالكم ) ، ورابط الجملة محذوف : تقديره أن تبتغوه ، والاشتمال هنا كالاشتمال في قول النابغة :
مخافة عمرو أن تكون جياده *** يقدن إلينا بين حاف وناعل
ويجوز أن يجعل { أن تبتغوا } معمولا للام التعليل محذوفةٍ ، أي أحَلَّهُن لتبتغوهنّ بأموالكم ، والمقصود هو عين ما قرّر في الوجه الأول .
و { محصنِين } حال من فاعل ( تبتغوا ) أي محصنين أنفسكم من الزنى ، والمراد متزوّجين على الوجه المعروف . { غير مسافحين } حال ثانية ، والمسافح الزاني ، لأنّ الزنى يسمّى السفاح ، مشتقّا من السفح ، وهو أن يهراق الماء دون حَبْس ، يقال : سَفَح الماءُ . وذلك أنّ الرجل والمرأة يبذل كلّ منهما للآخر ما رامه منه دون قيد ولا رضَى وليّ ، فكأنّهم اشتقّوه من معنى البذل بلا تقيّد بأمرٍ معروف ؛ لأنّ المِعطاء يطلق عليه السَّفَّاح . وكان الرجل إذا أراد من المرأة الفاحشة يقول لها : سافحيني ، فرجع معنى السفاح إلى التباذل وإطلاق العنان ، وقيل : لأنّه بلا عقد ، فكأنّه سَفَح سفحاً ، أي صبّا لا يحجبه شيء ، وغير هذا في اشتقاقه لا يَصحّ ، لأنّه لا يختصّ بالزنى .
{ فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما } .
تفريع على { أن تبتغوا بأموالكم } وهو تفريع لفظي لبيان حقّ المرأة في المهر وأنّه في مقابلة الاستمتاع تأكيداً لما سبقه من قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] سواء عند الجمهور الذين يجعلون الصداق ركنا للنكاح ، أو عند أبي حنيفة الذي يجعله مجرّد حقّ للزوجة أن تطالب به ؛ ولذلك فالظاهر أن تجعل ( ما ) اسم شرط صادقاً على الاستمتاع ، لبيان أنّه لا يجوز إخلاء النكاح عن المهر ، لأنّه الفارق بينه وبين السفاح ، ولذلك قرن الخبر بالفاء في قوله : { فأتوهن أجزرهن فريضة } لأنّه اعتبر جواباً للشرط .
والاستمتاع : الانتفاع ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وسمَّى الله النكاح استمتاعاً لأنّه منفعة دنيوية ، وجميع منافع الدنيا متاع ، قال تعالى : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } [ الرعد : 26 ] .
والضمير المجرور بالباء عائد على ( مَا ) . و ( مِنْ ) تبعيضية ، أي : فإن استمتعتم بشيء منهن فآتوهنّ ؛ فلا يجوز استمتاع بهنّ دون مهر .
أو يكون ( مَا ) صادقة على النساء ، والمجرور بالباء عائداً إلى الاستمتاع المأخوذ من استمتعتم و ( من ) بيانية ، أي فأي امرأة استمتعتم بها فآتوها .
ويجوز أن تجعل ( مَا ) موصولة ، ويكون دخول الفاء في خبرها لمعاملتها معاملة الشرط ، وجيء حينئذ ب ( ما ) ولم يعبر ب ( مَن ) لأنّ المراد جنس النساء لا القصد إلى امرأة واحدة ، على أنّ ( ما ) تجيء للعاقل كثيراً ولا عكس : و { فريضةً } حال من { أجورهن } أي مفروضة ، أي مقدرة بينكم .
والمقصد من ذلك قطع الخصومات في أعظم معاملة يقصد منها الوثاق وحسن السمعة .
وأمّا نكاح التفويض : وهو أن ينعقد النكاح مع السكوت عن المهر ، وهو جائز عند جميع الفقهاء ؛ فجوازه مبني على أنّهم لا يفوّضون إلاّ وهم يعلمون معتاد أمثالهم ، ويكون ( فريضة ) بمعنى تقديراً ، ولذلك قال : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } ، أي فيما زدتم لهنّ أو أسقطن لكم عن طيب نفس . فهذا معنى الآية بيّنا لا غبار عليه .
وذهب جمع : منهم ابن عباس ، وأُبيّ بن كعب ، وابن جبير : أنّها نزلت في نكاح المتعة لما وقع فيها من قوله : { فما استمتعتم به منهن } . ونكاح المتعة : هو الذي تعاقد الزوجان على أن تكون العصمة بينهما مؤجّلة بزمان أو بحالة ، فإذا انقضى ذلك الأجل ارتفعت العصمة ، وهو نكاح قد أبيح في الإسلام لا محالة ، ووقع النهي عنه يوم خيبر ، أو يوم حنين على الأصحّ . والذين قالوا : حُرّم يوم خيبر قالوا : ثم أبيح في غزوة الفتح ، ثم نهي عنه في اليوم الثالث من يوم الفتح . وقيل : نهي عنه في حجّة الوداع ، قال أبو داود : وهو أصحّ . والذي استخلصناه أنّ الروايات فيها مضطربة اضطراباً كبيراً .
وقد اختلف العلماء في الأخير من شأنه : فذهب الجمهور إلى أنّ الأمر استقرّ على تحريمه ، فمنهم من قال : نسخته آية المواريث لأنّ فيها { ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولهن الربع مما تركتم } [ النساء : 12 ] فجعل للأزواج حَظّا من الميراث ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها . وقيل : نسخها ما رواه مسلم عن سَبْرة الجهني ، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهره إلى الكعبة ثالث يوم من الفتح يقول : " أيها الناس إن كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة " . وانفراد سبرة به في مِثل ذلك اليوم مغمز في روايته ، على أنّه ثبت أنّ الناس استمتعوا . وعن علي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وجماعة من التابعين والصحابة أنّهم قالوا بجوازه . قيل : مطْلقاً ، وهو قول الإمَامية ، وقيل : في حال الضرورة عند أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن .
وروي عن ابن عباس أنّه قال : لولا أنّ عُمر نهى عن المتعة ما زنى إلاَّ شَفى . وعن عمران بن حصين في « الصحيح » أنه قال : « نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدَها آية تنسخها ، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال رجلٌ برأيه ما شَاء » يعني عُمر بن الخطاب حين نهى عنها في زمن من خلافته بعد أن عملوا بها في معظم خلافته ، وكان ابن عباس يفتي بها ، فلمّا قال له سعيد بن جبير : أتدري ما صنعتَ بفتواك فقد سارت بها الركبان حتّى قال القائل :
قد قلتُ للركب إذْ طال الثَّواءُ بنـا *** يا صاح هل لك في فتوى ابن عبّاس
في بَضَّةِ رخصةِ الأطراف ناعمةٍ *** تَكُونُ مثواكَ حتّى مَرْجعِ النـــاس
أمسك عن الفتوى وقال : إنّما أحللت مثل ما أحلّ الله الميتة والدم ، يريد عند الضرورة . واختلف العلماء في ثبات علي على إباحتها ، وفي رجوعه . والذي عليه علماؤنا أنّه رجع عن إباحتها . أمّا عمران بن حصين فثبت على الإباحة . وكذلك ابن عباس على « الصحيح » . وقال مالك : يُفسخ نكاح المتعة قبل البناء وبعد البناء ، وفسخه بغير طلاق ، وقيل : بطلاق ، ولا حدَّ فيه على الصحيح من المذهب ، وأرجح الأقوال أنّها رخصة للمسافر ونحوه من أحوال الضرورات ، ووجه مخالفتها للمقصد من النكاح ما فيها من التأجيل . وللنظر في ذلك مجال .
والذي يُستخلص من مختلف الأخبار أنّ المتعة أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، ونهى عنها مرتين ، والذي يفهم من ذلك أن ليس ذلك بنسخ مكرّر ولكنّه إناطة إباحتها بحال الاضطرار ، فاشتبه على الرواة تحقيق عذر الرخصة بأنّه نسخ . وقد ثبت أنّ الناس استمتعوا في زمن أبي بكر ، وعمر ، ثم نهى عنها عمر في آخر خلافته . والذي استخلصناه في حكم نكاح المتعة أنّه جائز عند الضرورة الداعية إلى تأجيل مدّة العصمة ، مثل الغربة في سفر أو غزو إذا لم تكن مع الرجل زوجهُ . ويشترط فيه ما يشترط في النكاح من صداق وإشهاد ووليّ حيث يُشترط ، وأنّها تبين منه عند انتهاء الأجل ، وأنّها لا ميراث فيها بين الرجل والمرأة ، إذا مات أحدهما في مدة الاستمتاع ، وأنّ عدّتها حيضة واحدة ، وأنّ الأولاد لاَحقون بأبيهم المستمتِع . وشذّ النحّاس فزعم أنّه لا يلحق الولد بأبيه في نكاح المتعة . ونحن نرى أنّ هذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة في نكاح المتعة ، وليس سياقها سامحا بذلك ، ولكنّها صالحة لاندراج المتعة في عموم { ما استمتعتم } فيُرجع في مشروعية نكاح المتعة إلى ما سمعتَ آنفاً .