( وأنه تعالى جد ربنا ، ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) . .
والجد : الحظ والنصيب . وهو القدر والمقام . وهو العظمة والسلطان . . وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام . والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله - سبحانه - وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة - أي زوجة - وولدا بنين أو بنات !
وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله ، جاءته من صهر مع الجن ! فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية في تسبيح لله وتنزيه ، واستنكاف من هذا التصور أن يكون ! وكانت الجن حرية أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون ! فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين ! وكل تصور يشبه هذه التصورات ، ممن زعموا أن لله ولدا سبحانه في أية صورة وفي أي تصوير !
وقوله : وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فآمنا به ولن نُشرك بربنا أحدا ، وآمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه وقُدرته . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا يقول : فعله وأمره وقُدرته .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا يقول : تعالى أمر ربنا .
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المُثّنى قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة في هذه الاَية : تَعالى جَدّ رَبّنا قال : أمر ربنا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن السديّ : تَعالى جَدّ رَبّنا قال : أمر ربنا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : تَعالى جَدّ رَبّنا ما اتّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَدا قال : تعالى أمره أن يتخذ ولا يكون الذي قالوا : صاحبة ولا ولدا ، وقرأ : قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدٌ اللّهُ الصّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلم يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أحَدُ قال : لا يكون ذلك منه .
وقال آخرون : عني بذلك جلال ربنا وذكره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قال عكرِمة ، في قوله : جَد رَبّنا قال : جلال ربنا .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثني خالد بن يزيد ، قال : حدثنا أبو إسرائيل ، عن فضيل ، عن مجاهد ، في قوله : وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا قال : جلال ربنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران عن سفيان ، عن سليمان التّيْمِيّ قال : قال عكرِمة : تَعالى جَدّ رَبّنا جلال ربنا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا : أي تعالى جلاله وعظمته وأمره .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله تعالى جَد رَبّنا قال : تعالى : أمر ربنا تعالت عظمته .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تعالى غنى ربنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : قال الحسن ، في قوله تعالى : جَدّ رَبّنا قال : غنى ربنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن الحسن تَعالى جَدّ رَبّنا قال : غنى ربنا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : تَعالى جَد رَبّنا قال : غِنَى ربنا .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا هشيم ، عن سليمان التيمي ، عن الحسن وعكرِمة ، في قول الله : وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا قال أحدهما : غناه ، وقال الاَخر : عظمته .
وقال آخرون : عَنِي بذلك الجدّ الذي هو أبو الأب ، قالوا : ذلك كان من كلام جهلة الجنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن أبي سارة ، عن أبيه ، عن أبي جعفر : تَعالى جَدّ رَبّنا قال : كان كلاما من جهلة الجنّ .
وقال آخرون : عُنِي بذلك : ذِكْره . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : تَعالى جَدّ رَبّنا قال : ذكره .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك : تعالت عظمة ربنا وقُدرته وسطانه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن للجدّ في كلام العرب معنيين : أحدهما الجَدّ الذي هو أبو الأب ، أو أبو الأم ، وذلك غير جائز أن يوصف به هؤلاء النفر الذين وصفهم الله بهذه الصفة ، وذلك أنهم قد قالوا : فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ومن وصف الله بأن له ولدا أو جدّا أو هو أبو أب أو أبو أمّ ، فلا شكّ أنه من المشركين . والمعنى الاَخر : الجَدّ الذي بمعنى الحظّ يقال : فلان ذو جدّ في هذا الأمر : إذا كان له حظّ فيه ، وهو الذي يُقال له بالفارسية «البَخْت » ، وهذا المعنى الذي قصده هؤلاء النفر من الجنّ بقيلهم : وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا إن شاء الله . وإنما عَنَوا أن حظوته من المُلك والسلطان والقدرة والعظمة عالية ، فلا يكون له صاحبة ولا ولد ، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطرّه الشهوة الباعثة إلى اتخاذها ، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوِقاع الذي يحدث منه الولد ، فقال النفر من الجن : علا مُلكُ ربنا وسُلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة ، أو وِقاع شيء يكون منه ولد .
وقد بين عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم إنما نزّهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله : وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا ما اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدا يقال منه : رجل جدّي وجديد ومجدود : أي ذو حظّ فيما هو فيه ومنه قول حاتم الطائي :
أُغْزُوا بني ثُعْلٍ فالغَزْوُ جَدّكُمُ *** عُدّوا الرّوَابي وَلا تَبْكُوا لِمَنْ قُتِلا
يُرَفّعُ جَدّكَ إنّي امْرُوٌ *** سَقَتْنِي إلَيْكَ الأعادِي سِجالا
وقوله : ما اتّخَذَ صَاحِبَةً يعني زوجة وَلا وَلَدا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله وأنّهُ تَعالى فقرأه أبو جعفر القارىء وستة أحرف أُخر بالفتح ، منها : إنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ وأنّهُ كان يَقُولُ سَفِيهُنا وأنّهُ كانَ رِجال مِنَ الإنْس وأنّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ وكان نافع يكسرها إلا ثلاثة أحرف : أحدها : قُلْ أُوحِيَ إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ والثانية وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا ، والثالثة وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ . وأما قرّاء الكوفة غير عاصم ، فإنهم يفتحون جميع ما في آخر سورة النجم وأوّل سورة الجنّ إلا قوله فَقالُوا إنّا سمِعْنا ، وقوله : قالَ إنّمَا أدْعُو رَبّي وما بعده إلى آخر السورة ، وأنهم يكسرون ذلك غير قوله : لِيَعْلَمَ أنْ قَدْ أبْلَغُوا رِسالاتِ رَبّهِمْ . وأما عاصم فإنه كان يكسر جميعها إلا قوله : وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ فإنه كان يفتحها ، وأما أبو عمرو ، فإنه كان يكسر جميعها إلا قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ فإنه كان يفتح هذه وما بعدها فأما الذين فتحوا جميعها إلا في موضع القول ، كقوله : فَقالُوَا إنّا سَمِعْنا وقوله : قالَ إنّمَا أدْعُو رَبّي ونحو ذلك ، فإنهم عطفوا أن في كلّ السورة على قوله فآمنا به ، وآمنا بكلّ ذلك ، ففتحوها بوقوع الإيمان عليها . وكان الفرّاء يقول : لا يمنعنك أن تجد الإيمان يقبح في بعض ذلك من الفتح ، وأن الذي يقبح مع ظهور الإيمان قد يحسن فيه فعل مضارع للإيمان ، فوجب فتح أنّ كما قالت العرب :
إذَا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْما *** وزَجّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعُيُونا
فنصب العيون لاتباعها الحواجب ، وهي لا تزجج ، وإنما تكحل ، فأضمر لها الكحل ، كذلك يضمر في الموضع الذي لا يحسن فيه آمنّا صدّقنا وآمّنا وشهدنا . قال : وبقول النصب قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ فينبغي لمن كسر أن يحذف «أن » من «لو » لأن «أن » إذا خُففت لم تكن حكاية . ألا ترى أنك تقول : أقول لو فعلت لفعلت ، ولا تدخل «أن » . وأما الذين كسروها كلهم وهم في ذلك يقولون : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا فكأنهم أضمروا يمينا مع «لو » وقطعوها عن النسق على أوّل الكلام ، فقالوا : والله أن لو استقاموا قال : والعرب تدخل «أن » في هذا الموضع مع اليمين وتحذفها ، قال الشاعر :
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ *** سِوَاكَ وَلَكِنَ لَمْ نَجدْ لَكَ مَدْفَعا
أمَا وَاللّهَ أنْ لَوْ كُنْتَ حرا *** وَما بالْحُرّ أنْتَ وَلا العَتِيقِ
وأدخل «أن » من كسرها كلها ، ونصب وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ فإنه خصّ ذلك بالوحي ، وجعل وأنْ لَوْ مضمرة فيها اليمين على ما وصفت . وأما نافع فإن ما فتح من ذلك فإنه ردّه على قوله : أُوحِيَ إليّ وما كسره فإنه جعله من قول الجنّ . وأحبّ ذلك إليّ أن أقرأ به الفتح فيما كان وحيا ، والكسر فيما كان من قول الجنّ ، لأن ذلك أفصحها في العربية ، وأبينها في المعنى ، وإن كان للقراءات الأُخر وجوه غير مدفوعة صحتها .
هذا محكي عن كلام الجن ، قرأه الجمهور بكسر همزة { إنه } على اعتباره معطوفاً على قولهم : { إنَّا سمعنا قرآنا عجباً } [ الجن : 1 ] إذ يجب كسر همزة ( إنَّ ) إذا حكيت بالقول .
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة على أنه معطوف على الضمير المجرور بالباء في قوله : { فآمنَّا به } [ الجن : 2 ] أي وآمنا بأنه تعالى جَد ربنا . وعدم إعادة الجار مع المعطوف على المجرور بالحرف مستعمل ، وجوزه الكوفيون ، على أن حرف الجر كثير حذفه مع ( أنّ ) فلا ينبغي أن يختلف في حذفه هنا على هذا التأويل .
قال في « الكشاف » : { أنه استمع } [ الجن : 1 ] بالفتح لأنه فاعل أوحي ( أي نائب الفاعل ) { وإنَّا سَمِعنا } بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول ثم تحمل عليهما البواقي فما كان من الوحي فُتح وما كان من قول الجن كُسر ، وكُلّهن من قولهم ، إلاّ الثنتين الأخريين : { وأن المساجد لله } [ الجن : 18 ] ، { وأنه لما قام عبد الله } [ الجن : 19 ] ومن فتح كُلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في { ءامنا به } [ الجن : 2 ] كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جَدّ ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي اهـ .
والتعالي : شدة العلوّ ، جعل شديد العلوّ كالمتكلف العلوّ لخروج علوّه عن غالب ما تعارفه الناس فأشبه التكلُف .
والجَدّ : بفتح الجيم العظمة والجلال ، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله : { ما اتخذ صاحبة ولا ولَداً } ، لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها ، وكل ذلك من آثار الاحتياج ، والله تعالى الغني المطلق ، وتعالِي جَدّه بغناه المطلق ، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به ، مع ما يقتضيه من انفصاله من أجزاء والديه وكل ذلك من الافتقار والانتقاص .
وضمير { إنه } ضمير شأن وخبره جملة { تعالى جد ربنا .
وجملة { ما اتخذ صاحبة } إلى آخرها بَدل اشتمال من جملة { تعالى جد ربنا .
وتأكيد الخبر ب ( إن ) سواء كانت مكسورة أو مفتوحة لأنه مسوق إلى فريق يعتقدون خلاف ذلك من الجن .
والاقتصار في بيان تَعالِي جدِ الله على انتفاء الصاحبة عنه والولد ينبىء بأنه كان شائعاً في علم الجن ما كان يعتقده المشركون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وما اعتقاد المشركين إلاّ ناشىء عن تلقين الشيطان وهو من الجن ، ولأن ذلك مما سمعوه من القرآن مثل قوله تعالى : { سبحانه أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } في سورة الأنعام ( 101 ) .
وإعادة { لا } النافية مع المعطوف للتأكيد للدلالة على أن المعطوف منفي باستقلاله لدفع توهم نفي المجموع .
وضمير الجماعة في قوله : { ربنا } عائد إلى كل متكلم مع تشريك غيره ، فعلى تقدير أنه من كلام الجن فهو قول كل واحد منهم عن نفسه ومن معه من بقية النفر .