32- ليس بأيدي المشركين مفاتيح الرسالة ، حتى يجعلوها في أصحاب الجاه ، نحن تولينا تدبير معيشتهم لعجزهم عن ذلك ، وفضلنا بعضهم على بعض في الرزق والجاه ، ليتخذ بعضهم من بعض أعواناً يسخرونهم في قضاء حوائجهم ، حتى يتساندوا في طلب العيش وتنظيم الحياة والنبوة وما يتبعها من سعادة الدارين خير من أكبر مقامات الدنيا .
فرد عليهم القرآن مستنكراً هذا الاعتراض على رحمة الله ، التي يختار لها من عباده من يشاء ؛ وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء ؛ مبيناً لهم عن حقيقة القيم التي يعتزون بها ، ووزنها الصحيح في ميزان الله :
( أهم يقسمون رحمة ربك ? نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون ) . .
أهم يقسمون رحمة ربك ? يا عجباً ! وما لهم هم ورحمة ربك ? وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً ، ولا يحققون لأنفسهم رزقاً حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه ؛ وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة .
( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ) . .
ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد ، وظروف الحياة ، وعلاقات المجتمع . وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها . تختلف من بيئة لبيئة ، ومن عصر لعصر ، ومن مجتمع لمجتمع ، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها . ولكن السمة الباقية فيه ، والتي لم تتخلف أبداً - حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع - أنه متفاوت بين الأفراد .
وتختلف اسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم . ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبداً . ولم يقع يوماً - حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة - أن تساوي جميع الأفراد في هذا الرزق أبداً : ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) . .
والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور ، وجميع البيئات ، وجميع المجتمعات هي :
( ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ) . .
ليسخر بعضهم بعضاً . . ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتما . وليس التسخير هو الاستعلاء . . استعلاء طبقة على طبقة ، أو استعلاء فرد على فرد . . كلا ! إن هذا معنى قريب ساذج ، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد . كلا ! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية ؛ وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجيء . . إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض . ودولاب الحياة يدور بالجميع ، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف . المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق . والعكس كذلك صحيح . فهذا مسخر ليجمع المال ، فيأكل منه ويرتزق ذاك . وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء . والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك ، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة . . العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل . والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل . وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء . . وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات ، والتفاوت في الأعمال والأرزاق . .
وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية . وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص ، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس ، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً !
وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق ، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه ! إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود ؛ الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع .
وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل ؛ والتفاوت في مدى اتقان هذا العمل . وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض . ولو كان جميع الناس نسخاً مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة . ولبقيت أعمال كثيرة جداً لا تجد لها مقابلاً من الكفايات ، ولا تجد من يقوم بها - والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو ، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها . وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق . . هذه هي القاعدة . . أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، ومن نظام إلى نظام . ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة . ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس ، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد . على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم . وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام الله . وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة .
ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا . ووراء ذلك رحمة الله :
( ورحمة ربك خير مما يجمعون ) . .
والله يختار لها من يشاء ، ممن يعلم أنهم لها أهل . ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا ؛ ولا صلة لها بقيم هذه الحياة الدنيا . فهذه القيم عند الله زهيدة زهيدة . ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار ، وينالها الصالحون والطالحون . بينما يختص برحمته المختارين .
وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث - لو شاء الله - لأغدقها إغداقاً على الكافرين به . ذلك إلا أن تكون فتنة للناس ، تصدهم عن الإيمان بالله :
قال الله تعالى رادا عليهم في هذا الاعتراض : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } ؟ أي : ليس الأمر مردودا إليهم ، بل إلى الله ، عز وجل ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا ، وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا .
ثم قال تعالى مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم ، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة ، فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ }
وقوله : { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } قيل : معناه ليسخر{[26027]} بعضهم بعضا في الأعمال ، لاحتياج هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، قاله السدي وغيره .
وقال قتادة والضحاك : ليملك بعضهم بعضا . وهو{[26028]} راجع إلى الأول .
ثم قال : { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } أي : رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.