ثم يبين لأمهات المؤمنين اختصاصهن بما ليس لغيرهن من النساء ؛ ويقرر واجباتهن في معاملة الناس ، وواجبهن في عبادة الله ، وواجبهن في بيوتهن ؛ ويحدثهن عن رعاية الله الخاصة لهذا البيت الكريم ، وحياطته وصيانته من الرجس ؛ ويذكرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ، مما يلقي عليهن تبعات خاصة ، ويفردهن بين نساء العالمين :
( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ، وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا . واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة . إن الله كان لطيفا خبيرا ) . .
لقد جاء الإسلام فوجد المجتمع العربي - كغيره من المجتمعات في ذلك الحين - ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتاع ، وإشباع الغريزة . ومن ثم ينظر إليها من الناحية الإنسانية نظرة هابطة .
كذلك وجد في المجتمع نوعا من الفوضى في العلاقات الجنسية . ووجد نظام الأسرة مخلخلا على نحو ما سبق بيانه في السورة .
هذا وذلك إلى هبوط النظرة إلى الجنس ؛ وانحطاط الذوق الجمالي ؛ والاحتفال بالجسديات العارمة ، وعدم الالتفات إلى الجمال الرفيع الهادئ النظيف . . يبدو هذا في أشعار الجاهليين حول جسد المرأة ، والتفاتاتهم إلى أغلظ المواضع فيه ، وإلى أغلظ معانيه !
فلما أن جاء الإسلام أخذ يرفع من نظرة المجتمع إلى المرأة ؛ ويؤكد الجانب الإنساني في علاقات الجنسين ؛ فليست هي مجرد إشباع لجوعة الجسد ، وإطفاء لفورة اللحم والدم ، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيين من نفس واحدة ، بينهما مودة ورحمة ، وفي اتصالهما سكن وراحة ؛ ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان ، وعمارة الأرض ، وخلافة هذا الإنسان فيها بسنة الله .
كذلك أخذ يعنى بروابط الأسرة ؛ ويتخذ منها قاعدة للتنظيم الاجتماعي ؛ ويعدها المحضن الذي تنشأ فيه الأجيال وتدرج ؛ ويوفر الضمانات لحماية هذا المحضن وصيانته ، ولتطهيره كذلك من كل ما يلوث جوه من المشاعر والتصورات .
والتشريع للأسرة يشغل جانبا كبيرا من تشريعات الإسلام ، وحيزا ملحوظا من آيات القرآن . وإلى جوار التشريع كان التوجيه المستمر إلى تقوية هذه القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع ؛ وبخاصة فيما يتعلق بالتطهر الروحي ، وبالنظافة في علاقات الجنسين ، وصيانتها من كل تبذل ، وتصفيتها من عرامة الشهوة ، حتى في العلاقات الجسدية المحضة .
وفي هذه السورة يشغل التنظيم الاجتماعي وشؤون الأسرة حيزا كبيرا . وفي هذه الآيات التي نحن بصددها حديث إلى نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وتوجيه لهن في علاقتهن بالناس ، وفي خاصة أنفسهن ، وفي علاقتهن بالله . توجيه يقول لهن الله فيه : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) .
فلننظر في وسائل إذهاب الرجس ، ووسائل التطهر ، التي يحدثهن الله - سبحانه - عنها ، ويأخذهن بها . وهن أهل البيت ، وزوجات النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأطهر من عرفت الأرض من النساء . ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل ممن عشن في كنف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبيته الرفيع .
إنه يبدأ بإشعار نفوسهن بعظيم مكانهن ، ورفيع مقامهن ، وفضلهن على النساء كافة ، وتفردهن بذلك المكان بين نساء العالمين . على أن يوفين هذا المكان حقه ، ويقمن فيه بما يقتضيه :
( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) . .
( لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) . . فأنتن في مكان لا يشارككن فيه أحد ، ولا تشاركن فيه أحدا . ولكن ذلك إنما يكون بالتقوى . فليست المسألة مجرد قرابة من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بل لا بد من القيام بحق هذه القرابة في ذات أنفسكن .
وذلك هو الحق الصارم الحاسم الذي يقوم عليه هذا الدين ؛ والذي يقرره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ينادي أهله ألا يغرهم مكانهم من قرابته ، فإنه لا يملك لهم من الله شيئا : " يا فاطمة ابنة محمد . يا صفية ابنة عبد المطلب . يا بني عبد المطلب . لا أملك لكم من الله شيئا . سلوني من مالي ما شئتم " .
وفي رواية أخرى : " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار . فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها " .
وبعد أن يبين لهن منزلتهن التي ينلنها بحقها ، وهو التقوى ، يأخذ في بيان الوسائل التي يريد الله أن يذهب بها الرجس عن أهل البيت ويطهرهم تطهيرا :
( فلا تخضعن بالقول ، فيطمع الذي في قلبه مرض ) . .
ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال ، ويحرك غرائزهم ، ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم !
ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير ؛ إنهن أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأمهات المؤمنين ، اللواتي لا يطمع فيهن طامع ، ولا يرف عليهن خاطر مريض ، فيما يبدو للعقل أول مرة . وفي أي عهد يكون هذا التحذير ? في عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جيمع الأعصار . . ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول ، وتترقق في اللفظ ، ما يثير الطمع في قلوب ، ويهيج الفتنة في قلوب . وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد ، وفي كل بيئة ، وتجاه كل امرأة ، ولو كانت هي زوج النبي الكريم ، وأم المؤمنين . وأنه لا طهارة من الدنس ، ولا تخلص من الرجس ، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس .
فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه . في عصرنا المريض الدنس الهابط ، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات ، وترف فيه الأطماع ? كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة ، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة ، ويوقظ السعار الجنسي المحموم ? كيف بنا في هذا المجتمع ، في هذا العصر ، في هذا الجو ، ونساء يتخنثن في نبراتهن ، ويتميعن في أصواتهن ، ويجمعن كل فتنة الأنثى ، وكل هتاف الجنس ، وكل سعار الشهوة ؛ ثم يطلقنه في نبرات ونغمات ? ! وأين هن من الطهارة ? وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث . وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين ? !
نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة ؛ وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة ؛ فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث . فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء ، ولا هذر ولا هزل ، ولا دعابة ولا مزاح ، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد .
والله سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات . كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق !
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك ، فقال مخاطبا لنساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] {[23381]} بأنهن إذا اتقين الله كما أمرهن ، فإنه لا يشبههن أحد من النساء ، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة ، ثم قال : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } .
قال السُّدِّي وغيره : يعني بذلك : ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال ؛ ولهذا قال : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي : دَغَل ، { وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا } : قال ابن زيد : قولا حسنًا جميلا معروفًا في الخير .
ومعنى هذا : أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم ، أي : لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.